الفسلفة والعقاب

1-                  : الدراسات الفلسفية الإغريقية الحق في العقاب
     أدى ظهور الفلسفات الإغريقية القديمة ، وخاصة على يد أفلاطون وتلميذه أرسطو ، إلى تطوير الأساس المتعلق بالحق في العقاب. فبعد أن كان الحق في العقاب حتى هذه المرحلة يمتزج بالطابع الديني ، بحيث ينظر للعقوبة على أنها محاولة لاسترضاء الآلهة ، بدأ ظهور طابع أخر للعقاب هو الطابع السياسي المتمثل في المحافظة على النظام الاجتماعي. فالجريمة ليست فقط إساءة للقوى الإلهية ولكنها أيضاً تمثل اضطراباً اجتماعياً.

وعلى هذا الأساس فقد نادى أفلاطون بمبدأ شخصية العقوبة ، وأن يكون من بين أهداف العقوبة الردع على أمل توقي المجتمع شرور الجريمة في المستقبل. وهى ذات المبادئ التي نادى بها أرسطو محاولاً جعل غرض إصلاح الجاني من بين أهداف الجزاء الجنائي إلى جانب الردع كوظيفة أساسية. أي أن العقوبة استهدف بها تحقيق أمرين هما الردع والإصلاح[1].
  
2-                  ثانياً : الفكر والدراسات الكنسية :
     كان لدخول المسيحية أرجاء الإمبراطورية الرومانية واعتبارها الدين الرسمي لها أثره على النظرة للحق في العقاب. فكان لهذه الديانة الفضل في المناداة بالمساواة بين الناس في العقاب ، الأمر الذي كانت تنكره بعض الشرائع والتي كانت تخص الأسياد بعقوبات تختلف عما يطبق على العبيد (كالإعدام مثلاُ الذي خصص كعقوبة للعامة من الناس وللعبيد).

وعلى أثر الدراسات الكنسية بدأت العقوبة تستند إلى مبدأ التكفير عن الخطيئة المتمثلة في الجريمة. هذا التكفير لا يستهدف الانتقام من الجاني بل محاولة تطهير نفسه وتهذيبه وإصلاحه. من هنا كان بداية ظهور الأساس الإصلاحي والتهذيبي للجزاء الجنائي. الأمر الذي استوجب تعزيز الدراسات التي تهتم بشخص المجرم والعوامل الداخلية للنفس الآثمة. لذا فلا عجب أن ظهور فكرة المسئولية الفردية والإثم الجنائي والخطأ والإسناد كان يرجع إلى الفكر الكنسي.

إلا أنه رغم هذا الأثر الإيجابي للفكر الكنسي فإنه يظل لتلك الفترة من حياة الإنسانية آثارها السلبية ، التي نشأت بفعل جمع رجال الكنيسة بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية وإدخالهم في عداد الجرائم كل ما يمس المصالح الدينية والعقاب عليها بأشد وأبشع العقوبات ، حتى ولو كان الأمر لا يخرج عن كونه نوع من الفكر الإنساني. فظهر ما نسميه في أيامنا هذه الإرهاب الفكري تحت مسميات عديدة كالهرطقة L’hérésie ، والزندقة La blasphème  ، وانتهاك المحرمات Le sacrilège. كما أتخذ الدين في تلك الفترة ستاراً للتخلص من الخصوم السياسيين والمفكرين الذين يحفزون العامة على الخروج على سلطة الكنيسة. لذا فلم تفلح دعوات رجال الكنيسة ومفكريها المطالبة بالإقلال من قسوة العقوبات المفرطة.

ولقد استمر الحال هكذا أبان العصور الوسطى وظهور الملوك الذين يستندون في حكمهم إلى مبدأ التفويضي الإلهي ، والذين لجئوا لتدعيم حكمهم إلى إضفاء المزيد من القسوة على العقوبات واستخدام أبشع الوسائل في تنفيذها. فجعلت عقوبة الإعدام وبتر الأعضاء عقوبة لجرائم الخيانة وعدم الولاء للملك والهروب من الجيش ، وكلها جرائم تهدف إلى تدعيم سلطان الدولة والحكم. ولهذا غلب في مجال العقاب طابع الردع على طابع الإصلاح ، الأمر الذي أدى إلى تطبيق العقوبة أحياناً على صغار السن وعلى المكره وعلى المجانين والحيوانات وجثث الموتى[2]. بل وتوارى مبدأ المساواة الذي حاولت المسيحية تدعيمه. ففي تلك الفترة كانت العقوبات تختلف باختلاف المركز الاجتماعي للجاني وكذلك تختلف وسيلة التنفيذ. كل هذا كان يدعمه ما يتمتع به القضاة من سلطة مطلقة في التجريم والعقاب.


[1] B. Bouloc, Pénologie, op. cit., p. 5.
[2] وهو الأمر الذي عرف في القرن الخامس عشر في فرنسا. راجع
Esmien, Histoire du droit français, Paris, 1925, p. 33 et s.


Post a Comment

أحدث أقدم