عمومية العقوبة الجنائية La généralité de la peine :
يقصد بعمومية العقوبة المساواة فيها ، أي سريانها في حق
جميع الأفراد دون الأخذ في الاعتبار لتفاوتهم من حيث المكانة الاجتماعية. وهذا ما
يسمى في الفقه الجنائي الحديث بمبدأ المساواة في العقاب L’égalité de la punition ، وهو مبدأ لم تكن تعرفه الشرائع القديمة حيث كانت تختلف العقوبات
التي توقع على الأشراف عن تلك التي توقع على العبيد. وهذا المبدأ يستمد عموماً من القواعد الكلية للقانون ، التي
توجب أن تتصف قاعدة القانون بالعمومية والتجريد.
ولقد حثت الشريعة الإسلامية الغراء على تلك المساواة والعمومية لقول
سيدنا رسول الله "إنما أهلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف
تركوه
، وإذا
سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"[1].
غير أنه لا يوجد تعارض بين هذا المبدأ
وبين ما يخوله المشرع للقاضي من امكانية إعمال قواعد التفريد العقابي ، أو ما يسمى بالتفريد القضائي. فالمساواة والعمومية في العقوبة
لا تعني وجوب تطبيق ذات العقوبة على كل من يرتكب جريمة من
نوع معين. فالقاضي له أن يعمل سلطته التقديرية في وزن العقوبة حسب ظروف
الجريمة الموضوعية (المتعلقة بمادياتها) والشخصية (المتعلقة بشخص الجاني).
فالمساواة في العقاب تعني أن القاعدة العقابية إذا كانت
تقدر عقاباً مشدداً أو مخففاً ، أو تقدر عقاباً بين حد أدنى وحد أقصى ، فإن
تلك الأمور تنطبق
على الكافة وللكل أن يستفيد من ذات القاعدة.
قضائية العقوبة الجنائية :
إذا كانت شرعية العقاب تعني أن يترك للمشرع وحده أمر تحديد
العقوبة كماً ونوعاً ، فإن قضائية هذه
الأخيرة تنصرف
إلى أن يترك للقاضي وحده أمر تطبيقها. وهذه الضمانة تعد تطبيقاً
لمبدأ الفصل
بين السلطات في مجال القانون الجنائي La séparation des pouvoirs. فالعقوبة بحسبانها نوعاً من الألم وانتقاص للأحد الحقوق
اللصيقة بالشخصية الجوهرية ، كان لابد من أن يوكل أمر تطبيقها إلى جهة محددة
يتوافر بشأنها ضمانات الحيدة والنزاهة والاستقلال. وهو ما يوجب بداءة أن تكون جهة التطبيق محددة سلفاً في التشريع ، لا أن تخلق خلقاً لمواجهة جرم ما بعينه.
ولهذه الضمانة قيمتها الدستورية في النظام القانوني
المصري ، حيث نصت المادة 66/2 من دستور
1971 على أنه "… لا توقع
عقوبة إلا بحكم قضائي". وفى ضوء ذلك اعتمد قانون الإجراءات الجنائية
في مادته 459 ذات المبدأ حين نص على أنه "لا يجوز توقيع العقوبات المقررة
بالقانون لأية جريمة إلا بمقتضى حكم صادر من محكمة مختصة
بذلك".
وهو ما يستتبع ألا يترك لجهة الإدارة أو بعض الفنيين سلطة تطبيق العقوبات. وغني عن البيان أن القاضي عند تطبيقه للعقوبة يلتزم بذات
الالتزامات التي تتفرع عن مبدأ الشرعية والتي أوضحناها سالفا.
شخصية العقوبة الجنائية :
يقصد بشخصية العقوبة الجنائية La
personnalité de la peine عدم جواز توقيعها إلا على الجاني نفسه مرتكب الواقعة الإجرامية ،
فاعلاً كان أم شريكاً. فالمسئولية الجنائية شخصية ، لا
تضامن فيها ، والعقوبة التي تترتب على قيامها لها ذات السمة الشخصية. فلا يجب أن
تمتد العقوبة أو أثرها - بحسب الأصل وكأمر مقصود - إلى أشخاص آخرين خلاف الجاني ، كأفراد أسرته أو ورثته أو من يربطهم به صله ما.
وهذا المبدأ يعد من ركائز التشريع الجنائي المعاصر حيث لم يكرس تشريعياً إلا من عهد قريب. ففي الشرائع
القديمة كانت للعقوبة أثراً ممتداً ، يصيب الجاني نفسه وأفراد
أسرته. ففي ظل القانون الفرنسي القديم ، كانت عقوبة التآمر ضد الملك أو الحكومة هى
الإعدام والمصادرة لأموال المتآمر وأفراد أسرته ونفيهم خارج البلاد[2]. وكان هذا هو الحال القائم في التشريع
المصري في فترة سريان قانون المنتخبات وقبل الإصلاح القضائي
في عام 1883 ، فكان العقاب يمتد ، بالإضافة إلى فاعل الجريمة ، إلى شيخه أو على القائممقام حسب الأحوال (م21 من قانون المنتخبات)
[3]. ولقد مضت تلك العهود إلى غير رجعة وأصبح مستقراً أن المسئولية الجنائية شخصية ولا
تمتد إلى فعل الغير ، وأن العقوبة التي تتولد عنها شخصية ولا تمتد إلى غير الجاني ، حتى ولو كانت العقوبة الجنائية
تافهة (كالغرامة البسيطة مثلا). وهذا الأمر هو ما حرص الدستور المصري في المادة
66/1 على التأكيد عليه عندما قال "العقوبة شخصية".
كما رددته محكمة النقض المصرية في عبارات بليغة عندما قالت : "من المبادئ الأساسية في العلم الجنائي أن لا تزر وازرة وزر أخرى ، فالجرائم لا يؤخذ
بجريرتها غير جناتها ، والعقوبات شخصية محضة ، لا تنفذ إلا في نفس من أوقعها
القضاء عليه. وحكمة هذا المبدأ أن الإجرام لا يحتمل الاستنابة في المحاكمة وأن العقاب لا يحتمل
الاستنابة في التنفيذ"[4].
ولقد سبقت الشريعة الإسلامية الغراء المشرع الوضعي بكل طبقاته في التأكيد على هذا
المبدأ. فقد قال رب العزة "ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه وكان الله
عليماً حكيماً ، ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً"[5]. ويقول المولى عز وجل "كل نفس
بما كسبت رهينة"[6]. ويقول الحكم العدل " ومن
اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى
نبعث رسولا"[7].
ولما كانت العقوبة شخصية فإن من الطبيعي أنه إذا توفى المتهم من قبل الحكم عليه وأثناء نظر
الدعوى فإن تلك الأخيرة تنقضي بوفاة المتهم ، وإذا ما توفى بعد الحكم وقبل
التنفيذ ، سقط الحكم وامتنع التنفيذ. كذلك فإن المشرع المصري يمنع تنفيذ حكم الإعدام على
المرأة الحامل حتى إلى ما بعد شهرين من الوضع (م 476 إجراءات جنائية) ، حتى لا
يؤخذ الوليد بذنب أمه.
ولا يخل بمبدأ شخصية العقوبة كون تلك الأخيرة قد تُحدث في بعض الحالات الفردية أثاراً غير مباشرة تمتد إلى غير الجاني
أو المحكوم عليه. فمثلاً كون حكم الإعدام الذي نفذ على
شخص قد حرم أسره من عائلها الوحيد الذي كان ينفق عليها لا يعني أن مبدأ الشخصية قد تم المساس به ، فهذه
آلام غير مقصودة من المشرع أو من القاضي[8].
[1] رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود
والنسائي عن عائشة. راجع نيل الأوطار ، شرح منتقى الأخيار من أحاديث سيد الأخيار ،
لمحمد بن على بن محمد الشوكاني ، ج7 ، مطبعة البابي الحلبي ، ط1 ، 1371هـ ، ص131. وكان الحال في مصر قبل الإصلاح القضائي
عام 1883 التفرقة في العقاب بين "العلماء الفخام والسادات الكرام وأصحاب
الرتب وبين أواسط الناس والسوقة" ، د. محمد عيد الغريب ، المرجع
السابق ، ص58.
[2] وهذا ما حدث بالفعل في عهد الملك هنري الرابع Henri IV عام 1610 عندما اغتيل من أحد رعاياه ، يدعى رافيال Ravaillac ، حيث
امتد العقاب لأفراد أسرة هذا الأخير. وقد حدث أيضاً أن جرح الملك لويس الخامس عشر Louis XV في واقعة اعتداء من شخص يدعى دميان Damiens في يناير
عام 1757فحكم عليه بالإعدام وتم نفي أفراد أسرته وأخبر أشقائه على تغيير لقب
العائلة. راجع د. عبد الفتاح الصيفي ، المرجع السابق ، ص 8 وما بعدها. ولتفصيل
حول هاتين الواقعتين راجع :
Les grands procès, sous la
direction de N. Laneeyrie-Dagen, éd. Larousse, 1995, p. 92 et s ; p. 128 et s.
[3] د. محمد عيد الغريب ، المرجع السابق ، ص 56.
[4] راجع نقض جنائي 20 نوفمبر 1930 ، مجموعة
القواعد القانونية ، ج2 ، رقم 104 ، ص106 ، وكذلك نقض جنائي 5 مارس 1931 ، مجموعة
القواعد القانونية ، ج2 ، رقم 196 ، ص 255 ، نقض جنائي 14 مايو 1972 ، مجموعة
أحكام النقض ، س42 قضائية ، رقم 156 ، ص696.
[7] سورة الإسراء ، آية 15.
Post a Comment