ملاحظات على الإدارة الأمريكية لأزمة الصواريخ الكوبية
1-
إن الدرس الأول الذي يمكن استخلاصه من أزمة الصواريخ الكوبية، يعد بمثابة تأكيد
جديد للدور الذي يلعبه حدث الأزمة في تصحيح المفاهيم الخاطئة، وبالتالي تعديل
سياسات صانع القرار ، لكي تتلاءم مع المفاهيم الجديدة، ومن ثم تصبح أكثر قرباً من
الواقع. والثابت أن قرارات كل من الزعيمين الأمريكي والسوفيتي قد بنيت على تصورات
خاطئة لكل منهما عن الطبيعة الحقيقية للآخر.
فلقد
اعتقد الرئيس كنيدي أن خروشوف رجل حكيم وفطن وحذر وحريص لذلك على احترام الأوضاع
الراهنة في العلاقات بين القوتين العظميين، ومدركا للعواقب المأساوية المترتبة على
تحديها أو محاولة تغييرها. وأن كل هذه الصفات سوف تحول بينه وبين اتخاذ أية
إجراءات تتسم بالرعونة أو التهور، مثل نصب صواريخ سوفيتية في كوبا. بينما اعتقد
خروشوف أن كنيدي ليس إلا غرا، قليل التجربة، ومن ثم عاجزاً عن اتخاذ القرارات
الحاسمة على نحو ما كشفت عنه عملية خليج الخنازير،
ومن ثم فإن في استطاعته أن ينصب
صواريخه في كوبا دون أن يتعرض لرد حاسم من جانب الولايات المتحدة.
فما هي الأسباب التي أدت إلى تكوين كلٍ منهما
لمفاهيم خاطئة عن الآخر؟
السبب
الأول: في تقديرنا – هو ما قد يجوز تعريفه ب "
الطرد التلقائي للمعلومات غير المرغوب فيها"، والمتمثل في الرفض الفكري
لهذه المعلومات، وهو أخطر ما يبتلى به التقدير السليم للأمور. واستجابة لهذه
النزعة تجاهل الرئيس كنيدي ومستشاروه بعض المؤشرات التي ما كان يجب تجاهلها. من
قبيل ذلك ما وصل إليهم من معلومات عن تحرك قافلة بحرية سوفيتية متجهة إلى كوبا تم
رصدها في شهر سبتمبر 1962، وكان من المتصور في ذلك الحين أنها تحمل شحنات من
الأخشاب إلى كوبا ( وغرابة هذا المنطق تتمثل في عدم وجود حاجة ملحة لكوبا
الاستوائية إلى مثل هذه الأخشاب تتطلب تخصيص قافلة كاملة لها على اتساع المسافة
بين الإتحاد السوفيتي وبينها!) ولقد ثبت فيما بعد أن شحناتها كانت من الصواريخ
السوفيتية المتطورة للغاية.
وقبل
ذلك رصدت طائرات الاستطلاع الأمريكية من طراز U–2 زيادة ملحوظة في عدد
السوفيت في كوبا، وعملا يجرى على قدم وساق في إقامة قواعد صواريخ "SAM" هناك. ولكن السفير السوفيتي في واشنطن " أناتولي
دوبرينين " نجح في تبديد شكوك " روبرت كنيدي " حول نوايا السوفيت (
كيف استطاع ذلك !!! ). ولقد ساعد على نجاح مهمة السفير السوفيتي، انه لم يكن هناك
شخص واحد في النخبة المحيطة بالرئيس كنيدي، ولا حتى الرئيس نفسه يتصور أن يقدم
السوفيت على مثل هذا العمل الأرعن الذي يمثل تهديداً مباشراً للولايات المتحدة.
( منطق مرفوض في تصور الطبيعة العقلانية
للسلوك السياسي ).
ولو
كانت إدارة كنيدي لم تبالغ في تقديرها لحكمة السلوك السوفيتي وعقلانيته، لكرست
المزيد من اهتماماتها لتمحيص الدلالات المنطقية وراء رحلة القافلة البحرية
السوفيتية إلى كوبا، وزيادة عدد السوفيت المضطردة في هذه الدولة، ومغزى إقامة
قواعد صواريخ (SAM)على أراضيها، ولأمكنها
اكتشاف الصواريخ السوفيتية في كوبا في وقت مبكر عن ذلك الذي اكتشفتها فيه.
إن
سلوك الإدارة الأمريكية هذا، المتمثل في الطرد التلقائي للمعلومات غير المرغوب
فيها، يمكن تعريفه أيضاً ب " منطق الحالة النفسية"
"Psycho-Logic"
والذي يميل إلى محاولة رؤية الحقائق بمنظار الميول النفسية وحده، فيتقبل منها ما
يتفق مع هذه الميول، ويتجاهل ما يتعارض معها.
وبالنسبة
لتطبيق هذه الظاهرة على حالة الرئيس كنيدي نجد أنه كان يرغب – آنذاك – في الوصول
إلى مصالحة مع الإتحاد السوفيتي، وتحقيق الانفراج في علاقاته السياسية معه.
أما
بالنسبة لخروشوف فقد أدت ثلاثة أحداث هامة إلى إقناعه بافتقار الرئيس كنيدي إلى
الإدارة والحزم اللازمين:
أولهما : عملية خليج الخنازير،
فقد كان تقدير خروشوف أن تصرف كنيدي حيال فشل هذه العملية هو الفيصل في تقدير قوته
الحقيقية، ولما تردد كنيدي في التدخل لإنقاذها من المصير المؤسف الذي انتهت إليه،
آمن خروشوف بأن كنيدي رجل تعوزه الخبرة والحزم اللازمين، ومن ثم فإنه من السهل
ابتزازه وإرهابه.
أما
الواقعة الثانية: فقد كانت خلال مؤتمر " فينا
" الذي عقد في يونيو عام 1961، حيث رد كنيدي على تهديدات خروشوف العاصفة بعقد
معاهدة سلام سوفيتية منفردة مع ألمانيا الشرقية، بالحديث عن مخاطر الحسابات
الخاطئة التي قد تؤدي إلى حدوث المواجهة بين القوتين العظميين، مما زاد خروشوف
اقتناعاً بعزوف خصمه عن مواجهة التحديات. وأخيراً أدى إحجام كنيدي عن هدم
الجدار الذي أقامه خروشوف بين برلين الشرقية وبرلين الغربية في أغسطس 1961 إلى
ترسيخ اعتقاده بعدم استعداد كنيدي لاتخاذ قرارات هامة تنطوي على مواجهة المخاطر.
وباختصار
تميزت مرحلة ما قبل الأزمة بتحكم تصورات الزعيمين الأمريكي والسوفيتي، وما كونه كل
منهما من انطباعات خاطئة عن الآخر، بأكثر مما فعلت الحقائق.
2-
أما مرحلة الأزمة ذاتها، فيمكن تقسيمها إلى مرحلتين فرعيتين متميزتين:
تبدأ
المرحلة الأولى من 14 أكتوبر – 22 أكتوبر، أي بعد اكتشاف
الصواريخ الكوبية، وحتى خطاب الرئيس كنيدي الذي ينذر فيه بفرض العزل البحري (
الحصار البحري ) على كوبا. وقد تميزت هذه المرحلة بمحاولة إدارة الرئيس كنيدي
معالجة هذه الأزمة في نطاق السرية التامة.
وفي
خلال هذه المرحلة اتخذ الرئيس كنيدي ثلاثة قرارات هامة نتيجة لتغيير مفاهيمه عن
خروشوف تحت تأثير الأزمة، حيث أكدت له هذه خطأ تصوراته عن عقلانية خروشوف وحكمته، وأثبتت له أن خروشوف لا يتورع عن
المجازفة.
ومع
ذلك فإنه يمكن وضع حد للميل إلى المجازفة عند خروشوف، عندما يتأكد من أن الولايات
المتحدة لن تتورع عن الدخول في مواجهة مع الإتحاد السوفيتي إذا لم يقم بسحب
صواريخه من كوبا.
وإزاء
هذا المفهوم الجديد الذي تكشف لكنيدي عن شخصية خروشوف قرر مواجهته برد وسط، لا
إفراط فيه ولا تفريط. وذلك حتى لا يستفز الإفراط روح المجازفة عند خروشوف، ولا
يغريه التفريط بالتمادي في هذه المجازفة. وكان القرار الأول الذي اتخذه كنيدي هو
استشارة أكبر عدد ممكن من مساعديه من ذوي التخصصات المختلفة، وتوسيع نطاق عضوية
مجلس الأمن القومي (NSC) بتشكيل اللجنة التنفيذية
لمجلس الأمن القومي، بعد أن تعلم من فشل عملية "خليج الخنازير" والذي
اعتمدت قراراته فيها على تقارير وكالة المخابرات المركزية وحدها، ألا يركن إلى
تقدير جهة معلومات واحدة في اتخاذ قراراته، كما اتخذ كنيدي في هذه المرحلة
أخطر قراراته، وهو فرض الحزام الوقائي (الحصار البحري) على كوبا. وقد جاء هذا
القرار بعد تقويم كافة البدائل الأخرى على النحو الذي سلفت الإشارة إليه، وكان
كنيدي قد رفض البديل الأول وهو: "عدم القيام بأي عمل على الإطلاق"، وذلك
على الرغم من قناعته بأن وجود الصواريخ السوفيتية في كوبا لن يخل – من الناحية
الواقعية- بالتوازن الإستراتيجي القائم بين القوتين العظميين، وإن كان من الممكن
أن يخل به من الناحية الشكلية، وخاصة فيما يتعلق بهيبة الولايات المتحدة، وهو
الأمر الذي أشار إليه كنيدي بقوله:" وحتى لو اقتصر الأمر على مجرد الشكل، فإن
المظاهر كثيراً ما ترتبط في أذهان الناس بالحقيقة". وأعاد تأكيد ذلك بقوله
" لو اكتفينا بالوقوف مكتوفي الأيدي في مواجهة هذا التحدي، فلسوف نحكم على
أنفسنا بالموت أمام العالم".
وقد
رفض بديل القيام بضربة باترة لأنه لا يرغب – على حد تعبير شقيقه روبرت كنيدي – أن
يبدو أمام العالم، وبخاصة الرأي العام الأمريكي، بمظهر (توجو) الستينات.
وتوجو
هذا كان رئيس وزراء اليابان الذي اتخذ قرار ضرب بيرل هاربر في عام 1941، وأصبح
اسمه منذ ذلك الحين فصاعداً صنواً للغدر والطعن في الظهر.
وكان
القرار الثالث الذي اتخذه كنيدي – في هذه المرحلة – نابعاً أيضاً من مفهومه الجديد
لنوايا خصومه، حيث اعتقد أن خروشوف يريد أن يضع الولايات المتحدة أمام الأمر
الواقع، فإذا لم يتخذ إجراءات حاسمة في مواجهة وجود الصواريخ السوفيتية في كوبا،
فسوف تبدو أمام العالم عاجزة عن الرد. وإذا اتخذت مثل هذا الإجراء فقد تواجه برد
سوفيتي قوي عليه سواءً في برلين، أو تركيا، أو على الأقل بإدانة الرأي العام
العالمي للإجراء الأمريكي في الأمم المتحدة. ولذلك قرر كنيدي أن يقلب المائدة على
خروشوف، بأن يسبقه بإعلان فرض الحصار البحري على كوبا علانية في خطابه الذي ألقاه
يوم 22 أكتوبر.
أما
المرحلة الفرعية الثانية للازمة، والتي تقع ما بعد يوم 22 أكتوبر حتى نهاية
الأزمة، فقد اتخذ فيها كنيدي ثلاثة قرارات علانية هي:
·
رفض
طلب يوثانت بوقف العزل البحري ( الحصار البحري ) على كوبا، وإرسال شحنات أسلحة
سوفيتية إليها، وقد وافق الإتحاد
السوفيتي على هذا الطلب، بينما أصر كنيدي على
رفضه حتى لا يؤدي قبوله لمثل هذا الطلب إلى تخفيف شدة الضغط الدبلوماسي والعسكري
على خروشوف، ولإقناع الأخير بإصرار الولايات المتحدة على موقفها.
·
ولتنفيذ
قرار العزل البحري اقترحت هيئة الأركان المشتركة أن ترابط وحدات الأسطول الأمريكي
المكلفة بتنفيذ قرار العزل على مسافة تبعد 500 ميلاً من الشواطئ الكوبية، وذلك حتى
تكون خارج مرمى قاذفات الميج السوفيتية المرابطة في كوبا. إلا أنه عندما وردت
المعلومات باقتراب الأسطول السوفيتي من
المواقع التي اقترحتها هيئة الأركان المشتركة، بحيث أصبح لقاء الأسطولين وشيكاً،
اقترح السفير البريطاني، الذي شارك في اجتماعات اللجنة التنفيذية لمجلس الأمن
القومي، التغاضي عن اعتبارات سلامة الأسطول، ونصح بتراجعه إلى ما وراء هذه المواقع
لتطول المسافة الفاصلة بين الأسطولين، مما يتيح لصانع القرار السوفيتي المزيد من
الوقت لمراجعة موقفه، ومحاولة تجنب الصدام، بدلاً من أن يؤدي اللقاء الوشيك
للأسطولين إلى دفعه مرغماً إلى قبول المواجهة، حيث لا يمكنه التراجع في هذه الحالة
بدون أن يفقد ماء وجهه.
وقد
أخذ كنيدي برأي السفير البريطاني، وتغاضى عن رأي هيئة الأركان المشتركة، ويشير بول
نيتز مساعد وزير الدفاع الأمريكي – آنذاك – إلى هذه الواقعة بقوله:" لقد كان
تفكيرنا في ذلك الحين أن أخطر احتمالات المواجهة تكمن في اعتراضنا لسفينة سوفيتية
تحاول اختراق الحصار، حيث كان من المشكوك فيه ألا يرد خروشوف على ذلك".وفي
يوم 25 أكتوبر اقتربت القافلة السوفيتية من خط الحصار الأمريكي تتقدمها ناقلة
البترول بوخارست، ومع ذلك سمح الرئيس
كنيدي لهذه الناقلة وحدها أن تمر من بين سفن الحصار، وذلك على الرغم من أن البترول
كان على قائمة الممنوعات المحظور مرورها. وقد سمح كنيدي بذلك على الرغم من اقتراح
البعض من فريق إدارة الأزمة بأن يتم تفتيشها، وكان هدفه من ذلك ألا يضع خروشوف في
مأزق لا يجد أمامه مخرجاً منه إلا باستخدام القوة.
·
أما
أهم القرارات التي اتخذها كنيدي أبان هذه المرحلة، فهو قبوله لخطاب خروشوف
المعتدل، وتجاهله لخطابه المتشدد لتسوية الأزمة. والحقيقة أن خروشوف كان يرغب في
الوصول إلى تسوية وتجنب المواجهة، ولكنه كان يجهل رد الفعل الأمريكي على اقتراحه
هذا، فإذا كان الرد إيجابياًَ، فإن بوسعه أن يزعم أن خطابه المعتدل يعبر عن موقفه
اللاحق، أما إذا جاء هذا الرد سلبياً، وحاول الأمريكيون التشهير به، والادعاء بأنه
أجفل وتراجع أمام تهديداتهم مستخدمين خطابه ذا اللهجة المعتدلة، فإنه يستطيع حينئذ
أن يؤكد أن ميوله السلمية كانت قبل تطور الأمور التي أدت إلى قيام الولايات
المتحدة بفرض العزل البحري على كوبا، وأنه بعد حدوث هذه التطورات اتخذ موقفاً متشدداً
على نحو ما يتضح من خطابه الآخر، زاعماً بأنه قد وجه خطابه المعتدل قبل الحصار لا
بعده، وهكذا فإن الحيلة التي لجأ إليها خروشوف للحفاظ على ماء وجهه لم تغب عن
إدراك كنيدي، ومن ثم قام هذا الأخير بالرد على الخطاب المعتدل متجاهلاً الخطاب
المتشدد ليفسح مجالاً بذلك الطريق لخروشوف للتراجع بدون أن يفقد ماء وجهه.
ولقد
أكدت أزمة الصواريخ الكوبية من جديد الأهمية الفائقة لدور الاتصالات في إدارة
الأزمات، والضرورة الملحة لفتح قنوات اتصال مباشرة وفورية بين موسكو وواشنطن،
ومن ثم فتح الخط الساخن بين العاصمتين، وهو الخط الذي أثبت فاعليته في تمكين
الدولتين من وقف تصعيد الموقف بينهما أثناء أزمتي الشرق الأوسط في عامي 1967،
1973.
كما
أكدت واقعة ملاحظة عدم تدوين تاريخ خطابي خروشوف إلى كنيدي، سالف الإشارة إليهما،
الأهمية الخاصة التي يجب أن تولى لأدق التفصيلات التي قد تطرأ على أسلوب الخصم
في التعامل أثناء الأزمة، وتجنب إغفالها مهما بدت هذه التغيرات عابرة، أو
محدودة الأهمية.
Post a Comment