نماذج من إدارة الأزمات في الممارسة العملية
المقدمة:
وجدت إدارة الأزمات في الممارسة منذ عصور موغلة في القدم. وكانت مظهراً من مظاهر التعامل الإنساني مع المواقف الطارئة أو الحرجة، التي واجهها الإنسان منذ أن جوبه بتحدي الطبيعة وغيره من البشر، ولم تكن تعرف آنئذ – بطبيعة الحال – باسم إدارة الأزمات وإنما تحت مسميات أخرى مثل الحنكة الدبلوماسية، أو براعة القيادة، أو حسن الإدارة... الخ، وكانت هذه الممارسة هي المحك الحقيقي لقدرة الإنسان على مواجهة الأزمات والتعامل مع المواقف الحرجة بما تفجره من طاقات إبداعه، وتستفز قدراته على الابتكار.
 هذه القدرات الخاصة جعل منها تشارلس رووتر في كتابه " فن الدبلوماسية "الأصل في نشأة الدبلوماسية بفرض مؤداه أن قبيلتين اقتتلتا زمناً طويلا، حتى أوشك الفناء أن يبيدهما معا، وفي هذه اللحظة الحرجة من تطور الإنسانية ينشط الذكاء العاطل، وتتفتق القريحة الخاملة عن حلول عبقرية تحت ضغط الحاجة إلي تحقيق المعادلة الصعبة، وهي تجنب الفناء، وتجنب الهزيمة في آن واحد، فاختارت إحدى القبيلتين من بين أبنائها أكثرهم حكمة، وأربطهم جاشاً وأوسعهم حيلة، وأوفدتهم إلى القبيلة الأخرى في أول مهمة سلام عرفها الإنسان، كان هذا الوفد يرتدي ملابس مزركشة زاهية الألوان، وقد تجرد أعضاؤه من الأسلحة التي اعتادوا حملها، وارتسمت علي وجوههم ابتسامات ودودة مسالمة، فأحجم أفراد القبيلة الأخرى عن الانقضاض عليهم، وتهشيم رؤوسهم بهراواتهم الحجرية، وأدركوا أن هؤلاء القادمين يختلفون عن غيرهم من المحاربين، ليس بالزى والملامح فقط، وإنما بالنوايا أيضا، وهكذا نجحت أول مهمة سلام في التاريخ.
وما يعنينا في هذا المثال: أن الجماعات الإنسانية قد اهتدت في وقت مبكر من تاريخها إلى أسلوب آخر، غير أن أسلوب الصراع البدائي يمكنها أن تستمر في تطورها من خلاله، وانه إذا كان مبدأ البقاء للأقوى، قد ساد المراحل من نشأتها، بحيث كان بعضها يتوقف علي فناء البعض الآخر منها، في نزاعها علي المراعي أو عيون الماء، فقد اكتشفت في مرحلة لاحقة أن اقتسام كسرة الخبز مع الغير أفضل من الصراع من اجل الاستئثار بها كلها، معرضة بذلك نفسها لخطر الفناء.[1]
أمثلة الأزمات كثيرة جدا.... ولكن، ارتأى الباحث في هذا المبحث أن يضع بين يدي القاريء ثلاثة نماذج من الأزمات، أولها الأزمة التي عايشها سيدنا يوسف عليه السلام في مصر، والتي أرخها لنا القرآن الكريم، ثم الأزمة التي عايشها الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة أثناء غزوة الأحزاب، وفي النهاية تحدث الباحث باستفاضة عن أزمة الصواريخ الكوبية سنة 1962.
وللحق فإن الباحث يعتقد أن أي إنسان يريد أن يفهم إدارة الأزمة وخاصة على المستوى الدولي، يجب عليه أن يقرأ بتمعن كيف أديرت أزمة الصواريخ الكوبية، فهي من أفضل النماذج على الإطلاق في هذا المجال.
الأزمة الاقتصادية في مصر في عصر يوسف عليه السلام

وقعت هذه الأزمة في مصر في عهد يوسف عليه السلام، لمدة سبع سنوات سميت بالسنوات العجاف، لعدم نزل المطر وقلة منسوب مياه النيل التي تعتمد عليه الزراعة في مصر لإشباع حاجات الإنسان الضرورية.
الإنذار:
بدأ التنبؤ بالأزمة من رؤيا رآها ملك مصر ولم بجد أعوان الملك من يفسرها إلا يوسف الصديق عندما تذكر ساقي الملك يوسف في السجن  (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ).[2]
ففسرها يوسف عليه السلام بسنوات رخاء وسنوات جدب، ووضع لهم العلاج بأن يخزنوا المحصولات في سنوات الرخاء وهم السبع الأول ليمكنهم من توزيعه في السنوات الجدب، ثم نبأهم بان السنة الخامسة عشر ستكون رخاءً وهذا لم يأت في رؤيا الملك.
يقول الحق: (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ).[3]
ومعنى ذلك انه ينبغي للمصريين أن يجدوا ويتقنوا العمل كدأبهم أي كعادتهم، وهذه شهادة لأهل مصر أنهم جادون ملتزمون مقدسون للعمل منذ الأزل ويضاعفون العمل الجاد المستمر حتى يكون المحصول كبيراً يكفى للاستهلاك الآدمي والتخزين، ثم يدعون القمح في السنابل حتى لا يأكله السوس أو يتعفن فلا يصلح للاستهلاك بعد ذلك، وذلك أن حنطة مصر ونواحيها لا تبقى أكثر من عامين إلا بحيلة إبقائها في السنابل فإذا بقيت فيها حفظت ويكون قصبها علفاً للدواب، فلما فسر لهم يوسف عليه السلام الرؤيا طلبه الملك وولاه على خزائن الأرض ليعالج الأزمة بما لديه من علم في إدارة الأزمات واحتوائها ومعالجتها والخروج منها دون حدوث مجاعة أو خسائر بشرية أو مادية.[4]
 الاستعداد:
·       التحديد الكمي: كان الملك يأخذ عشر ناتج ما يفضل من النفقات والمؤن لنوائب الدهر وهو أول من وضع مقياساً للنيل بمنف.[5]
·       بناء المخازن: أمر يوسف ببناء المخازن الكبيرة حتى يمكن حفظ كمية كبيرة من سنابل القمح والشعير فيها.
تقول التوراة: وخزن يوسف قمحاً كرمل البحر كثيراً جداً.[6]
الاحتواء:
لما أجدبت الأرض في السنوات العجاف ذهب المصريون إلي المخازن ليشتروا القمح الذي خزن بقيادة يوسف عليه السلام في السنوات الخضر، كل فرد له نصيب محدد، حتى يكفي أهل مصر ومن جاورها من البلاد،
تقول التوراة: وابتدأت سني الجوع في جميع البلدان، أما جميع أرض مصر فكان فيها خبز .، وفتح يوسف جميع ما فيه من طعام وباع للمصريين. [7]
يقول القرضاوى: ما قدمتم لهن ما يدل على أن ما استهلك إنما يتم بحساب وتقدير، فهم الذين يقدمون وهذا دليل القصر، وفيه دليل على مشروعية تدخل الدولة لتقييد الاستهلاك في أيام الشدائد حفاظاً على الموارد القليلة.[8]  
ويدل شراء إخوة يوسف للقمح على انتفاع جيران مصر بالمخزون:
(وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ، وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ).[9]
وكان يوسف يقدر كيلاً لكل فرد: (يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ)[10] ، أي أن كل فرد كان له قدر معين، ويستلزم ذلك إحصاء الأفراد وتدوين أسمائهم في الديوان، وحضارة مصر تستوعب كل ذلك فهم أول من دون المعلومات عن المعارك وأعمال الملوك والرعية والرحلات التجارية على الأحجار رسماً أو كتابة، كما ضبطوا الموازين والمكاييل " أني أوفي الكيل". والنقد.
استعادة النشاط:
وفي السنة الخامسة عشر نزل المطر كم تنبأ يوسف عليه السلام: (فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)[11] ،وعاد المصريون إلى الزراعة ثم جني المحاصيل والقيام ببعض الصناعات كعصر الزيوت والعنب والزهور بعد أن كانت الصناعات قد توقفت أثناء الأزمة في السنوات العجاف، وقد استمروا كما كانوا في بناء الحضارة.
التعلم:
·       أدركوا أهمية التوحيد.
·       آمنوا بالرسل.
·       تكونت لديهم خبرة في معالجة الأزمات.
·       تعلموا أن للدورة الزراعية وجهان: رواج وجدب.
·       حددوا الأهداف قبل القيام بالأعمال.
·       خططوا للأعمال قبل تنفيذها.
·       لاحظوا ودرسوا الظواهر ودونها.
·       وضعوا مقياساً للنيل ولاحظوا وعرفوا من قياسه سنوات الفيضان من عدمه للاستعداد لها.
·       أدركوا أن قيادة الأزمة تحتاج إلى قائد له صفات محددة كالعلم والحفظ والأمانة والصدق.
·       تعاونوا وتكافلوا في الأزمة.
وللحق فإن الفوائد التي نستنبطها من هذه الأزمة كثيرة جداً قد لا يتسع المجال هنا لحصرها لذلك نكتفي بما سبق.



[1] العماري، عباس رشدي، 1993، مرجع سابق، ص ص ( 51 - 52 ).
[2] سورة يوسف، 46.
[3] سورة يوسف ، 47 ، 48 ، 49 .
[4] الشيخ، سوسن سالم:" نماذج من إدارة الأزمات في القرآن الكريم"، القاهرة، مجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي، جامعة الأزهر، 2003، ص ص ( 237 – 238 ).
[5] المقريزي، الخطط، القاهرة، بدون تاريخ، ص ( 92 )
[6] سفر التكوين، الإصحاح 41.
[7] سفر التكوين، الإصحاح41 .
[8] القرضاوي ، يوسف:" دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي"، بيروت، الرسالة، 1996، ص 266.
[9] سورة يوسف، 58، 59.
[10] سورة يوسف، 65.
[11] سورة يوسف، 49.

Post a Comment

أحدث أقدم