مفردات
التنمية بلغة دينية
لعلنا
لا نجد في التراث الديني تعبيرا عن مسائل التنمية بالألفاظ المتداولة حاليا،وقد
يصرف ذلك البعض عن الأخذ من الدين بما يخدم في تناول قضايا التنمية التي هي محل
عناية ودراسة على صعيد أممي،لكن المقاربات اللفظية يمكن لها أن تعدل من نظرتنا
لقضايا التنمية في النصوص الدينية.
صحيح
أننا قد لا نجد ألفاظا في ما بين أيدينا من مصادر دينية،وإسلامية بوجه
خاص(باعتبارنا مسلمين) تتناول التنمية بنفس لفظة التنمية والألفاظ المستخدمة
للتعبير عنها،لكن البحث عن ألفاظ قريبة أو ربما أوسع في مدلولاتها اللفظية
والدلالية في هذه المصادر يمنحنا إمكانية كبيرة للاستفادة من هذه المصادر لتناول
قضايا التنمية،واكتشاف أن مسائل التنمية ليست وليدة الاهتمام من قبل الإنسان في
خمسينيات القرن الماضي وبدايات هذا القرن،بل هي محل عناية واهتمام من قبل الرسل
والأنبياء وأوصيائهم والقادة الدينيين،إن لم تكن هي الهدف من إرسال الرسل بعد
عبادة الله سبحانه وتعالى.
وما هو جدير بالعناية والاهتمام ونحن ندرس
موضوع التنمية،
إن نستثمر الثروة الهائلة من التراث الديني والتجارب الدينية الضخمة
في مجالات التنمية،بغية اختصار الكثير من الجهود والإمكانيات والزمان لتحقيق
الأهداف التنموية التي تسعى إليها البشرية اليوم،سواء عبر برامج الأمم المتحدة
الإنمائية أو عبر الجهود التي تبذل في كل بلد على حدة بغية التنمية والارتقاء.
الألفاظ
التي نجدها تحمل معنى التنمية في القرآن الكريم متعددة،ومراجعة الآيات التي وردت
فيها هذه الألفاظ تلقي الضوء على شديد اهتمام الأديان بمسائل التنمية،والإسلام
بوجه خاص باعتباره خاتم الأديان السماوية،وهذا ما يسمح لنا بالقول أن قضية التنمية
قضية دينية بالدرجة الأولى.
من
هذه الألفاظ لفظة التزكية،ولفظة الإحياء،ولفظة الفلاح،وفيما يلي إلقاء الضوء على
بعض الآيات التي وردت فيها هذه الألفاظ أو مشتقاتها ،بغية استنباط علاقة هذه
الألفاظ بموضوع التنمية ومن ثم اكتشاف الأفاق الدينية التي يمكن لنا استثمارها في
معالجة قضايا التنمية،بما يتوافق والمناخ
الثقافي والاجتماعي في بيئتنا،لنتوقف هنا مع ثلاث آيات من القرآن الكريم تضمنت هذه
الكلمات الثلاث،يمكن لنا التعرف من خلالها على المنظور الديني لقضايا التنمية:
1/قوله
تعالى:"يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم"24/الأنفال.
2/قوله
تعالى:"هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم
الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ظلال مبين"2/الجمعة.
3/قوله
تعالى:"ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين،الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون
الصلاة ومما رزقناهم ينفقون،والذين يؤمنون بما انزل إليك وما انزل من
قبلك،وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم،وأولئك هم
المفلحون"2-5/البقرة.
ويكفي
في هذا البحث أن نتوقف مع هذه الآيات لاكتشاف الاهتمام الديني بموضوع
التنمية،ويكون التفصيل في البحث الموسع عن الدين وقضايا التنمية"إذا قدر الله
لي أن يكون أطروحتي للدكتوراه"،إذا شاء الله لي التوفيق في انجازه.
3/الإحياء
والتنمية
نستفيد من
مقاربة معنى الإحياء ،ودلالتها على مواضيع التنمية من خلال ما ذكره المفسر الكبير للقرآن
الكريم العلامة محمد حسين الطباطبائي،في
كتابه الميزان،في تفسيره للآية الأولى المذكورة أعلاه،حيث ذكر أن "الحياة
أنعم نعمة وأعلى سلعة يعتقدها الموجود الحي لنفسه كيف لا؟ وهو لا يرى وراءه إلا
العدم والبطلان، وأثرها الذي هو الشعور والإِرادة هو الذي ترام لأجله الحياة
ويرتاح إليه الإِنسان ولا يزال يفر من الجهل وافتقاد حرية الإِرادة والاختيار، وقد
جهز الإِنسان وهو احد الموجودات الحية بما يحفظ به حياته الروحية التي هي حقيقة
وجوده كما جهز كل نوع من أنواع الخليقة بما يحفظ به وجوده وبقاءه.وهذا الجهاز
الإِنساني يشخِّص له خيراته ومنافعه،
ويحذِّره من مواطن الشر والضر،
..وهذا هو الذي
يصر عليه القرآن الكريم أن الإِنسان لا يخفى عليه ما فيه سعادته في الحياة من علم
وعمل، وأنه يدرك بفطرته ما هو حق الاعتقاد والعمل، وهذه الأمور التي تدعو إليها
الفطرة الإِنسانية من حق العلم والعمل لوازم الحياة السعيدة الإِنسانية وهي الحياة
الحقيقية التي بالحري أن تختص باسم الحياة، والحياة السعيدة تستتبعها كما أنها
تستلزم الحياة وتستتبعها.
فإذا انحرف الإِنسان عن سوي الصراط الذي تهديه إليه الفطرة الإِنسانية وتسوقه إليه الهداية الإِلهية، فقد فقد لوازم الحياة السعيدة من العلم النافع والعمل الصالح، ولحق بحلول الجهل وفساد الإِرادة الحرة والعمل النافع بالأموات ولا يحييه إلا علم حق وعمل حق، وهما اللذان تندب إليهما الفطرة وهذا هو الذي تشير إليه الآية التي نبحث عنها: { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم }.
فإذا انحرف الإِنسان عن سوي الصراط الذي تهديه إليه الفطرة الإِنسانية وتسوقه إليه الهداية الإِلهية، فقد فقد لوازم الحياة السعيدة من العلم النافع والعمل الصالح، ولحق بحلول الجهل وفساد الإِرادة الحرة والعمل النافع بالأموات ولا يحييه إلا علم حق وعمل حق، وهما اللذان تندب إليهما الفطرة وهذا هو الذي تشير إليه الآية التي نبحث عنها: { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم }.
واللام في قوله:
{ لما يحييكم } بمعنى إلى، وهو شائع في الاستعمال، والذي يدعو إليه الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم هو الدين الحق وهو الإِسلام الذي يفسره القرآن الكريم بإتباع
الفطرة فيما تندب إليه من علم نافع وعمل صالح.
4/التزكية
والتنمية
وردت
لفظة التزكية في عدد من المواضع في القرآن الكريم،ومن خلال التتبع اللغوي لهذه
اللفظة كما أكد عليه مفسرو القرآن الكريم،فإنها تعني أمرين،الأول وهو التطهير من
القذارة المادية والمعنوية،والثاني هو التنمية والارتقاء،وهي بذلك لفظة تختزن
بداخلها لفظة التنمية.
ومن
الموافقة أن تستعمل التزكية في الجانب الاقتصادي،حيث تعني بالمعنى الاصطلاحي
الضريبة المالية التي فرضت على مجموعة من الأمور التي منها المكاسب التي يحصل
عليها الإنسان وتسمى الزكاة،وان تستخدم أيضا للتطهير الذاتي والمجتمعي من كل ما من
شأنه التلويث وإلحاق القذارة سواء في الجانب المادي أو المعنوي،مثل ما وجدنا كيف
أن استخدام مصطلح التنمية بدأ أولا من خلال النظرة الاقتصادية حيث نظر للتنمية
باعتبارها ارتفاع نسبة الدخل القومي العام،ثم تطورت النظرة للتنمية باعتبارها
الأخذ بكل الأسباب التي من شانها الارتقاء بحياة الإنسان بما فيها طهارة
مائه"المياه الصالحة للاستخدام البشري"وطاهرة جوه من التلوث وما له شان
بسلامة البيئة.
وهنا
نشير إلى ما ذكره بعض المفسرين بشأن الآية المباركة أعلاه التي تضمنت لفظة
التزكية،حيث أنها أوضحت أن من أهداف بعثة النبي محمد (ص) تزكية الناس،وبمفهومنا
تنميتهم،بما للتنمية من سعة.
"هو
الذي بعث في الأميين رسولا منهم، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة
وان كانوا من قبل لفي ظلال مبين"2/الجمعة.
قال
في مجمع البيان:يزكيهم يطهرهم من الكفر والذنوب،ويدعوهم إلى ما يصيرون به
ازكياء،وفي الميزان قال:"التزكية تفعيل من الزكاة بمعنى النمو الصالح الذي يلازم الخير
والبركة فتزكيته لهم تنميته لهم نماء صالحاً بتعويدهم الأخلاق الفاضلة والأعمال
الصالحة فيكملون بذلك في إنسانيتهم فيستقيم حالهم في دنياهم وآخرتهم يعيشون سعداء
ويموتون سعداء."
ومثل هذا الكلام
لا يفترق عن كلامنا عن التنمية ومواضيعها،وبذلك يمكن لنا البحث في آيات الزكاة
ومشتقاتها لنستفيد منها بصيرة واضحة في الرؤية القرآنية لقضايا التنمية.
إرسال تعليق