صناعة الأزمة:
الأزمة ليست فقط وليدة تفاعل ذاتي، وإنما أيضاً هي عملية يمكن صناعتها، وصناعة الأزمة تخضع لأساليب علمية تتولى خلق المناخ الفكري والظروف المناسبة لتفجير الأزمة المفتعلة، وتعبئة كافة الأدوات والوسائل الدافعة والمؤيدة والمحفزة لذلك.
وصناعة الأزمات فن مستحدث للسيطرة على الآخرين، وإخضاعهم وابتزازهم.
ويتم افتعال الأزمات عن طريق برنامج زمني محدد الأهداف والمراحل التي يمكن توضيحها فيما يلي:
  مرحلة الإعداد لميلاد الأزمة:
ويطلق عليها البعض مرحلة التمهيد للأزمة، نظراً لأنها تقوم على تهيئة المسرح الأزموي لافتعال الأزمة، وإيجاد وزرع بؤرتها في الكيان الإداري، وإحاطتها بالمناخ والبيئة  التي تكفل نموها وتصاعدها. وأهم الخطوات التنفيذية التي تتم في هذه المرحلة ما يلي:
·       استخدام الضغوط الاتصالية على الكيان الإداري وحلفائه لإفقاده توازنه، ودفعه رويداً رويداً إلى حافة الهاوية، ومن خلال حسابات الفعل وردود الفعل القائمة على دراسة متأنية لسيكولوجية متخذ القرار في الكيان الإداري المزمع إحداث الأزمة فيه.
·       تشويه حقيقة القائمين على الكيان الإداري وإطلاق الشائعات المبنية على حقائق جزئية، والأكاذيب المدعمة للشائعات،وتصويرهم على أنهم فاقدو الأهلية والرشاد، وأنهم خطر على الأمن والاستقرار، أو أنهم مجرمون خطرون على المجتمع الدولي والشعوب.
·       كسب المؤيدين لأي تدخل عنيف ضد الكيان الإداري، سواء من خلال الإعلام المكثف المصاغة والمعدة رسائله بشكل ممتاز، أو من خلال شبكة المصالح والارتباطات، أو من خلال تسريب المعلومات المغلوطة أو الحقيقية، أو هي جميعاً.[1]

3/2/2-  مرحلة إنماء وتصعيد الأزمة:
ويطلق عليها البعض مرحلة التعبئة الفاعلة والمكثفة للضغط الأزموي، وحشد كل القوى المعادية للكيان الإداري المستهدف نيله بالأزمات العنيفة، حيث يتم اصطياد هذا الكيان ووضعه في فخ
الأزمة ومن خلال مجموعة متكاملة من التكتيكات يظهرها لنا الشكل التالي:

وهي تكتيكات قد تستخدم في شكل بدائل، أو في شكل متكامل مع بعضها البعض، وفقاً لحجم الكيان الإداري المستهدف نيله بالأزمات، واستنزافه، وحله بشكل مخطط خبيث، وبشكل متصاعد متنام
ويتم التصعيد بموجب ثلاثة تكتيكات خطيرة هي:
تكتيك التصعيد الرأسي:
وهي تقوم على الدفع المباشر لقوى صنع الأزمة وزيادة قدرتها وقوتها، وتكثيف تواجدها في منطقة صنع الأزمنة، و بشكل سريع متعاظم لتأكيد التفوق الكاسح لقوى صنع الأزمة ولعدم تمكين الطرف الآخر من التقاط الأنفاس، والرضوخ للتهديد الصريح العلني للقوة الضاغطة لقوى صنع الأزمة، وزيادتها ونموها ذاتياً مع الوقت.
تكتيك التصعيد الأفقي:
ويقوم على كسب مزيد من الأصدقاء والحلفاء والمؤيدين لقوى صنع الأزمة، وانضمامهم لها في عملية زيادة الضغط الأزموي، واتساع وتوسيع نطاق المواجهة لتشمل مجالات جديدة ومناطق جديدة، وأبعاداً جديدة متسعة، تجعل من عملية مواجهة الأزمة عملية معقدة وصعبة تستنزف الكيان الإداري الذي تم صنع الأزمة لديه، وتقوض دعائمه وتهدم أركانه وبنيانه.
تكتيك التصعيد الدائري المتراكم:
وهذا النوع من التكتيكات ذات الطبيعة الخاصة التي تستخدم في صناعة الأزمات بشكل فعال لزيادة الضغط الأزموي، وإرباك الطرف الأخر إرباكاً شديداً. حيث يتم التصعيد للأزمة باستخدام كافة الأدوات والوسائل، والتخفيف مرحلياً، والتصعيد بشكل كامل كما يوضحه لنا الشكل التالي:

حيث يتم التصعيد بشكل متكامل ومتنام لفترة يعقبها مرحلة تجميد، وبعد التجميد يتم التصعيد مرة أخرى، وهكذا.
 وتستخدم هذه الطريقة في الأزمات الدولية ذات الطبيعة الخاصة، التي من خلالها يتم إرهاق وإرباك الكيان الإداري المستهدف نيله بالأزمة، وتخويخ هيكله، وضعضعة عناصره وإفقاده الثقة بقيادته، وفوق كل هذا إحداث حالة من التفسخ واليأس والإحباط وبشكل يدفع أفراد هذا الكيان إلى أعمال طائشة هوجاء، وتدفع بالقوى المعارضة الكامنة تحت السطح، أو تحت الأرض في الخفاء إلى الظهور العلني، والتحرك بشكل سريع ومؤثر لاستثمار الخلل في هذا الكيان، ومن ثم زيادة هذا الخلل وتوسيع نطاقه وإجبار الخصم على التقهقر والتسليم بالمطالب التي تطالب بها، والاستجابة لها بشكل كامل.
وأياً ما كان فإن عملية تصعيد وإنماء الأزمة يجب أن تدرس بعناية، وفي ضوء الحساب الختامي المتوقع لها، خاصة في إطار احتمالات قيام الخصم بتصعيد مماثل ومتقابل في هذه العملية.
 وفي هذه المرحلة يتم استخدام أدوات مادية ذات تأثير مباشر على التصعيد الأزمة، من خلال:
·       قطع المساعدات وفرض الحصار الاقتصادي على الكيان الإداري، سواء كان دولة أو مؤسسة أو شركة، أو حتى أسرة، وإحداث إرباك مالي ونقدي وعيني، وإشعار كافة المستفيدين من هذه المساعدات بأهمية التخلص من الأفراد الذين يعارضون سياستنا، أو من القيادة التي استنفذت الغرض منها.
·       استخدام الوثائق والمستندات الحقيقية، أو ذات التزوير المتقن لتأكيد صدق الشائعات السابق إطلاقها في المرحلة الأولى، وتسريب بعض منها إلى أجهزة الإعلام الدولية الواسعة الانتشار.
·       افتعال الأحداث وتنميتها وتصعيدها بشكل كبير لإيجاد المبرر للتدخل العنيف ضد الكيان الإداري، أو ضد قيادة هذا الكيان.[2]
3/2/3-  مرحلة المواجهة العنيفة والحادة:
وهي تلك المرحلة التصادمية بين الكيان المنشئ للازمة، والكيان المطلوب صنع الأزمة فيه أو له.
ويشترط لنجاح هذه المرحلة ما يلي:
·       اختيار التوقيت غير المناسب للكيان الخصم المراد تحطيمه أو استنزافه بالأزمات. وعلى أن يمثل في ذات اللحظة الوقت المناسب لنا لافتعال الأزمة.
·       اختيار المكان غير المناسب للخصم، والذي فيه لا يستطيع السيطرة على الأحداث أو على تداعياتها، ويكون لنا فيه القدرة على توجيه الأحداث والسيطرة عليها.
·       اختيار المجال غير المناسب للخصم لإحداث الأزمة فيه، سواء كان هذا المجال اقتصادياً، أو سياسياً، أو اجتماعيا، أو ثقافياً... الخ، والذي نملك فيه القدرة على تحريك قوى الفعل وإدارة الأزمة.
ويشترط لنجاح التصادم حدوث حادث معين، يطلق عليه حادث ( × ) الذي يكون بداية الشرارة وانطلاق اللهيب، ويفضل أن يكون هذا الحادث طبيعياً عفوياً أو تلقائياً، فإذا لم يتوافر هذا الحادث، كان علينا أن نوفره، وبشكل يبدو تلقائياً عفوياً.
3/2/4-  مرحلة السيطرة على الكيان الإداري للخصم:
وهي مرحلة الاستفادة من حالة انعدام الوزن لدى الخصم، وعدم قدرته على الحكم على الأمور، وتعرضه للاستهواء، ومن ثم من خلال العناصر التي تم زرعها لديه، والمحيطة به يمكن توجيهه بالشكل المطلوب، ومن ثم إفقاده القدرة على الرؤية الذاتية، وفي الوقت نفسه تخليه عن أهدافه الأصلية التي كان يتجه إليها، واستبدال هذه الأهداف بأهداف جديدة تتناسب معنا، بل وربطه بعلاقات تبعية يصعب عليه الفكاك منها، أو الخروج عنها، ما لم يتحمل تكاليف باهظة لا يقدر على دفع ثمنها.
3/2/5-  مرحلة تهدئة الأوضاع:
وهي المرحلة التي يتم فيها تخفيض الضغط الأزموي، وإعادة الأوضاع إلى حالتها الطبيعية، واستخدام أساليب التعايش الطبيعي، والتخفيف من حدة التوتر القائم على الضغط الأزموي، والاستجابة الهامشية لبعض مطالب الطرف الثاني، والتي تكون بمثابة امتصاص لقوى الرفض والاستثارة الداخلية لديه، وفي الوقت نفسه إعطاء الفرصة كاملة للقوى المؤيدة لنا للسيطرة عليه، وإحكام عملية توجيه، وفي الوقت ذاته استخدام الحكمة الكاملة في امتصاص كل غضب جماهيري، والاستعانة بقادة الرأي والفكر المعتدلين والموالين لنا، وفي إطار حملة إعلامية مخططة ومدروسة جيدا، يتم إعادة الأمور إلى حالتها الطبيعية، بعد أن تم تكييفها بالشكل المناسب لمصالحنا ورغباتنا وأهدافنا البعيدة المدى.
3/2/6-  مرحلة سلب وابتزاز الطرف الآخر:
ويطلق عليها البعض مرحلة جني المكاسب والغنائم والمغانم، والتي يتم فيها حلب الخصم كما تحلب البقرة الحلوب تماماً، وبالتالي يتم في هذه المرحلة حصد نتائج الجهود المثمرة التي تمت في المراحل السابقة، ويتخذ جني المكاسب عادة جانبين، هما:
·       جانب سلبي في إجبار الطرف الآخر على الامتناع عن القيام بأي عمل من شأنه تهديد مصالحنا.
·       جانب إيجابي في إقناع الطرف الآخر بالقيام بعمل معين من شأنه تقوية مصالحنا ومكاسبنا.[3]
ومن هنا، فإن الإدارة بالأزمات هي افتعال الأزمات الحادة وليس علاجها.
 وتقوم عملية افتعال الأزمة على عدة قواعد أساسية، هي:
·       خلق علاقة تبعية وانقياد وسيطرة على الكيان المزمع افتعال الأزمة فيه، حتى يمكن جني المكاسب المستهدفة من وراء افتعال الأزمة، وفي الوقت نفسه لضمان عدم اتساع رد الفعل إلى مدى وأبعاد غير مطلوبة.
·       زرع مجموعة عناصر موالية تتولى مواقع حساسة في أجهزة الكيان الإداري، يمكنها في الوقت المناسب إعاقة حركة الكيان، وتوجيه قادته، وتقليل رد فعل وبشاعة افتعال الأزمة.
·       اختيار التوقيت المناسب الذي يكون افتعال الأزمة مؤثراً فيه، وقدرة العناصر الموالية لنا على توجيه متخذ القرار وإفقاد التأثير الأزموي للازمة مرتفعة، ومن ثم القدرة على امتصاص التأثير الأزموي وابتلاعه.
·       إيجاد المسار البديل في شكل مصلحة جانبية يحرص الكيان الإداري على الحصول عليها، وفي سبيلها يمكن أن يتغاضى عن الأزمة التي تم افتعالها، أو يمكن للعناصر الموالية توجيه سلوكه بها.
·       افتعال الأزمة بشكل سريع ومؤثر، وجني مكاسبها وتحقيق الهدف منها، ثم عقد لقاء امتصاص مع متخذ القرار في الكيان الإداري الذي حدثت فيه الأزمة، وذلك بهدفين، هما:
o      هدف خفي، وهو التحقق من النتائج التي أفرزتها الأزمة المفتعلة، ومن استقرار علاقة التبعية مع الكيان الإداري، وعدم تأثرها بالأزمة.
o      هدف علني، وهو امتصاص الانفعال، وتجديد الروابط، وتنقية العلاقات، وفتح صفحة جديدة، ونسيان ما مضى.
 وتستخدم في ذلك مجموعة إدعاءات ومبررات، من بينها:
·       الشرعية.
·       الاضطرار.
·       الحتمية.
·       التنبيه للخطر.
·       الحفاظ على الاستقرار.
·       الحفاظ على الأمن.
·       الحفاظ على السلام.
·       حماية النفس والدفاع عنها وعن المصالح.[4]
ومن الجدير بالذكر أنه على مستوى الوحدة الاقتصادية يستخدم بعض متخذي القرار أساليب الإدارة بالأزمات بشكل متعمد، عندما يرغب في تحقيق أرباح طائلة وغير عادية، فيقوم باستغلال ما تتمتع به الوحدة الاقتصادية من مركز احتكاري بالسوق، ويقوم بتحجيم وتقليل المعروض من منتجاتها بالسوق، وتخزين جانب كبير من إنتاجها لتعطيش السوق، وافتعال أزمة لرفع أسعار المنتجات بالسوق، وخلق طلب مغالي فيه على السلعة التي تنتجها شركته، تدفعه للتخلص من المخزون الراكد والمعيب لديه. كما قد يستخدمها متخذو القرار بشكل تلقائي، حيث إنه كثيراً ما يواجه متخذ القرار في إدارته  للشركة التي يعمل بها أزمات مختلفة، ويجد نفسه محاطاً بوقائع وأحداث تبدو له خطيرة ومقلقة، ولا يستطيع تفسيرها ومعرفة عواملها الباعثة لها، وتراكماتها الذاتية، واتجاهاتها ونتائجها، ومن ثم يزداد أمامه سمك جدار عدم التأكد.
 ومن ثم في غياب منهج علمي ورؤية تحليلية متعمقة، يلجأ متخذ القرار إلى الارتجال واستخدام سياسة رد الفعل إزاء الحدث، أو الفعل الذي خيل إليه أنه سبب فيما يواجه الشركة من أزمات، فيؤدي إلى نشوء أزمات جديدة، قد تكون أشد خطراً وأعمق تأثيراً على الكيان الإداري أو الشركة التي يشرف على إدارتها.
 ونتيجة لسياسة الفعل ورد الفعل واستمرار التهميش للقضايا والمواقف، وتغييب المستقبل، والاعتماد على أسلوب الإدارة يوماً بيوم، أن استفحلت الأزمات، بل واستخدمت الأزمات كوسيلة لتغطية بعضها على بعض، ومن ثم اعتمد أسلوب الإدارة بالأزمات كأسلوب للإدارة، لتخفي به المؤسسات مشاكلها وعجزها عن تحقيق أهدافها الموضوعة والمتمثلة في:
·       الربحية.
·       التوسع والنمو.
·       الاستمرار.
ويستخدم رجال الأعمال أسلوب الإدارة بالأزمات لفرض مصالحهم، وإملاء إرادتهم على الحكومات، وجعلها تستجيب لمطالبهم بطريقة غير مباشرة، ومن أهم الأمثلة على ذلك، أن أحد رجال الأعمال في الخليج تقدم إلى مركز للبحوث والإدارة بطلب دراسة جدوى لإنشاء حي سكني متكامل بعيداً عن المدينة، وأشار عليه المركز أن يبدأ بإنشاء الطريق وتوصيل المياه والكهرباء إلى الموقع، ولكن الرجل بعد أن استمع إلى هذا المشروع، عبث بلحيته وقال " أنا موافق على كل شيء إلا الطريق والمياه والكهرباء"، مما دفع الباحثين إلى السخرية، ومضى الرجل في البناء حتى انتهى منه، ثم مر على جميع الصحف المحلية فشكا لها من أنه أقام حياً كاملاً للتغلب على أزمة الإسكان، ولكن الدولة لا تريد الفراغ من استكمال المرافق العامة، فقامت الصحف بحملة هجومية على الحكومة من أجل هذا التقصير، وامتد الطريق ووصلت المياه والكهرباء، دون أن يدفع الرجل شيئاً.[5]




[1] الخضيري، محسن أحمد، 2003م، المرجع السابق، ص ( 17).
[2] الخضيري، محسن أحمد، 2003م، المرجع السابق، ص ص (17-20).
[3] الخضيري، محسن أحمد، 2003م، المرجع السابق، ص ص ( 20 -21 ).
[4] الخضيري، محسن أحمد، 2003، مرجع سابق، ص ص  ( 21 – 22 ).
[5] الخضيري، محسن أحمد، 2003م، مرجع سابق، ص ص ( 24 – 25 )

Post a Comment

Previous Post Next Post