طبيعة المنهج الاستقرائي:
يعتبر المنهج الاستقرائي من المناهج المشتركة بين العلوم الطبيعية و العلوم الإنسانية. وإن كان في الغالب يوظف في مجال دراسة العلوم الطبيعية. و يعتمد منهج الاستقراء العلمي في مجال دراسة العلوم الطبيعية على«الملاحظة العلمية» في مجال الطبيعة و الانتقال من ملاحظة قضايا جزئية تشير إلى ما نلاحظه إلى نتائج كلية تتضمن وقائع أو ظواهر أخرى سوف تحدث في المستقبل و لم تلاحظ بعد، وهذا يعني أن مقدماته تمثل الجزئيات التي تم استقراءها في الواقع عن طريق الملاحظة و التجربة. أما نتيجته فتعبر عن القانون العام الذي تندرج تحته الجزئيات التي شاهدناها، بحيث يمكن القول أننا نصل إلى تعميم ما جاءت به النتيجة من خلال الاستدلال الاستقرائي و لكنه لا يمثل ما شاهدناه فحسب، وإنما يعبر أيضا عن الوقائع التي سترد علينا في المستقبل . ويمر الباحث في إعماله للمنهج الاستقرائي من ثلاث مراحل بحثية:
أولا: مرحلة البحث: و يستخدم فيها الملاحظة و التجربة للوقوف على ما بين الأشياء من أوجه شبه و اختلاف. ثانيا: مرحلة الاختراع و الاكتشاف: وهي مرحلة وضع الفروض التفسيرية التي توضح العلاقة بين الظواهر المشاهدة أو التي أُجري عليها التجارب.
ثالثا: مرحلة البرهان و هي مرحلة تحقيق الفروض من خلال الرجوع للواقع.
3) المنهج الاستقرائي عند علماء المسلمين:
تعودنا أن نقرأ في كتب" مناهج البحث العلمي" أن بداية استخدام المنهج الاستقرائي في البحث كانت على يد فرنسيس بيكون و كلود برنار و جون ستيوارت ميل و غيرهم من المفكرين الغربيين مع إغفال تام لإسهامات علماء المسلمين في وضع لبنات هذا المنهج و في تطوير آلياته و مفاهيمه. رغم ما لإسهاماتهم من اثر عميق في تطور العلوم الطبيعية والإنسانية يشهد بها القاصي والداني، إلا أن غفلت بعض الباحثين في" مناهج البحث العلمي" عن تراثنا العلمي حالت دون جلاء الإسهامات المنهجية لعلمائنا المسلمين في حقل المناهج العلمية ويكفي الرجوع إلى دراسات ابن الهيثم في علم البصريات و ابن النفيس في علم الطب و البتاني و الطوسي في علم الفلك و ابن حيان في علم الكيمياء و ابن خلدون في علم العمران… للوقوف على عمق توظيف و إعمال علمائنا المسلمين للمنهج الاستقرائي.
ولنقف في هذا المقام مع نموذج يظهر حضور المنهج الاستقرائي في الإنتاج العلمي الإسلامي. يقول ابن الهيثم: « ونبتدئ في البحث، باستقراء الموجودات، و تصفح أحوال المبصرات، وتمييز خواص الجزئيات؛ و نلتقط باستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار، وما مطرد لا يتغير. وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس. ثم نترقى في البحث والمقاييس على التدرج مع انتقاد المقدمات و التحفظ من الغلط في النتائج. ونجعل غرضنا في جميع ما نستقريه و نتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى، ونتحرى في سائر ما نميزه وننقده طلب الحق لا الميل مع الأهواء» ، وفي هذا القول الموجز كما يظهر جمع ابن الهيثم بين الاستقراء و القياس و قدم فيه الاستقراء على القياس و حدد فيه الشرط الأساسي في البحوث العلمية الصحيحة، وهو أن يكون الغرض طلب الحقيقة، دون أن يكون لرأي سابق أو نزعة من عاطفة أيا كانت دخل في الأمر، ثم إقرار تلك الحقيقة على ما هي عليه.

Post a Comment

Previous Post Next Post