العقلانية العلمية
الابستمولوجيا

نـتـيـجـة لـتـطـوّر الـعـلـوم اتـّسـع مـجـال الـمـعـرفـة الـذي بـدوره ولّـد فـرعـا مـن الـفـلـسـفـة يـهـتـم بـطـبـيـعـة الـمـعـرفـة ونـطـاقـهـا والـمـوضـوعـات الـتـي تـهـتـم بـهـا وأسـسـهـا ومـصـداقـيـتـهـا، هـذا الـفـرع هـو الإبـسـتـمـولـوجـيـا، وهـو مـبـحـث هـام فـي الـفـلـسـفـات الـمـعـاصـرة.
الابـسـتـمـولـوجـيـا تـتـجـاوز فـحـص الـمـعـارف الـقـائـمـة إنـهـا تـنـقـد وتـحـلّـل أدوات الـمـعـرفـة ذاتـهـا.
فـمـا هـي الـشـروط الـمـكـوّنـة لـلـمـعـرفـة ؟
أي شـروط الـصّـحـة الـصـّوريـة والـصـّحـة الـتـّجـريـبـيـة، وشـروط عـلاقـات الـحـوادث بـالـذات فـي بـنـائـهـا لـلـمـعـرفـة. الـعـلـوم تـشـتـرط نـشـاطـا مـن الـذات :
- مـا هـي مـمـيـزات هـذا الـنـشـاط ؟ فـهـل الـمـوضـوعـات الـرّيـاضـيـة اخـتـراع عـقـلـي أم تـجـريـد مـن الطـبـيـعـة ؟ وهـل هـذا الـنـشـاط واحـد بـالـنـسـبـة لـمـخـتـلـف أنـواع الـمـعـارف أم كـل مـيـدان يـتـطـلـب خـصـالا خـاصـة ؟
مـا هـي الـمـعـايـيـر الـمـخـوّلـة لـنـا تـقـويـم الـمـعـارف ؟ فـكـيـف نـمـيّـز بـيـن مـا يـمـكـن الـركـون إلـيـه مـن هـذه الـمـعـارف ومـا لا يـمـكـن ؟ كـل هـذه الأسـئـلـة تـطـرحـهـا الابـسـتـمـولـوجـيـا قـصـد إيـجـاد الأجـوبـة لـهـا.
والـهـدف الأسـاسـي لـلـطـرح الاِبـسـتـمـولـوجـي هـو زيـادة فـهـم مـاهـيـة الـمـعـرفـة فـي ذاتـهـا و فـي فـروعـهـا الـمـخـتـلـفـة وتـقـديـم تـحـلـيـل لـتـقـيـداتـهـا ولـتـفـريـعـاتـهـا ولارتـبـاطـاتـهـا، بـذلـك نـكـوّن نـظـرة نـقـديـة شـامـلـة، لا نـظـرة تـقـلـيـديـة مـحـدودة.
هـذا الـفـهـم بـدوره هـو أسـاس لـتـقـويـم مـطـالـب الـمـعـرفـة تـقـويـمـاً عـادلا مـوضّـحـيـن مـا مـعـنـى أن نـعـرف ؟ وهـل مـا عـرفـنـاه ومـا نـعـرفـه حـاليـا حـقـائـق ؟ وإلـى أي حـدّ يـمـتـد فـعـل "يـعـرف" ومـا هـي الـعـوائـق الـتـي تـواجـه "الأنـا" فـي طـلـبـه لـلـمـعـرفـة ؟ وقـد قـال لالانـد " الابـسـتـمـولـوجـيـا هـي الـدراسـة الـنـقـديـة لـمـبـادىء مـخـتـلـف الـعـلـوم، ولـفـروضـهـا ونـتـائـجـهـا بـقـصـد تـحـديـد أصـلـهـا الـمـنـطـقـي لا الـسـيـكـولـوجـي وبـيـان قـيـمـتـهـا وحـصـيـلـتـهـا الـمـوضـوعـيـة".

لـقـد وجـد الإنـسـان الـبـدائـي نـفـسـه أمـام عـديـد مـن الـظـواهـر الـطـبـيـعـيـة. كـانت هـذه الـظـواهـر أكـبـر مـنـه قـوّة وأشـد مـنـه بـأسـا، ولـيـحـمـي نـفـسـه مـن غـائـلـة هـذه الـظـواهـر اتـجـه نـحـو مـعـرفـة كـنـهـهـا، وأن يـجـد لـحـوادثـهـا تـفـسـيـرا. ولـكـن تـفـسـيـر الإنـسـان الـبـدائـي لـم يـكـن تـفـسـيـرا عـلـمـيـا بـالـطـبـع، ذلـك أنـه كـان قـاصـرا مـحـدود الـخـبـرة ولـذلـك جـاء تـفـكـيـره خـيـالـيـا خـرافـيـا. والإشـكـالـيـة الـمـطـروحـة هـي كـيـف نـشـأ الـتـّفـكـيـر الـعـلـمـي ؟ وكـيـف تـطـور هـذا الـتـّفـكـيـر؟ كـيـف انـتـقـل الإنـسـان مـن مـعـرفـة سـاذجـة إلـى مـعـرفـة عـلـمـيـّة ؟
حـسـب أوغـوسـت كـونـت، الـمـعـرفـة الـعـلـمـيّـة تـمـثـل نـضـج الـعـقـل الإنـسـانـي، نـضـج اكـتـسـبـه عـبـر تـاريـخ طـويـل، لـقـد عـبـَرت الإنـسـانـيـة ثـلاث حـالات مـن الـتـّفـكـيـر نـظـرا لـمـرورهـا بـثـلاث مـراحـل :

الأولـى : - الـحـالـة الـلآّهـوتـيـة :
تـمـتـد مـن الـعـصـور الـقـديـمـة حـتـى الـقـرن (04) مـيـلادي، وفـيـهـا كـان الإنـسـان يـفـسـر الـظـواهـر الـطـبـيـعـيـة بـقـوة غـيـبـيـة مـفـارقـة لـلـطـبـيـعة كـالآلـهـة مثـل إله الـشـمـس وإلـه الـبـحـر وإلـه الـرعـد وغـيـرها.
الـثـانـيـة : - الـحـالـة الـمـاورائـيـة :
تـمـتـد مـن الـقـرن الـرابـع الـمـيـلادي إلـى الـثـورة الـفـرنـسـيـة، وفـيـهـا كـان الإنـسـان يـنـسـب الـظـواهـر الـطـبـيـعـيـة إلـى قـوى غـيـبـيـة مـحـايـثـة لـلـطـبـيـعـة لا تـراهـا الـعـيـن الـمـجـّردة، والـطـابـع الـعـام لـهـذا الـتـّفـكـيـر أنـه يـؤمـن بـوجـود أرواح لـلـظـواهـر الـطـبـيـعـيـة.

الـثـالـثـة : - الـحـالـة الـوضـعـيـة :
تـمـتـد مـن الـثـورة الـفـرنـسـيـة حـتـى الآن، و فـيـهـا تـوصـل الإنـسـان إلـى تـفـسـيـر الـظـواهـر الـطـبـيـعـيـة بـمـثـيـلـتـهـا، أي الـتـّفـكـيـر الـعـلـمـي، واعـتـبـر أوغـوسـت كـونـت أن هـذه الـمـراحـل مـتـعـاقـبـة فـي الـزمـان، إنـهـا مـتـّصـلـة بـحـيـث أن نـهـايـة والأولـى تـولـّد بـدايـة الـثـانـيـة ونـهـايـة الـثـانـيـة تـولـّد بـدايـة الثـالـثـة. هـكـذا نـشـأ الـتـّفـكـيـر الـعـلـمـي وبـذلـك تـطـوّر.

مـنـاقـشـة الـنّـظـريـة الاتـّصـالـيـة :
اعـتـبـر ( أوغـوسـت كـونـت ) أن هـذه الـمـراحـل مـتـعـاقـبـة فـي الـزمـان بـحـيـث أن حـلـول الـمـرحـلـة الـثـالـثـة تــعـنـي زوال الـتـفـسـيـر الـلآّهـوتـي، والـتـفـسـيـر الـمـاورائـي، ولـم يـبـق سـوى الـتـفـسـيـر الـوضـعـي، لـكـن الـواقـع يـثـبـت تـجـمـع الـحـالات الـثـلاث فـي الـمـجـتـمـع الـواحـد، فـلازال الـنـاس يـنـسـبــون بـعــض الـظـواهــر إلــى آلـهــة أو إلــى كــائـنــات مــا ورائــيـة مـثــل الـعـفـاريـت، وقـد تـتـجّـمـع هـذه الـحـالات حـتـى لـدى الـشـخـص الـواحـد فـأوغـوسـت كـونـت لـم يـتـوصـّل إلـى حـلٍّ مـوضـوعـي لإشـكـالـيـة تـطـور الـعـلـم ونـشـأتـه.

Post a Comment

أحدث أقدم