تطبيقات النظرية التربوية:
تشكل هذه التطبيقات القسم الثاني العملي من النظرية
التربوية، وهي تتكون من العناصر التالية:
1- المنهاج:
المنهاج بمعناه البسيط هو: مجموع الخبرات المربية التي تهيئ
المؤسسات التربوية لإنسانها التفاعل معها؛ لتحقيق المقاصد والأغراض التي تحددها
الفلسفات والأهداف التربوية التي سبق استعراضها.
وينقسم المنهاج إلى قسمين رئيسين هما: (المنهاج الظاهر)
الذي يشتمل على الخبرات
الظاهرة المحسوسة، ويتألف من مواد دراسية وأساليب ووسائل
تستعمل لتوصيلها أو تقويمها، و(منهاج مستتر) غير ظاهر للعيان، وتجسده النشاطات
التعليمية، والممارسات الإدارية، والعلاقات الجارية المرافقة للمنهاج الظاهر.
وفي العقدين الأخيرين تركز الاهتمام بالمنهاج المستتر عند
فريق من الباحثين التربويين، الذين ركزوا بحوثهم على فحص المعارف والعلاقات
الجارية في المدارس والجامعات، وبرز نتيجة لذلك ما يعرف باسم (اجتماعيات التربية)،
ولقد لفتت هذه الاجتماعيات التربوية الأنظار إلى أهمية ما أسمته بـ(المنهاج
المستتر) (Hidden Curriculum)، الذي يشير إلى ظاهرة تعلُّم الطلبة من أجواء المدرسة، ومن
الأنشطة والعلاقات الإدارية فيها، أكثر مما يتعلمونه من محتويات المنهاج الرسمي
الظاهر.
ولقد عرّف هنري جيرو المنهاج المستتر بأنه: المعتقدات والقِيَم
والعادات غير المدوَّنة التي يراد تسريبها إلى أشخاص الطلبة، من خلال القوانين
والإجراءات التي تنظم عمل المدرسة والعلاقات الاجتماعية فيها.
فحين يتمُّ التشديد في المدرسة أو الجامعة على طاعة
القوانين واللوائح دون نقاش، فإن ذلك يوحي للطلاب بالخضوع للسلطة المطلقة خضوعًا
أعمى.
وحين يتمُّ تشديد مراقبة الامتحانات وصرامة تنفيذها، فإن
ذلك يوحي للطلبة بأن الأصل في سلوك الإنسان أن يغشَّ ويخدع، ويصل إلى أهدافه
بالسلوك الملتوي.
وحين يركِّز منهاج التاريخ على الحكَّام دون العلماء، أو الأغنياء
دون الفقراء، أو على الرجال دون النساء، فإن ذلك يوحي للطلبة: مَن المهم الذي
يبجلونه ويرهبونه.
والغاية من (المنهاج المستتر) هي ترويض الطلبة على مفاهيم
وأنماط سلوك يراد أن يحيوها في المستقبل، وأن يتقبلوا المواقع الاجتماعية والأدوار
المقررة لكل منهم، والمنهاج بهذا الشكل قد يكون نافعًا ينبه الطلبة ويدربهم لحياة
اجتماعية أفضل، وقد يكون ضارًّا يكرِّس الخنوع والظلم وعدم المساواة.
و(المنهاج المستتر) في التربية الحديثة يكرِّس مفاهيم العمل
الصناعي والتجاري، وقِيَم الاستهلاك وعاداتها، من حيث أداءُ العمل والانضباط،
وطاعة الأوامر وغير ذلك، وهو يصنف المعرفة إلى درجات، ويغرس في نفوس التلاميذ تفوق
المعارف التي تحقق المكاسب المادية على غيرها، ويعمل على تهيئة أبناء الفقراء
الذين يدرسون في المدارس العامة للأعمال المهنية، وتهيئة أبناء الطبقة الوسطى
الذين يدرسون في المدارس الخاصة للإدارة والوظائف العليا، كذلك يعمل (المنهاج
المستتر) على تحديد مفهوم الطالب عن نفسه وذاته؛ حيث إن فشله في المنهاج الصعب أو
غير المناسب يجعله يلقي اللوم عن نفسه، وتتكوَّن لديه صورة متدنية عن ذاته، وفي
المقابل فإن مَن يسهل المنهاج نجاحه يكوِّن عن ذاته صورة متعالية تجعله ينسب
النجاح لقدرات متميزة فيه؛ أي: إن المدارس في التربية الحديثة تطور عادة (لوم
الضحية) و(مكافأة المستغل)[1].
ويرى (بولو فرير): أن المنهاج المستتر المصاحب للمنهاج
التربوي الرسمي الظاهر في العالم الثالث كان من الأدوات الرئيسة لضمان (ثقافة
الصمت) عند مَن لا يملكون، ولدمج الناشئة في النظام الاجتماعي القائم، وجعلهم
يقبلون منطقه المأساوي، ويسهمون في المحافظة على استمراره[2].
ويؤخذ على المناهج المطبقة في غالب الأقطار العربية عدة
أمور هي:
1- الفصل بين العلمي والأدبي؛ مما يفرز ثنائية اجتماعية متناقضة
التفكير والولاء.
2- في فترة ما قبل العولمة التركيز على تاريخ الماضي وعلومه؛
مما يصرف عقول الطلبة عن الاهتمام بحاجات الحاضر وتحدِّياته، ويشغلهم بالجدال حول
تفاضل الماضين ومفاخرهم أو نواقصهم، وفي فترة ما بعد العولمة يركز المنهاج على
(اغتراب) الإنسان العربي والمسلم عن ثقافته وهويته، وتحويله إلى (عامل) لا ينتمي
إلا لمكان العمل الذي يقدم له الغذاء والكساء والمتعة الجسدية.
3- التركيز على التلقين النظري أكثر من التطبيق العلمي؛ مما
يغرس فيها عادة الرضا بالأقوال دون الأعمال.
4- التركيز على مهارات العمل كاستعمال الحاسوب، ويهمل علوم
الاجتماع والدين.
5- الاكتفاء بالإلقاء النظري الجاف دون توفير البيئة
والقدوة المفرِحة؛ مما يدرِّب الطلبة على الصبر على حياة الضنك، والرضا بالواقع
المأساوي[3].
2- المؤسسات:
تتعدد المؤسسات التربوية بتعدُّد حلقات السلوك في الفرد،
ومع تعدُّد الحاجات والتحديات التي يواجهها المجتمع خلال مسيرة التغير الإنساني،
ولذلك يبقى عدد هذه المؤسسات وأنواعها ومسؤولياتها في تطوُّر مستمر طبقًا لحاجات
كل عصر وتحدياته، ولكن يمكن تصنيف هذه المؤسسات بشكل عام إلى خمس مؤسسات هي:
1- مؤسسات التنشئة، ومحورها الأسرة.
2- مؤسسات التعليم، ويبدأ محورها من المدرسة وينتهي
بالجامعة.
3-
مؤسسات الإرشاد، ومحورها دور العبادة ومؤسسات الثقافة.
4- مؤسسات التوجيه، ومحورها مؤسسات الإعلام.
5-
مؤسسات البيئة العامة، ومحورها مؤسسات الإدارة والأمن.
وكما لا يمكن الفصل بين حلقات السلوك؛ أي: حلقات الخاطرة،
والفكرة، والإرادة، والتعبير، والممارسة، كذلك لا يمكن الفصل بين عمل المؤسسات
المذكورة إلا ما يستدعي التنظيم مع المحافظة على التكامل والتفاعل؛ طبقًا لتخطيط
علمي يحدد الأدوار وينظم قنوات التواصل.
وخطورة هذا الفصل أنه يقتل فاعلية هذه المؤسسات جميعها،
ويدرج أعمالها كلها في قائمة (العلم الذي لا ينفع)، وهذا ما انتقده عدد كبير من
علماء التربية والاجتماع من أمثال عالم الاجتماع الأمريكي أرنست بيكر، وثيودور
روزاك، وروبرت بله، وإبراهام ماسلو، وجون باولز، ومارتن كارنوي، وعزوا إليه أزمة
الانفصام القائمة بين التقدم التكنولوجي وبين الانحلال الأخلاقي، وانتفاء الأمن
والاستقرار الاجتماعي[4].
أما في المجتمعات العربية، فإن خطورة عدم التكامل بين
المؤسسات التربوية أدَّى إلى تمزيق شخصية الإنسان العربي وتقلبها؛ لأن كل مؤسسة
تتعامل مع هذا الإنسان بشكل يختلف عن المؤسسات الأخرى، ابتداء من طفولته حتى
شيخوخته.
فالأسرة تلزمه طفلاً بمنطلقات التقاليد المعتمدة على هيمنة
الكبار على الصغار، وانتهاء دائرة الولاء عند حدود الأسرة، وعدم امتداده إلى دائرة
الدولة والأمة، وتفضيل الذكور على الإناث، وما يرافق ذلك من وأْد اجتماعي للإناث،
ونموٍّ سرطاني لشخصية الذكور[5].
والمؤسسة التعليمية تحقنه - تلميذًا وطالبًا - بمخلوطة من
المعلومات، بعضها مفرط في المثالية يتعصب لتراث الآباء ويسبغ العصمة عليه، وبعضها
يشايع المستورد من معاهد الغرباء ويسند الكمال إليه، علمًا بأن هذا المستورد يكون
في الغالب مما مضى زمنه أو من تقاليد الشوارع وممارسات العامة السلبية، وليس فيه
الكثير من قِيَم المؤسسات العلمية والإدارية والسياسية.
ومؤسسات الإعلام تحقنه - مواطنًا - بخليط مضطرب من الثقافة
والفن الموزَّع بين المثالية والبوهيمية، والأخبار التي تعتمد على الإثارة
والانفعال أكثر من العقلانية والعلم.
ودور العبادة في الغالب تؤنبه - مقصرًا - عن فضائل السلف
الذين تقدمهم كنماذج ارتقت فوق رتبة البشر والتحقت بالملائكة.
ودوائر الشرطة والأمن في الغالب تعامله - مجرمًا - حيث تترصَّد
أخطاءه ومساقطه؛ لتعامله من منطلقات وتطبيقات غسل الأدمغة والسلوك الاشتراطي
المبني على نظريات أمثال بافلوف واشتراطية سكنر وطومسون.
والإنسان العربي يتفاعل مع هذه البيئات المؤسسية المتناقضة،
ويتقلب بين تحولاتها المفاجئة، ثم تكون المحصلة هي تقلب سلوكه وتناقضه.
3- الأساليب والوسائل:
تتحدد قيمة الأساليب والوسائل وفاعليتها بمقدار إسهامها في
بَلْوَرة هوية الإنسان المتعلم، واستخراج قدراته وفضائله، وتمكينه من تسخير بيئته
المحيطة، وإمداده بالوعي بتقسيمات الزمن الثلاثة: الماضي، والحاضر، والمستقبل؛
لتكون محصلة ذلك كله تسنُّمه المركز (الكريم) في درجة العوالم المحسوسة.
ولكن يؤخذ على أساليب التربية الحديثة أنها في الوقت الذي
أسهمت إسهامًا كبيرًا في تقدُّم العلم والتكنولوجيا، فإنها انتقصت إنسانية الإنسان
وركَّزت عملها على ترويضه وتأهيله لمكان العمل والإنتاج، وممن انتقد هذه الأساليب (أرنست
بيكر) الذي كتب يقول: "يتطلع الغرب اليوم إلى تربية واضحة تُخْرِجه من هذه
الغابة المظلمة والجهل المُوحِل إلى نور الفهم للوجود، ولا تستطيع التربية العلمية
أن تقدِّم لنا هذا الفهم المنشود؛ لأنها تتعامل فقط مع الأشياء المحسوسة، ولا
العلوم الاجتماعية التي عندنا؛ لأنها أيضًا أفكار ميتافيزيقية مدمِّرة أفرزت
أمراضًا اجتماعية قاتلة، فنحن اليوم في حرب مع عقولنا، وعقولنا أصبحت غائمة مكدَّرة
باعتقادات عمياء هامشية غير معقولة، ومجموعة من الأفكار المدمرة ورثناها عن القرن
التاسع"[6].
"وإزاء هذه الثقافة السائدة المدمِّرة يتحدَّد دور
التربية المرشحة للإنقاذ، ولا يكون هذا بالعودة إلى القِيَم المسيحية القديمة،
وإنما بقدرتنا على فهم العالم الحاضر وقدرتنا على الاختبار، إن مشكلات التربية
المعاصرة لا تحل بالتنظيم والإدارة وإنفاق المال - رغم أهمية هذه الأمور - وإنما
تحل بنقد الأفكار المتمركزة في مركز التصور عن الكون كله، وإعادة المكانة العليا
للإنسان[7].
[5] - راجع كتاب فلسفة التربية الإسلامية، ص 55-66. وكتاب مناهج
التربية الإسلامية،
ص 33-42، د. ماجد عرسان الكيلاني.
[6]- الشخصية السرطانية؛ أعني بها: شخصية تحاول النجاح والنمو على
حساب الآخرين وجهودهم في البيت ومكان العمل ومكان الدراسة، وتكون النتيجة انتقال
عدوى التمدد ونشوب الصراع والتآمر الذي ينتهي بفشل الجميع وانهيار المؤسسة، تمامًا
كالخلايا السرطانية التي تتمدَّد على حساب الخلايا المجاورة، ثم تنتقل عدوى التمدُّد
إلى بقية الخلايا، وتنتهي إلى تدمير بعضها بعضًا، ثم تكون المحصلة النهائية تدمير
الجسد ووفاته.
[7]-
Ernest Becker، Beyond Alienation : Philosophy Of
Education for the Crisis of Democracy، ( New York : george Braziller، 1975 ) Pp: 90 – 93.
Post a Comment