يشهد عالم اليوم تطوراً تكنولوجيا لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية . وقد طال هذا التطور القواعد الأساسية للحياة ، بهندسة وتحوير الجينات الوراثية للنبات والحيوان ، بل وحتى الانسان .
وأمام الطلب المتزايد على الغذاء والألياف والدواء لسكان الأرض المتزايد عددهم باستمرار، فقد كان لابد مـن استكشاف الجوانب الوراثية للنباتات ، قصد الرفع من إنتاجية المحاصيل وجعلها أكثر قدرة على مقاومة الآفات والصعوبات البيئية المتعددة ، وخصوصاً  الجفاف المتصاعد بفعل تغير المناخ.
ويبقى التنوع الحيوي والوراثي الذي حبى الله به الطبيعة كنز يدعم ويضمن استمرار الحياة على وجه البسيطة ، ويؤمن توفير وتطور وملائمة حاجيات النبات والحيوان والإنسان . ويعتبر الوطن العربي منشأ وموطناً أصلياً لأعداد كبيرة من الأنواع والسلالات الرئيسية المستخدمة في التغذية وإنتاج الألياف والمواد الصيدلية على الصعيد العالمي . غير أن هذا التنوع يعرف اليوم تحديات لم يشهدها في تاريخه، تهدد بتقليصه ، وربما انقراضه ، بفعل عوامل شتى منها سوء الاستغلال وتدمير الأنظمة البيئية الطبيعية والسعي المستمر إلى الاعتماد على أصناف وسلالات مطورة أو مهجنة وحتى محورة وراثياً .
لمواجهة هذه التحديات عمل المجتمع الدولي أقطاراً ومنظمات ومراكز إقليمية ودولية على بناء البرامج والمنشآت للمحافظة على الموارد الوراثية النباتية ، خاصة منها المتعلقة بالأغذية والزراعة ، موقعيا في الحقول والبراري وفي بنوك الجينات وصيانتها وترشيد تدبيرها واستدامة الانتفاع منها .
مع ذلك استغلت بعض الشركات كون الموروث الجيني بقي إلى وقت وجيز مشاع لتتملك بعض الأصناف والسلالات النباتية ، وتحرم أصحابها الأصليين من حقوقهم وإطلاق بعض السلالات المحورة  وراثياً دون ضوابط ، مما قد ينشأ عنه أضراراً على التنوع الحيوي وعلى صحة الإنسان .
أمام هذه التطورات المتلاحقة ، السريعة والخطيرة ، بدأ المجتمع الدولي بإتخاذ مجموعة من الاحتياطيات على شكل اتفاقيات ومعاهدات وبروتوكولات تضمن الحفاظ على الأصول الوراثية وتنميتها بصفة مستدامة والمشاركة في الانتفاع بها ، مع ضمان حقوق المزارعين والمربين والمجتمعات المحلية والدول . ورغم أن معظم الدول العربية قد صادقت على اتفاقية التنوع الحيوي وبعضها شارك في إعداد البروتوكولات والمعاهدات الخاصة بحماية وتبادل الأصول الوراثية وبروتوكول السلامة الاحيائية مع مصادقة العدد القليل منها عليها ، إلا أن الاهتمام بشأن هذه الموارد والعمل على ضمان الحقوق المشروعة عليها من طرف الدول العربية لا يزال يتلمس طريقه ولم يشهد بعد انطلاقته الصحيحة ، مما قد يفوت على الوطن العربي فرصاً ويضيع عليه بعضاً من حقوقه .

وقد أعدت المنظمة العربية للتنمية الزراعية هذه الدراسة بمساهمة خبراء متميزين من الوطن العربي يعملون في مجال الموارد الوراثية النباتية في بلدانهم وفي المجال التنسيقي العربي قصد إعطاء صورة مختصرة عن حالة الموارد الوراثية النباتية للأغذية والزراعة في الدول العربية والعمل القائم للمحافظة عليها وتطويرها والانتفاع بها مع الحفاظ على حقوق الدول والجماعات والأفراد داخل هذه الدول .
يعيش العالم اليوم في خضم عصر من الاحداث والتغيرات على كافة جبهات الحياة السياسية والاقتصادية والعلمية ، ويشهد كوكب الأرض العديد من الظواهر هي نتاج لتراكمات عدة توالت عليه على مدى الزمن . وإزاء هذه الأحداث والتغيرات والظواهر يقف الإنسان في كل بقاع المعمورة متأثراً بها ومشدوداً اليها ، كقوة فاعلة أو منفعلة . على الجبهة السياسية يشهد العالم صراعات متعددة للقوى والشعوب في ظل الدعوات من أجل عالم يسوده السلام والعدل . أما على الجبهة الاقتصادية فيأخذ الاقتصاد الحر وما يسمى باقتصاد السوق والتجارة الحرة مداه ليتمطى بامتداد العالم إلا من جيوب هنا وهناك .
وعلى الجبهة العلمية تبلغ التقانة شأواً بعيداً ليصبح من الممكن تخطي الفضاءات والحدود الجغرافية من خلال ثورة الاتصالات والمعلومات ، كما صار من الممكن تخطي الموانع والحواجز الطبيعية لأنواع الكائنات الحية من خلال التقدم الكبير في علوم الأحياء والهندسة الوراثية ، فبدا ما كان مستحيلاً في الماضي حقيقة نلمسها في الكائنات المعدلة وراثياً أو في نتائج عمليات الاستنساخ التي تتم على النباتات والحيوانات . أما كوكب الأرض فقد صار يئن تحت وطأة الأمراض وظواهر التعرية ، وأبرز ما في ذلك التغيرات في البيئة الطبيعية ومكوناتها المختلفة من جراء انفلات الاستخدام للموارد المتاحة بشكل غير رشيد والاندفاع نحو استغلالها دون الأخذ في الحسبان ما يمكن أن يترتب من نتائج سلبية . هكذا بدأت دورة من التغير في المناخ تصحبها الآن موجات من الجفاف  والفيضانات وارتفاع في درجات الحرارة . وبفعل الاندفاع نحو استخدام الأراضي والتوسع في المساحات المزروعة واستغلال الغابات ، ضعف الغطاء النباتي وتراجع ، فتقدمت الصحراء وشهدت مناطق واسعة من العالم ظاهرة التصحر . وبين هذا وذاك استمـر سكان العالم فـي الزيـادة ، فتضاعف عددهـم ما بين فجـر وبداية القـرن العشرين الذي انقضى وفجر وبداية القرن الحادي والعشرين الذي نعاصر بداياته الآن.
لقد مس التغير والتدهور القاعدة الأساسية من الموارد التي تعتمد عليها البشرية في استمرار واستقرار حياتها ، ألا وهي القاعدة النباتية بما فيها من تنوع وراثي جعل من الممكن الاستفادة منها في كافة بيئات العالم المتباينة ، كما جعل من الممكن استخدامها وتطويعها بما يتيح مقابلة الاحتياجات المختلفة . تشكل هذه القاعدة النباتية المتنوعة ما يطلق عليها الموارد الوراثية النباتية والتي تعتبر أحد أهم الأجزاء الأساسية المكملة لمكونات التوازن البيئي للموارد الطبيعية ، ولعل أهمها ما يعرف بإسم الموارد الوراثية النباتية للأغذية والزراعة والتي تنهض عليها الزراعة ويرتكز عليها الأمن الغذائي العالمي ، وتتألف الموارد الوراثية النباتية للأغذية والزراعة من الموارد الوراثية المتنوعة التي تحتوي عليها الأصناف التقليدية والأصناف الحديثة التي يزرعها المزارعون ، بالإضافة للأقارب البرية للمحاصيل والأنواع النباتية البرية الأخرى التي يمكن استخدامها في الأغذية ، وعلف الحيوانات المستأنسة ، والألياف والملابس ، والمأوى والأخشاب والطاقة وغيرها . وقد لحق بهذه الموارد الوراثية كثير من التدهور والتآكل بفعل العوامل المختلفة التي من أهمها الزراعة التجارية الحديثة وما تضمنته من استجلاب واستخدام أصناف جديدة على حساب الأصناف التقليدية شديدة التنوع ، بالإضافة للتغيرات البيئية بفعل العوامل المختلفة .
هذه الأسباب وغيرها هي التي  أدت لما يسمى بالتآكل الوراثي وتدهور التنوع الحيوي بما فيه من تنوع حيوي زراعي يتمثل في الموارد الوراثية النباتية للأغذية والزراعة ، والشواهد والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة ، وقد جاء منها في التقرير الذي أصدرته منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة في عام 1996 عن حالة الموارد الوراثية النباتية للأغذية والزراعة في العالم ما يلي :
-  أن الصين أفادت ان نحو 10000 صنف من أصناف القمح كانت مستخدمة في عام 1949 ، غير أن الأصناف التي كانت لا تزال مستخدمة في السبعينات لم تتجاوز 1000 صنف .
-  كذلك لاحظت اثيوبيا ان الشعير الأصلي يتعرض لتآكل وراثي خطير وان القمح الصلب قد تعرض للانقراض .
-  كما لاحظت شيلي خسائر في أصناف البطاطس المحلية وكذلك في الشوفان والشعير والعدس والبطيخ والطماطم .
-  واستندت إحدى الدراسات التي تقدم منظوراً تاريخياً عن فقدان الأصناف إلى معلومات مستمدة من وزارة الزراعة الأمريكية بشأن الأصناف التي كان يزرعها الأمريكيون في القرن الماضي . وقد أظهرت الدراسة ان معظم الأصناف لم يعد من الممكن العثور عليها سواء في الزراعة التجارية أو في أي ذلك من بنوك الموارد الوراثية الأمريكية ، ومن ذلك مثلاً ان نحو 86% من أصناف التفاح البالغ عددها 7089 صنفاً تشير الوثائق إلى أنها كانت تزرع بين عام 1804 وعام 1904 قد اندثرت .
هكذا يبدو حال كوكب الأرض في تدهور مستمر وموارده الطبيعية الهامة في تقلص مضطرد ، والبشرية تحاول الوقوف في وجه ذاك وهي مجابهة بتحديات كبرى وعظيمة :
-  تحدي تحقيق الأمن الغذائي على خلفية زيادة السكان وتنامي الفقر وتدهور الموارد .
-  تحدي إزالة الفقر ورفع عبئه عن كاهل الملايين من سكان العالم .
- تحدي الحفاظ على الموارد وترشيد استخدامها وحماية البيئة .
-  تحدي احقاق الحقوق والاعتراف بها لأهلها في ظل عالم التجارة الحرة وتهاوي الحدود والموانع .
وهذه التحديات جميعها تلعب الموارد الوراثية النباتية دوراً هاماً في مجابهتها ، وتعد صيانة الموارد الوراثية النباتية والاستخدام المستدام لها عنصرين رئيسيين لتحسين الإنتاجية وتحقيق مقومات الاستدامة في قطاع الزراعة بما يسهم في التنمية والأمن الغذائي والتخفيف من وطأة الفقر ، علماً أن العمل في برامج الموارد الوراثية النباتية يتضمن العديد من الأنشطة التي تدخل في إطار متكامل ومترابط حتى يمكن لهذا النوع من البرامج أن يؤدي دوره المطلوب في الصيانة والاستخدام، كما أن إحقاق الحقوق السيادية للدول والمجموعات على مواردها الوراثية يسهم في تحقيق شيء من المنافسة العادلة والاقتسام المنصف للمنافع . إن عالم اليوم لا يتمتع بالأمن الغذائي من زاوية القدرة على الحصول على الغذاء إذ ان هناك حوالي 800 مليون نسمة يعانون نقص التغذية . وفي السنوات الخمسة والعشرين القادمة يتوقع ان يزيد عدد سكان العالم بأكثر من 2500 مليون نسمة ليصل إلى 8500 مليون نسمة . وازاء ذلك فلابد من إدخال تحسينات في إنتاجية المحاصيل من خلال زيادة تأقلمها على البيئات المختلفة ، وزيادة قدرتها على مقاومة وتحمل الآفات والأمراض وعناصر الإجهاد المختلفة ويمكن أيضاً سد الفجوة الغذائية من خلال تطوير استخدام العديد من الأنواع والمحاصيل التي تستخدم على نطاق محدود أو التي لا تزال برية لم يتم بعد استئناسها وزراعتها ، اذ انه وعلى النطاق العالمي يوفر عدد صغير نسبياً من المحاصيل أهم إمدادات الطاقة الغذائية في العالم ، حيث يساهم الأرز بـ 26% ، والقمح بـ 23% والسكر بـ 9% والذرة الشامية بـ 7% والدخن والذرة الرفيعة بـ 4% ثم زيت فول الصويا بـ 3% والبطاطس بـ 2% ، اضافة لزيوت نباتية أخرى تساهم مجتمعة بـ 6% ، وتساهم مصادر أخرى متنوعة بـ 20% . وعندما يجري تحليل إمدادات الطاقة الغذائية على المستوى الإقليمي تتجلى أهمية أنواع أخرى من المحاصيل مثل الكسافا ، والموز  والموز الأفريقي والبطاطا والفاصوليا والفول السوداني ، والبسلة الهندية ، والعدس واللوبيا .
لقد ساهمت الموارد الوراثية للمحاصيل الزراعية في الماضي وتساهم في الحاضر في احداث نقلات واختراقات حقيقية وفك اختناقات صعبة ، فمثلاً ساهمت العديد من السلالات التقليدية والمحلية من الأصناف المزروعة ومن الأقارب البرية للمحاصيل في اكساب الأنماط المزروعة صفة المقاومة والتحمل للعديد من الآفات والأمراض ، والأمثلة على ذلك شتى في محاصيل مثل القمح والذرة الرفيعة والأرز والبطاطس والكسافا والبرسيم .
ان كثيراً مما تبقى من هذه الموارد الوراثية النباتية للأغذية والزراعة لا يزال موجوداً في حقول المزارعين وفي البراري الممتدة في أنحاء العالم المختلفة ، إلا أنها تظل هناك تحت مهددات جسيمة بالتدهور والتناقص والتآكل ما لم تبذل الجهود ويلتزم الجميع بالعمل الجاد على صيانتها والمحافظة عليها . هذه الموارد لا يزال بعضها موجوداً على مستوى عالي من التنوع والتباين وبتركيز في أقاليم شتى من العالم يقع معظمها في دول العالم النامي ويبلغ عددها ستة عشر اقليماً هي :
-  إقليم شرق آسيا ،
-  إقليم جنوب شرق آسيا ،
-  إقليم جنوب آسيا ،
-  إقليم آسيا الوسطى ،
-  إقليم غرب آسيا ،
-  إقليم جنوب البحر المتوسط ،
-  إقليم شرق أفريقيا ،
-  إقليم المحيط الهندي ،
-  إقليم جنوب أفريقيا ،
-  إقليم افريقيا الوسطى ،
-  إقليم غرب أفريقيا ،
-  إقليم أوروبا ،
-  إقليم أمريكا الشمالية ،
-  إقليم الكاريبي ،
-  إقليم امريكا الوسطى ،
-  إقليم امريكا الجنوبية .
وفي هذا الوسط العالمي يأخذ الوطن العربي بموقعه المتوسط في العالم أهمية خاصة حيث تمتد فيه ثلاثة من الأقاليم الجغرافية للتنوع الوراثي للمحاصيل الزراعية الرئيسية هي إقليم غرب آسيا وإقليم جنوبي المتوسط وإقليم شرق أفريقيا ، وتحيط به خمس من الأقاليم الأخرى شهدت تواصلاً في فترات مختلفة من التاريخ مع أجزاء من هذا الوطن العربي ، مما أدى إلى تراكم العديد من أشكال التباين الوراثي في المحاصيل خاصة التي أدخلت إلى هذا الوطن من الأقاليم الأخرى .
الوطن العربي بموقعه وتفاعله مع عالم اليوم لا يقف بمعزل عن كافة التغيرات والأحداث التي ذكرناها ، ومنها على وجه الخصوص ما يمس أمر الموارد الوراثية النباتية للأغذية والزراعة ، وما يخدم حولها من تحديات الأمن الغذائي والصحي والمحافظة على البيئة والتقليل من وطأة الفقر .
كما أنه جزء من عالم بدأ القانون الدولي فيه يفرض واقعاً جديداً من خلال العديد من المعاهدات والاتفاقيات خاصة في مجالات البيئة والتنوع الحيوي والتجارة والاقتصاد . إزاء ذلك على الوطن العربي بأقطاره المختلفة أن يحزم امره لصيانة موارده الوراثية النباتية للأغذية والزراعة وان يعزز من فرص استخدامها لمجابهة التحديات التي تواجهه وليساهم في حل المعضلات المختلفة التي تواجه البشرية بأجمعها ، كما عليه ان يحافظ على حقوقه وحقوق سكانه ومجتمعاته في هذه الموارد مؤكداً على ضرورة الاقتسام العادل والمنصف للمنافع الناتجة من استخدام هذه الموارد الوراثية . كل ذلك يمكن أن يتم من خلال بناء القدرات الفنية والبشرية ومن خلال إصدار وإقامة الأطر القانونية التشريعية والإدارية المناسبة ، ولا يتحقق ذلك إلا في ظل سياسات ملتزمة وخطط علمية محكمة .
وللتمهيد لكل ذلك ودفعه للأمام تعد المنظمة العربية للتنمية الزراعية هذه الدراسة بغرض تحقيق الأهداف الآتية :
1-  المساهمة في استعراض حالة ووضع الموارد الوراثية النباتية للأغذية والزراعة في الوطن العربي .
2-  تحليل هذا الوضع الحالي لتحديد مواطن القوة والضعف للانطلاق منها لمعالجة الخلل وتعزيز مكامن القوة والاستفادة من الفرص المتاحة ومجابهة التهديدات المختلفة .
3-  اقتراح ملامح أساسية للعمل القومي في الوطن العربي للصيانة والاستخدام المستدام للموارد الوراثية النباتية للأغذية والزراعة .

Post a Comment

Previous Post Next Post