المطابقة بين ضميريِّ الفصلِ والشأن ومرجعهما :
أولاً – المطابقة بين ضمير الفصل ومرجعه :
يُعرفُ العلماءُ
ضميرَ الفصلِ بأنَّه ضميرٌ يقعُ بين المبتدأ والخبر أو شبههما – مما كان أصله مبتدءاً
وخبراً ثم تغير بدخول الناسخ – إذا كانا معرفتين ، ويأتي بصيغة التكلم والخطاب والغيبة.
يقول سيبويه :
" ( هذا بابُ ما يكونُ فيه هو وأنتَ وأنا ونحنُ وأخواتهن فصلاً ).
إعلمْ أنَّهُنَّ
لا يَكُنَّ فصلاً إلا في الفعلِ ، ولا يَكنَّ كذلك إلا في كُلِّ فعلٍ ، الاسمُ بعده
بمنزلته في حال الابتداء ، فجاز هذا في هذه الأفعال التي الأسماء بعدها بمنزلتها في
الابتداء ، إعلاماً بأنَّهُ قد فَصَلَ الاسمَ ، وأنَّهُ فيما يَنتظرُ المحدَّثُ ويتوقعه
منه ، مما لا بُدَّ له أن يذكره للمحدَّثِ ؛ لأنَّكَ إذا ابتدأتَ الاسم ، فإنما تبتدئه
لما بعده ، فإذا ابتدأتَ فقد وجبَ عليكَ مذكورٌ بعد المبتدأ لا بُدَّ منه ، وإلا فسد
الكلامُ ولمْ يسغْ لكَ ، فكأنَّه ذَكَرَ هو ؛ ليستدل المحدَّثُ أن ما بعد الاسم ما
يُخرجه مما وجب عليه ، وأنَّ ما بعد الاسم ليس منه ، هذا تفسيرُ الخليلِ رحمه اللهُ
" .
وجاء في الكتاب
أيضاً : " واعلمْ أنها تكون في إنَّ وأخواتها فصلاً وفي الابتداء ، ولكن ما بعدها
مرفوعٌ قبل أن تذكرَ الفصلَ واعلم أن هو لا يحسن أن تكون فصلاً حتى يكون ما بعدها معرفةً
، أو ما أشبه المعرفة مما طال ولم تدخله الألفُ واللامُ وضارعَ زيداً وعمراً ، نحو
: خيرٌ منكَ ومثلكَ وأفضل منكَ وشرٌ منكَ ، كما إنها لا تكون في الفصل إلا وقبلها معرفةٌ
أو ما ضارعها ، كذلك لا يكون ما بعدها إلا معرفةً أو ما ضارعها
" .
ويقول ابنُ يعيش
: " إعلمْ أنَّ الضميرَ الذي يقعُ فصلاً له ثلاثُ شرائط : أحدها : أن يكون من
الضمائر المنفصلة المرفوعة الموضع ، ويكون هو الأول في المعنى ، الثاني : أن يكون بين
المبتدأ وخبره ، أو هو ما داخلٌ على المبتدأ وخبره من الأفعال والحروف ، نحو إنَّ وأخواتها
، وكان وأخواتها ، وظننتُ وأخواتها ، الثالث : أن يكون بين معرفتين ، أو معرفة وما
قاربها من النكرات " .
ويسميه البصريون
فصلاً ؛ لأنه بين المبتدأ الخبر ، أو لأنه فصل بين الخبر والنعت ، أو لأنه فصل بين
الخبر والتابع ،
وأما الكوفيون فيسمونه عماداً ، " كأنه عمد الاسم الأول
وقواه بتحقيق الخبر بعده " يقول ابنُ
يعيشٍ في سبب تسميتةِ هذا الضميرِ فصلاً : " كأنَّهُ فصل الاسم الأول عمَّا بعده
، وآذنَ بتمامهِ ، وإنْ لمْ يبقَ منه بقيةٌ من نعتٍ ولا بدلٍ ، إلا الخبر ، لا غيرُ
"
ومظهر المطابقة
في ضمير الفصل موجودٌ ، فيُشترطُ أن يكون مطابقاً للمبتدأ في العدد وفي الجنس وفي الشخص
( التكلم والخطاب والغيبة ) ، جاء في لباب الإعراب : " وإذا كان الخبرُ معرفةً
أو مضارعاً لها في امتناعِ دخول حرف التعريف عليه ، كـ ( أفعل من كذا ) ، والفعلِ المضارعِ
، جاز تخللُ ضمير الفصل بينهما ، وهو أحد الضمائر المنفصلة المرفوعة ، مطابقاً للمبتدأ
، إيذاناً بأنه خبرٌ لا نعتٌ " .
ويقول الدماميني
: " ( مطابقٌ للمبتدأ ) في الإفراد وفرعيه ، والتذكير وفرعه ، والتكلم والخطاب
والغيبة " ، ويقول السيوطيُّ : " ويقعُ بلفظ المرفوع المنفصل ، مطابقاً ما
قبله في الإفراد والتثنية والجمع ، والتذكير والتأنيث ، والتكلم والخطاب والغيبة
" .
وقد ورد ضميرُ
الفصل في القرآن الكريم ، إذ بلغت مواطنُ وروده مئة وسبعاً
وتسعينَ موطناً ، وفي كلِّ هذه المواطنِ تمت المطابقةُ بين ضمير الفصل وما عاد
عليه .
فمثالُ ( ضمير
الفصل المتكلم المفرد المذكر ) قوله تعالى : فَلَمَّا أَتَاهَا
نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ
أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (القصص:30) ، فضمير
الفصل ( أنا ) مطابقٌ لاسم ( إنَّ ) ، وهو الياء من ( إنَّي ) ، وذلك في العدد وفي
الجنس وفي الشخص ، فكلاهما مفردٌ مذكرٌ متكلمٌ .
ولمْ يرد في القرآن
الكريم غير هذه الآية من نحو هذا التركيب ، كما لمْ يرد في القرآن الكريم ضميرُ فصلٍ
لمتكلمٍ مفردٍ مؤنثٍ ، ولا مثنىً .
ومثالُ ( ضمير
الفصل المتكلم الجمع المذكر) قوله تعالى : وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَالَأَجْراً
إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (الأعراف:113) ،
فضمير الفصل ( نحنُ ) مطابقٌ لمرجعه ( نا ) من (كنَّأ) ، وذلك في العدد وفي الجنس وفي
الشخص ، فكلاهما جمعٌ مذكرٌ متكلمٌ ، و قوله تعالى : وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (الصافات:166) ،
فالمطابقةُ حاصلةٌ في العددِ والجنسِ والشخصِ ، وقال تعالى : إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا
وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (يّـس:12) ، فضميرُ الفصلِ مطابقٌ للمبتدأ في العدد والجنس
والشخص ، فكلاهما جمعٌ مذكرٌ متكلمٌ ، إلا أنَّ الإشارةَ به إلى مفردٍ ، فالمتكلمُ
هو ربُّ العزَّةِ والجلالةِ ، يقولُ الألوسيُّ عن هذه الآية : " وضميرُ العظمةِ
للإشارةِ إلى جلالة الفعل ، والتأكيد للاعتناء بأمرِ الخبرِ ، أو لردِ الإنكار ، فإنَّ
الكفرةَ كانوا يقولون : إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا
الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ "
وبهذا لا إشكال في الآية ، وقد ورد ضميرُ الفصل الجمع المتكلم
في غير هذه الآيات .
ومثال( ضمير الفصل
المخاطب المفرد المذكر ) قوله تعالى :قَالُوا سُبْحَانَكَ
لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (البقرة:32) ، والمطابقةُ حاصلةٌ بين ضمير الفصل ( أنتَ )
والكاف في ( إنَّكَ ) ، وذلك في العدد والجنس والشخص ، فكلاهما مفردٌ مذكرٌ مخاطبٌ .
وقال تعالى : إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ
لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (آل عمران:35) ، وقد تمت المطابقةُ بين ضمير الفصل ( أنتَ
) والكاف من ( إنَّكَ ) ، وذلك في العدد والجنس والشخص ، فكلاهما مفردٌ مذكرٌ مخاطبٌ .
وقال تعالى : قَالَ رَبِّ اغْفِرْ
لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (صّ:35) ، وقد تمت المطابقةُ في هذه الآية أيضاً كسابقتها
، وقد ورد من نحو هذا التركيب في القرآن الكريم
، ولم يرد ضمير الفصل المخاطب في القرآن الكريم غير المفرد المذكر ، فلم يرد
ضمير فصلٍ مخاطبٍ مفردٍ مؤنثٍ ، أو مثنىً ، أو جمعٍ بنوعيه ، المذكرِ منه والمؤنث .
وأما مثال ( ضمير
الفصل الغائب المفرد المذكر ) قوله تعالى : إِنَّ هَذَا لَهُوَ
الْقَصَصُ الْحَقُّ
وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (آل عمران:62) ،
فضميرا الفصل مطابقان لاسم ( إنَّ ) ، فالأول مطابقٌ لـ ( هذا ) في العدد والجنس والشخص
، فكلاهما مفردٌ مذكرٌ غائبٌ ، والثاني مطابقٌ لـلفظ الجلالة ( الله ) ، وذلك في العدد
والجنس والشخص ، فكلاهما مفردٌ مذكرٌ غائبٌ .
وقال تعالى : لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ
مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (المائدة:17) ،
وقد تمت المطابقةُ هنا أيضاً بين ضمير الفصل (هو) ، واسم ( إنَّ ) لفظ الجلالة ( الله
) ، وذلك في العدد والجنس والشخص ، فكلاهما مفردٌ مذكرٌ غائبٌ ، وكذا الأمرُ في قوله
تعالى : وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ
الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (الشعراء:9) ، وقد
ورد غير هذه الآيات في القرآن الكريم .
ومثال ( ضمير الفصل
الغائب المفرد المؤنث ) ، قوله تعالى : يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ
وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (غافر:39) ، فضمير
الفصل ( هي ) مطابقٌ لاسم ( إنَّ ) ، (الآخرة) ، وذلك في العدد و الجنس والشخص ، فكلاهما
مفردٌ مؤنثٌ غائبٌ .
وقال تعالى : إِنَّ نَاشِئَةَ
اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (المزمل:6) ، والمطابقةُ
حاصلةٌ أيضاً بين ضمير الفص ( هي ) واسم ( إنَّ ) ، ( ناشئة الليل ) ، وذلك في العدد
والجنس والشخص ، فكلاهما مفردٌ مؤنثٌ غائبٌ ، وكذا الآمرُ في قوله تعالى : فَإِنَّ الْجَحِيمَ
هِيَ الْمَأْوَى (النازعـات:39) ، وقد ورد في غيرُ هذه الآيات
. ولمْ يردْ في القرآن الكريم ضمير
فصلٍ غائبٍ مثنىً . ومثال ( ضمير
الفصل الغائب الجمع المذكر ) ، قوله تعالى : أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (البقرة:5) ، فضمير الفصل ( هم ) مطابقٌ للمبتدأ ( أولئكَ
) ، وذلك في العدد والجنس والشخص ، فكلاهما جمعٌ مذكرٌ غائبٌ .
وقال تعالى : فَمَنْ تَوَلَّى
بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (آل عمران:82) ،
والمطابقةُ حاصلةٌ هنا أيضاً ، بين ضمير الفصل ( هم ) ، والمبتدأ ( أولئكَ ) ، وذلك
في العدد والجنس والشخص ، فكلاهما جمعٌ مذكرٌ غائبٌ ، وكذا الأمرُ في قوله تعالى : أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ
أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (النور:50) ، وقد وردت في القرآن الكريم غير هذه الآيات
.
مما تقدمَ نستطيعُ
القولَ بأنَّ المطابقةَ بين ضمير الفصل وما عاد عليه ، قد تمت في مواطنِ وروده كلِّها في القرآن الكريم ، وقد تمثلت هذه المطابقةُ
في العدد والجنس والشخص .
ثانياً – المطابقةُ بين ضميرِ الشأنِ و مرجعه :
يتقدمُ الجملةَ
في بعض التراكيب ضميرٌ مفردٌ غائبٌ ، يُقصدُ به التفخيمُ والتعظيمُ ، يسميه النحاةُ
: ( ضمير الشأن أو القصة ) ، وهذه تسمية البصريين له ، وأما الكوفيون فيسمونه الضمير
المجهول ؛ لعدمِ تقدمِ شيءٍ عليه .
يقولُ ابنُ يعيشٍ
: " إعلمْ أنَّهم إذا أرادوا ذِكرَ جملةٍ من الجملِ الاسمية أو الفعلية ، فقد
يُقدمون قبلها ضميراً يكون كنايةً عن تلك الجملة ، وتكون الجملةُ خبراً عن ذلك الضميرِ
وتفسيراً له ، ويوحدون الضميرَ ؛ لأنَّهم يريدون الأمرَ والحديثَ ؛ لأنَّ كلَّ جملةٍ
شأنٌ وحديثٌ ، ولا يفعلون ذلك إلا في مواضع التفخيم والتعظيم "
ويقول الرضيُّ
: " وهذا الضميرُ كأنَّه راجعٌ في الحقيقة إلى المسئول عنه بسؤالٍ مقدر ، تقولُ
مثلاً : ( هو الأميرُ مقبلٌ ) ، كأنَّه سمع ضوضاءً وجلبةً ؛ فاستبهم الأمرَ فسأل ما
الشأنُ ؟ فقيل له : ( هو الأميرُ مقبلٌ ) ، أي الشأنُ هذا ... ،والقصدُ بهذا الإبهام
ثم التفسير : تعظيمُ الأمرِ وتفخيمُ الشأن ، فعلى هذا لا بُدَّ أن يكون مضمونُ الجملة
المفسَّرة شيئاً عظيماً يُعتنى به ، فلا يُقالُ مثلاً : ( هو الذبابُ يطيرُ )
" .
وكونَّهُ مفرداً
غائباً دائماً ؛ فإنَّ مظهرَ المطابقةِ في هذا الضميرِ مع الجملة التي بعده يتمثلُ
في الجنس فقط ، يقول ابنُ يعيشٍ : " وربما أنَّثوا ذلك الضميرَ على إردة القصة
، وأكثرُ ما يجيء إضمار القصةِ مع المؤنثِ ، وإضمارها مع المذكر جائزٌ في القياس ؛
لأنَّ التذكير على إضمار المذكرِ ، وهو الأمرُ والحديثُ ، فجائزٌ إضمارُ القصةِ والتأنيثِ
لذلك " .
ويقولُ ابنُ مالكٍ
: " وإفراده لازمٌ ، وكذا تذكيرهُ ما لمْ يَلِهِ مؤنثٌ ، أو مذكرٌ شبيهٌ به مؤنثٌ
، أو فعلٌ بعلامةِ تأنيثٍ ، فيرُجحُ تأنيثهُ باعتبار القصة على تذكيره باعتبار الشأن
" ، وترجيحُ تأنيثِ ضميرِ الشأن مع المؤنث
مذهبُ البصريين ، وأما الكوفيون ، فيُوجبون التذكيرَ مع المذكر والتأنيثَ مع المؤنث .
ولقد ورد ضميرُ
الشأن في القرآن الكريم ، فمثاله مذكراً قوله تعالى : إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ
رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى (طـه:74) ، يقولُ
القرطبيُّ : " والكنايةُ ترجعُ إلى الأمرِ والشأن " ويقولُ النسفيُّ : " ( إنَّهُ ) : هو ضمير
الشأن "
وقال تعالى : كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ
وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (الحج:4) ، جاء
في مشكلِ إعراب القرآن : " ( أنَّهُ من تولاه ) فشأنه أنَّه يضله ، أو فأمره أنَّه
يضله ، أي فشأنه الإضلال " ، ويقولُ البيضاويُّ
: " ( أنَّه من تولاه ) ، تبعه ، والضميرُ للشأن " .
وقال تعالى : أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (محمد:29) ، يقولُ أبو السعود : " و ( أنْ ) مخففةٌ من
( أنَّ ) ، وضميرُ الشأن الذي هو اسمها محذوفٌ " ، ويقول الشوكانيُّ : " و( أنْ ) هي المخففة
من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر " ،
وواضحٌ ان المطابقةَ تامةٌ في هذه الآيات .
أما مثاله إذا
كان مؤنثاً ، فنحو قوله تعالى :وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ
الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ
كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (الأنبياء:97) ،
يقولُ العكبريُّ : " و ( هي ) ، ضميرُ
القصة " .
وقال تعالى : أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ
يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ
وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (الحج:46) ، يقولُ
النسفيُّ : " الضميرُ في ( فإنَّها )
ضميرُ القصةِ "
، ويقولُ الألوسيُّ : " ضميرُ ( فإنَّها ) للقصة ، فهو مفَسَّرٌ بالجملةِ
بعده .
وقال تعالى : يَا بُنَيَّ إِنَّهَا
إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ
أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (لقمان:16) ، يقولُ أبو حيانٍ : " والظاهرُ أن الضميرَ
في (إنَّها) ضمير القصة " .
وقد تمت المطابقةُ
في هذه الآيات ، ولمْ يرد ضميرُ الشأن في القرآن الكريم مخالفاً لما يفسره
فإنَّ مظهر المطابقة
لمْ يغفله النحاةُ ، وإنْ لم يُفردوا له باباً خاصاً به ، فنحنُ نجدهم يتكلمون عليها
كلما كان ذكرها مناسباً ، وذلك واضحٌ في كتبهم وما ذكرناه في فصول الرسالة
وعلى الرغم من
أنَّ الأصل تخالف المبتدأ والخبر تعريفاً وتنكيراً ، فالأول معرفة ، والثاني نكرة ، فإنَّ مجيئهما معرفتين أو نكرتين ، يُعدُّ مظهراً
من مظاهر المطابقة ، أما المبتدأ الذي له فاعلٌ يسد مسد الخبر ، فإن مجيئه في القرآن
الكريم كان مطابقاً ، وعلى الرغم من جواز المخالفة بين أفعل التفضيل المضاف إلى معرفة
وما قبله ، فقد جاء في القرآن الكريم مطابقاً في مواطن تزيد على مواطن المخالفة ، وحافظ
النظمُ القرآني على المطابقة بين الفعل والفاعل المؤنث ، وعلى الرغم من جواز تذكير
فعل الفاعل المؤنث المجازي المتصل بعامله والمنفصل عنه ، فإنَّ القرآن الكريم جاء بالمطابقة
في مثل هذا التركيب ، ولا بدَّ لنا من مراعاة السياق والمعنى العام عند تأويل الآيات
التي ظاهرها التخالف ، كما نستطيعُ أن نقولَ أن لغة ( أكلوني البراغيثُ ) لغة ورد عليها
القرآن الكريم ، ولا مُسوِّغ لردها في بعض الآيات القرآنية الكريمة ؛ لأنَّها جارية
على مظهر المطابقة .
وجاء النعتُ السببي
في كلِّ مواطن وروده في القرآن الكريم محافظاً على المطابقة ، وكذا الأمر في عطف البيان
، والتوكيد ، والبدل ، وإنَّ مجيءَ ظاهرة القطع في كلٍّ من النعت الحقيقي ، وعطف النسق
، لم يكن إلا زيادة جمالٍ وروعةٍ في النص القرآني الكريم ، وعلى الرغم من جواز تخالف
البدل والمبدل منه في التعريف والتنكير ، فإن القرآن الكريم استعملهما متطابقين في
مواطنَ بلغتْ ضعفَ مواطن تخالفهما .
والمطابقة في القرآن
الكريم بين الضمير الغائب المفرد بنوعيه :
المذكر والمؤنث ، والمثنى ، والجمع بنوعيه : المذكر والمؤنث ، قد تمت في مواطن تزيدُ
كثيراً على المواطن التي ظاهرها التخالفُ ، ولا ننسى أن لهذه المواطن حملاً على المعنى
، وقد تمت المطابقة في القرآن الكريم في كلِّ مواطن ورود ضميري الفصل والشأن .
Post a Comment