التطابق بين المُؤَكِّدِ والمؤَكَّد

     يُقسِّمُ العلماءُ التوكيد على نوعين ، لفظيٍّ ومعنويٍّ ، فاللفظيُّ : يكونُ بتكرارِ لفظِ المتبوعِ ، وذلك نحو قولنا : ( جاءَ زيدٌ زيدٌ ) ، وأمَّا التوكيدُ المعنوي : فهو الذي يُزيلُ احتمالَ إرادةِ غير الظاهرِ من اللفظِ ، كقولنا : ( جاءَ زيدٌ عينُهُ ) ، فـ ( عينه ) أزال احتمال مجئِ عبدٍ لزيدٍ ، أو كتابٍ له .

      ولكلِّ نوعٍ من نوعيِّ التوكيد كلامٌ خاصٌ به في أمرِ المطابقةِ ، ونبدأ بالتوكيد المعنويِّ .

أولاً- المطابقة في التوكيد المعنوي :
    
     ويكونُ بألفاظٍ مخصوصةٍ كـ (النفس والعين ) و( كلا وكلتا ) و( كل وجميع وعامة ) .

أ-( النفس والعين ) :

     ويُستعملان في التوكيد لإرادة " جملة الشئِ وحقيقته " ، وهما يطابقان المؤَكَّدَ في إعرابه  ، فنقولُ : ( جاءَ زيدٌ نفسُهُ أو عينُهُ ) ، و ( رأيتُ زيداً نفسَهُ أو عينَهُ ) و ( مررتُ بزيدٍ نفسِهِ أو عينِهِ ) .

     وأمَّا المطابقةُ في العددِ والجنسِ فتكونُ بتغيير صيغةِ النفسِ أو العين ، حسبَ المؤَكَّدِ ، فيُفردان مع المفردِ ، ويُجمعان مع المُثنى والجمع على وزن ( أفْعَل ) ، ويُعادُ على المؤكَّدِ ضميرٌ مع النفسِ أو العين ، مطابقٌ للمؤَكَّدِ في الإفرادِ والتثنيةِ الجمعِ ، وفي التذكيرِ والتأنيثِ ، نقولُ :
( جاءَ زيدٌ نفسُهُ أو عينُهُ ) ، و( جاءتْ هندٌ نفسُها أو عينُها ) ، و ( جاءَ الزيدان أنفُسُهما أو أعيُنُهما ) ، و ( جـــاءتِ الهندان أنفُسُهما أو أعيُنُهما ) ، و ( جاءَ الزيدون أنفُسُهُم أو أعينُهُم ) ، و
( جاءتِ الهنداتُ أنفُسُهُنَّ أو أعيُنُهُنَّ ) .
     يقولُ الجاميُّ : " ( فالأولان ) أي النفس والعين ، ( يعمان ) ، أي يقعان على الواحدِ والمثنى والمجموعِ ، والمذكرِ والمؤنثِ ، ( باختلافِ صيغتهما ) إفراداً وتثنيةً وجمعاً ، ( و ) اختلافِ ضميرهما العائد إلى المتبوعِ المؤَكَّدِ ، ( تقولُ : نفسُهُ ) في المذكر الواحدِ ، ( نفسُها ) في المؤنثِ الواحدة ، ( أنفُسُهما ) بإيراد صيغة الجمعِ في تثنية المذكر والمؤنث ، وعن بعض العرب :
 نفساهما وعيناهما ، ( أنفسهم ) في جمع المذكر العاقل ، ( أنفسهن ) في جمع المؤنث وغير العاقل من المذكر " .

     أمَّا المطابقةُ في التعريف والتنكير ، فلا يؤكد بالتوكيد المعنوي إلا المعارف على الصحيح ؛ لأن ألفاظ التوكيد المعنوي معارفٌ ، يقولُ سيبويه عند حديثه عن الوصف بالضمائر : " واعلمْ أنَّ هذه الحروفَ لا تكونُ وصفاً للمظهر ؛ كراهيةَ أن يصفوا المُظهَرَ بالمُضمر ، كما كرهوا أن يكونَ أجمعون ونفسه معطوفاً على النكرة في قولهم : ( مررتُ برجلٍ نفسِهِ ) و ( مررتُ بقومٍ أجمعين ) "  .

     ويعللُ ابنُ يعيشٍ عدمَ الجوازِ هذا بقوله : " وإنما لم تُؤكدِ النكراتِ بالتوكيدِ المعنوي ؛ لأنَّ النكرةَ لم يَثبُتْ لها حقيقة ، والتأكيدُ المعنوي ، إنما هو لتمكين معنى الاسم وتقرير حقيقته ، وتمكينُ ما لم يثبتْ في النفسِ محالٌ "   ، وهذا رأي جمهور البصريين .

     أمَّا الكوفيّون  والأخفش ، فأجازوا توكيدَ النكرةِ توكيداً معنوياً ، شرطَ أن تكونَ هذه النكرةُ محدودةً ، كـ ( الشهر واليوم والليلة ) وغيرها من الألفاظِ التي تدلُ على مدةٍ معلومةِ المقدار  ،يقول أبو حيانٍ " ولا يجوز عند البصريين أن تؤكدَ النكرةُ بشئٍ من ألفاظ التوكيد ، وأجاز ذلك بعضُ الكوفيين مطلقاً ، سواءٌ أكانتْ مؤقتةً ، أم غيرَ مؤقتةٍ ، واختاره ابنُ مالكٍ ، فأجاز :
( صُمتُ شهراً كلَّهُ ) ، و ( هذا أسدٌ نفسُهُ ) ، وجاء في الشعر توكيدها بما يقتضي الإحاطة "  .     ولم يرد هذان اللفظان في التوكيد في النظم القرآني .

ب- ( كلا وكلتا وكل وجميع وعامة ) :

    وهذه الألفاظُ ترفعُ " توهم عدم إرادة الشمول " ، و " لا يُؤكدْ بهن إلا ما له أجزاء يصُحُ
وقوع بعضها موقعه ؛ لرفع احتمال تقدير بعض مضافٍ إلى متبوعهن " .فنقولُ : ( مضى الركبُ كلُّهُ ) ، للتأكيد على أنَّ جميعَ الركبِ قد مضى ، ولإزالة احتمال مُضِيِّ بعضِهِ .
     ويؤكد بـ ( كلا ) المثنى المذكر وبـ(  كلتا ) المثنى المؤنث ، فنقولُ : ( جاءَ الزيدان كلاهما ) ، و ( جاءتِ الهندان كلتاهما ) ، حيثُ يرفعُ هذان اللفظان إرادةَ غيرِ التثنيةِ .

     والمطابقةُ في هذين اللفظين تكون في الإعراب رفعاً ونصباً وجراً ، فنقولُ : ( ذهبَ الزيدان كلاهما ) ، و ( ذهبتِ الهندان كلتاهما ) ، ونقولُ : ( ضربتُ الزيدَينِ كليهما والهندَينِ كلتيهما ) ، وقولُ : ( مررتُ بالزيدينِ كليهما وبالهندينِ كلتيهما ) .

     أمَّا المطابقةُ في العدد فتكونُ بإعادةِ ضميرٍ من لفظِ المُؤَكِّدِ على المُؤَكَّدِ ، ويُطابقُ هذا الضميرُ ، المؤَكَّدَ في التثنيةِ ، وأمَّا الجنسُ ، فإنَّ لفظَ ( كلا ) يكونُ للمثنى المذكر ، و( كلتا ) للمثنى المؤنث .

     ولا يُؤكدْ بهما النكرة ، بل يجبُ أن يكونَ مؤَكَّدِهما معرفةً ؛ ليتم التطابقُ بين المُؤَكَّدِ والمُؤَكِّدِ ، والأمثلةُ التي ذكرناها تُوضحُ ذلك ، ولمْ يُؤَكَّدْ بهما في القرآن الكريم أيضاً .

     وأمَّا ( كل وجميع وعامة ) فترفعُ هذه الألفاظُ احتمالَ إرادة عدمِ الشمولِ  ، وهي تُطابقُ مُؤَكَّدِها إعراباً ، فنقولُ : ( جاءَ الركبُ كلُّهُ أو جميعُهُ أو عامتُهُ ) و ( رأيتُ الركبَ كلَّهُ أو جميعَهُ أو عامَتَهُ ) ، و ( مررتُ بالركبِ كلِّهِ أو جميعِهِ أو عامتِهِ ) .

     وبالرغمِ من أنَّ لفظي ( كل وجميع ) مفردٌ مذكرٌ ، ولفظ ( عامة ) مفردٌ مؤنثٌ ، فالمطابقةُ حاصلةٌ بين هذه الألفاظ ومؤكَّدها ، حيثُ تُضافُ إلى ضمائرَ تعودُ على المؤكَّد ، تُطابقهُ في العدد وفي الجنس ، فنقولُ : ( قرأتُ الكتابَ كلَّهُ أو جميعَهُ أو عامتَهُ ) ، و ( اشتريتُ الدارَ كُلَّها أو جميعَها أو عامتَها ) ، و ( جاءَ المحمدون كلُّهُم أو جميعُهُم او عامتُهُم ) ، , ( رأيتُ الهنداتِ كلَّهُنَّ أو جميعَهُنَّ أو عامتَهُنَّ ) .

     وأمَّا المطابقةُ في التعريف والتنكير ، فَمُؤَكَّدُ هذه الألفاظ معرفةٌ مُطابقٌ لها كما هو واضحٌ من الأمثلةِ ، جاءَ في شرح ابن عقيل : " ولا بُدَّ من إضافتها كلِّها إلى ضميرٍ يُطابقُ المؤَكَّدَ " .

     وقد وقع في النظم القرآني التوكيدُ بـ ( كل وجميع ) ، وقد جاءَ التوكيد في هذه المواطنِ كلِّها مطابقاً للمؤَكَّدِ في الإعراب وفي العدد وفي الجنس وفي التعريف ، فمثالُ التوكيد بـ ( كل ) ، قوله تعالى : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (الأنفال:39) وقوله تعالى : وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (البقرة:31) ، وقوله تعالى :    وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (الأحزاب:51) ، وغير ذلك .

     أمَّا مثالُ التوكيد بـ ( جميع ) فلم يرد في القرآن الكريم ، إلا أنه وقع التوكيد بـ (أجمع ) ، قال ابن عقيل : " يُجاء بعد ( كل ) بأجمع 000 لتقوية قصد الشمول " ، وقد جاء عن العرب استعمال أجمع دون أن يسبقها ( كل )   ، وكلا الإستعمالين قد ورد في القرآن الكريم ، فمثالُ مجيئه مع ( كل ) ، قوله تعالى : فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (الحجر:30) و ( ص : 73) ، ولم ترد غير هاتين الآيتين ، وأمَّا مثالُ مجيئه من دون ( كل ) ، فنحو قوله تعالى :  فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ  وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (الشعراء : 94-95) ، وقوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ  (البقرة:161) وغير ذلك ، وكل هذه المواطنِ تمتْ فيها المطابقةُ كما هو واضحٌ من الآيات المذكورة .

     ولم يُؤكدْ بـ ( أجمع ) ولا بـ ( جميع ) ، المؤنثَ المفردَ ، ولا المؤنثَ الجمعَ ، ولمْ يُؤكدْ بـ ( عامة ) ، في القرآن الكريم مطلقاً .

 ثانياً- المطابقة في التوكيد اللفظي :

     كما قلنا إنَّ التوكيد اللفظي يكون بتكرار لفظ المتبوع ، ويكون في " الاسم والفعل والحرف والجملة والمظهر والمضمر "  ، فنقولُ : ( جاءَ زيدٌ زيدٌ ) ، و ( جاءَ جاءَ الجيشُ ) ، و ( إنَّ إنَّ زيداً قائمٌ ) ، و ( اللهُ ناصرُ الحقِّ اللهُ ناصرُ الحقِّ ) ، و ( ما أعجبني إلا أنتما أنتما ) .

     إنَّ مظهر المطابقة في هذا النوع من التوكيد يتمثلُ في تكرار لفظ المؤَكَّد من دون تغيير له مطلقاً .
     وقد ورد التوكيدُ اللفظي في القرآن الكريم ، فمثالُ توكيد الإسم ، قوله تعالى : وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرا قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً (الإنسان:15-16) ، أمَّا مثالُ توكيد الفعل ، فنحو قوله تعالى : يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ  (الحج:12-13)  ، فـ ( يدعو) الثانية توكيدٌ لـ ( يدعو) الأُولى ، يقولُ الزمخشريُّ : " أو كرر ( يدعو) ، كأنَّهُ قالَ : يدعو يدعو من دون الله ما يضره وما لا ينفعه "   .

     ومثالُ توكيد الحرف ، قوله تعالى : وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ  (الروم:49) ، وقوله تعالى : فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ  (الحشر:17)  ، يقول الزمخشريُّ : " ( مِنْ قَبْلِهِ ) من باب التكرير والتوكيد ، كقوله تعالى :
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا " .

     ومثال توكيد المضمر قوله تعالى : وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا (البقرة:35) ، وقوله تعالى : وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ (العنكبوت:39) ، والتوكيدُ اللفظيُّ في القرآن الكريم يكثرُ في مثل هذا التركيب  ، وأمَّا المظهرُ ، فهو الاسم ، وقد مثلنا له .
    ومثالُ توكيد الجملة قوله تعالى : فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (الشرح:5-6) ، وقوله تعالى : أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى   ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (القيامة:34-35) ، وغير ذلك .

     ووقع التوكيدُ اللفظيُّ في اسم الفعل ، قال تعالى : هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ  (المؤمنون:36)  .





Post a Comment

أحدث أقدم