قبائل العرب
العامل السياسي في قبائل العرب
إن النظام السياسي في القبيلة العربية بشكل خاص وفي الجزيرة العربية بشكل عام لم يخضع لسلطان دولة ولم يكن له نظام موحد يسير عليه ويتبع قواعده وكان لطبيعة معيشتهم وقسوتها الأثر البالغ في ذلك.
ولطبيعة حياتهم المتمثلة بالطبيعة القاسية وقلة الموارد الاقتصادية الضرورية للحياة وتعذر تحقيق الاكتفاء الذاتي في القبيلة الواحدة وعدم استغناء الجماعات القبلية عن بعضها البعض قد دفعت هذه القبائل لإقامة صلات حسنة فيما بينها حيناً وعدائية حيناً آخر( ). وكان لقوة القبيلة وشدة مراسها وقدرتها على الغزو الأثر البالغ في رسـم صورة صلاتها مع القبائل الأخرى.
ورغم ذلك فأن استخدام هذه القوة كان يحده التقيد بالأعراف والتقاليد والأحكام القبلية، ولأن حياة هذه القبائل قد طٌبعت بطابع الغزو والإغارة فان كل واحدة منها معرضة للسبي والأسر والقتل لذلك كان لزاماَ عليها إن كان لها النصر أن تتقيد بهذه الأعراف وإلا تعرضت للمعاملة بالمثل إن دارت عليها الدوائر، وسنبحث عن العوامل المؤثرة في الصلات بين القبائل بحسب أهمية هذه العوامل وهي كالآتي:
العامل الاقتصادي في قباءل العرب
كان العامل الاقتصادي ولا يزال من أهم العوامل التي ترسم طريق السياسة ليس للقبائل فحسب بل للدول الكبرى كذلك وبالنسبة للقبائل العربية فان هذا العامل يتمثل باتجاهين أساسيين: الأول يشمل المنافسة للحصول على الماء والمراعي الخصبة والثاني حالات الإغارة والغزو من أجل الحصول على الغنائم، وبذلك فأن للبيئة وقلة الموارد أثر كبير في طبيعة تلك الصلات( )، والذي ينظر لحياة العرب قبل الإسلام لاسيما سكان البادية يرى أنهم قد أُجْبِروا على خوض الحروب بسبب شظف العيش وقلة مورده بحيث أصبح الغزو والغارة على الآخرين شيئاً مألوفاً( )، لا سيما ان حدود القبيلة أو حماها لم تكن محددة بصورة دقيقة( )، بل كان تعيين الحدود بين منازل القبائل بالظواهر الطبيعية البارزة مثل التلال والأودية والجبال وغيرها( )، مما زاد في إرباك الوضع وتوتر الصلات بين القبائل.
وعلى الرغم من ذلك فلم تكن حياة القبائل البدوية ارتحالاً مستمراَ أو ضرباً في الأرض على غير هدى وإنما كان لكل قبيلة منازلها ومراعيها التي ترتادها في كل عام ومياهها الخاصة بها( )، وكل قبيلة تتحامى قدر الإمكان النزول في مراع القبائل الأخرى اتقاء لنشوب نزاع حربي، فالبداوة إذن هي نمط من الحياة شبه منظم يلاءم مقتضيات البيئة التي يعيشون فيها( )، وغالبا ما تسوء الصلات بين القبائل أيام القحط والجفاف، وفي هذه الأيام تتغلب القبائل الغنية على القبائل الفقيرة( )، وكانت قد توالت على العرب قبل الإسلام سنون عجاف أصابت العرب فيها بالجوع وسوء الحال( )، وخير مثال على أثر التقاتل على الماء والكلأ في الصلات بين القبائل هو أن الماء كان أحد المحاور الكبرى لثمانية عشر يوماً من أيام العرب وارتبطت ارتباطا وثيقاً بأسماء مواضع المياه أو نسبت إليها بسبب إصرار كل قبيلة للاستئثار بمنبع الماء أو الاحتماء به قبل المعركة( ).
فالماء والكلأ عاملان أساسيان في تكوين الصلات بين القبائل العربية في الحجاز قبل الإسلام لأن التحكم في الماء في تلك البيئة القاسية يمثل أحد مظاهر القوة للقبيلة وهذه القوة كثيراً ما دفعت أصحابها إلى التسلط على القبائل الأخرى( )، بل وصل الأمر إلى قيام تحالفات بين القبائل هدفها السيطرة على منابع الماء واغتصابها من أصحابها أو استرجاعه من غريم قوي( )، إلا أن هذا النوع من التحالفات مؤقت في الغالب فمتى انقضت المصلحة أو تلكأ أحد الطرفين في تنفيذ شروطه انفض الحلف( ).
وقد تسمح قبيلة لأخرى بارتياد مراعيها معها مما يحّسن الصلات بينهما إلا أن ذلك في الغالب لن يدوم طويلا حتى ينشب النزاع بين الطرفين( )، والسائد أن كل قبيلة تدافع عن أرضها ومنابع مياهها وهي مستعدة لسفك دم كل من يتعرض لها( )، وبلغ من قوة أثر هذا الأمر في نهاية عصر قبل الإسلام ومجيء الإسلام أن تطلب تشريعاً إسلامياً لتنظيم أمور الماء والكلأ ومنع التقاتل عليهما ومنها قول الرسول محمد( ) (): ((الناس شركاء في ثلاث الماء والكلأ والنار)).
والقبائل في ذلك كله قبل الإسلام تحترم القوي وقوة القبيلة أحد أهم المرتكزات الأساسية في تحديد صلاتها مع القبائل الأخرى فأن حماها محمية من قبل فرسانها ولكنها مقابل ذلك تغير على القبائل الأخرى الأضعف منها وتستولي على أنعامها وترعى في أرضها ومراعيها وجاء ذلك بقول( )النابغة الذبياني( ):
تعدو الذئاب على من لا كلاب له وتتقي مربض المستنفـر الحامـي
ومن الشائع في ذلك الوقت بأن من لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم( )، أما عن مسألة الغزو والغارة على القبائل الأخرى وأثرها في الصلات بين القبائل فيلخصها ابن خلدون( ) بقوله: ((العدوان أكثر ما يكون... من الساكنين بالقفر كالعرب... وأشباههم لأنهم جعلوا أرزاقهم في رماحهم ومعاشهم فيما في أيدي غيرهم ومن دافعهم عن متاعه آذنوه بالحرب ولا بغية لهم فيما وراء ذلك من رتبة ولا ملك وإنما همهم ونصب أعينهم غلب الناس على ما في أيديهم)).
وقيل:( ) إن الذي دفع العرب لذلك هو لأن العمل في تلك البيئة الشاقة أصبح غير مثمر لاسيما في حياة البدو فحياتهم تعرف الكدح الكثير ولكنها تضيع ثمرته.
وبذلك فيمكن اعتبار الإغارة في سبيل الغنيمة ضرورة من ضرورات الحياة ألجأتهم إليها قسوة طبيعتهم وقلة الخيرات وأسباب الرزق في بيئتهم وهو صورة من صور تنازع البقاء في مجتمع فقير تتنافر وحداته ويسعى كل واحد منها لتحقيق منفعته الذاتية( )، وهذا يوافق رأي الآلوسي( ) بأن أرزاق العرب قبل الإسلام كانت في رماحهم ومن منعهم ذلك آذنوه بالحرب، في حين يرى حتي( ): أن حب القتال استولى على نفوس أهل البوادي وأصبحت الغارة نموذجاً للأعمال الرجولية ولم يقتصر ذلك على الأعداء بل على القبائل المتقاربة.
وبالغت المستشرقة نينا( ) بوصفها تأصل عادة الإغارة في نفوس العرب بقولها: ((أنها أصبحت حرفة أسوة بغيرها من الحرف، بعد أن كانت تشن من أجل الحصول على الأراضي الصالحة للرعي وسد حاجات القبيلة الأساسية وتوفير علف لحيواناتها))، وبلغ من قوة أثر العامل الاقتصادي بين القبائل من أن بعضها كان يدخل في حلف مع طرف آخر ليس لعداوة للقبيلة المقابلة بل من أجل الحصول على الغنيمة فقط( )، وتعدى الأمر في ذلك للقتال بين بطون القبيلة الواحدة من أجل الغنيمة( )، والقبائل العربية بصورة عامة كانت تحب أن تكون ظالمة غير مظلومة فقد شاع عند بعظهم قبل الإسلام قول: ((رهبوت خير من رحموت))( ).
ثانياً- العامل الاجتماعي
أ- الثأر:
ذكرنا بأن ما تسير عليه القبائل في صلاتها مع القبائل الأخرى هو مجموعة من الأعراف والأحكام والتقاليد، والثأر أحد أقوى هذه الأعراف وهو يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعامل الاقتصادي حيث تُخَلِفْ عمليات التقاتل على الماء والكلأ والإغارة من أجل الغنيمة قتلى ودماء بين القبيلتين وهذا بطبيعة الحال يؤدي إلى توتر الصلات بين القبائل المتناحرة ويؤجج الصراع بينها حتى يصل إلى المغالاة في سفك الدماء( ).
والذي جعل للثأر هذا التأثير في رسم شكل الصلات بين القبائل هو انعدام السلطة الموحدة أو القانون الجنائي فمن يقتل له أخ أو قريب فعليه أن يثأر له بنفسه( ) أو مع قبيلته وفي كثير من الأحيان فأن الثأر يتولد عنه الرغبة في الانتقام ومن ثم ثأر جديد( )، وفي مثل هذه الحالات قد يستمر العداء سنين طويلة تتجدد فيها المنازعات وتُسفَك فيها الدماء( )، والعرب في طلبهم للثأر يختارون في بغيتهم أن يكافئ دم المقتول بدم من قتله في المنزلة والدرجة والمكانة، فدم السيد لا يكافئه إلى دم سيد مثله، وغاية الأمر في ذلك ردع سادات القبائل عن تحريض العبيد أو غيرهم على قتل خصومهم وأعدائهم وبذلك فهو عنصر ردع للحد من غلواء البعض وتقييد لنزعاتهم واندفاعاتهم العدوانية( )، ويرى ابن خلدون( ) بأن الحروب التي تقوم على الثأر في الأغلب تكون بين القبائل المتجاورة والعشائر المتناحرة، وبلغ من قوة الثأر في نفوس الأعراب قبل الإسلام إن قيل لأحدهم: ((أيسرك أن تدخل الجنة ولا تسيء إلى من أساء إليك ؟ فقال : بل يسرني أن أدرك الثأر وأدخل النار)) ( ).
وفاق أثر الثأر في الصلات بين القبائل على اثر الدين والشاهد على ذلك حدوث حروب وأيام بسبب الثأر في (الأشهر الحرم)( )على الرغم من أن الكثير من القبائل كانت تُحَرّم القتال في هذه الأشهر( )، وكانت عملية المطالبة بدم المقتول منوطة بالدرجة الأساس برأس سيـد القبيلة يقف وراءه جميع أفراد قبيلته( ) ليس الرجال فقط بل حتى النساء حيـث كُن في الغالب يحرضن أفراد قبيلتهن ويُعَيّرنَ القاعد والمتقاعس( )، ولا يقتصـر الأمر في هذه المسألة على المطالبة بدم من يُقتل منها بل أنها تهب للدفـاع عـن أي فرد من أفراد قبيلتها إن قام بالاعتداء وقتل شخصاً من قبيلة أخرى سواء كان على حق أم باطل فقد شاع عندهم قول: ((أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً))( )، والذي دعا القبائل وأفرادها للتمسك بأخذ الثأر إضافة إلى ما ذكـرناه سابقـاً هو سيـادة الاعتقاد عندهم بأن الشخص إذا قُتـِلَ ولم يؤخـذ بثأره فـأن طائراً يخـرج مـن رأسه يسمـى(الهامة) ( ) ويظل يصيح أسقوني حتى يُؤخذ بثأره( ). وبذلك فيمكن القول بأن الثأر عند الجاهليين كان قد أضحى شريعة وقانوناً وقائياً لابد منه لأنه وسيلة رادعة يشعر البدوي في ظله بالأمن ويجعل القبيلة لا تغالي في عدائها للقبائل الأخرى، وعلى الرغم من ذلك فقد كانت بعض القبائل تغالي في إظهار عداوتها للقبيلة التي لها فيها ثأر، تصل لدرجة قتل الأطفال( )، والتمثيل بجثث القتلى( ).
ومما سبق ذكره نجد بأن لمسألة الثأر أثر كبير في صلات القبائل مع بعضها البعض لدرجة أنه كان في نهاية عصر الجاهلية وبداية الإسلام يهدد النظام العام لذلك نجد الإسلام يعالج هذه المسألة الخطيرة كما عالج غيرها من المسائل السلبية فقد جاء في معنى قول الرسول المصطفى محمد () في (حجة الوداع) ( ) أنه قد وضع جميع الدماء والثارات التي كانت في الجاهلية فلا يحق لأحد أن يطالب فيها( ).
ب-الديّات:
من العوامل الجيدة التي اتخذتها القبائل العربية لتحسين صلاتها مع بعضها البعض وإطفاء ثائرة الحرب وسفك الدماء هي مسألة الدية( )، وقيل أن (عبد المطلب) ( ) أول من جعل دية القتيل مائة من الإبل بعد كانت عشرة( ) وقيل أن (عامر بن الضرب العدواني) ( ) هو الذي جعل الدية مائة من الإبل بعد أن كانت مائة جدي( )، وبلغ من محاسن هذه العملية في تحسين العلاقات بين القبائل أن أقرها الإسلام في شريعته السمحاء بعد أن أجرى بعض التعديلات عليها بأن جعلها متساوية فلا فرق بين إنسان وآخر( )، بعد أن كان العرب قبل الإسلام يفرقون بين الناس بالديات، فكانت دية الحليف نصف دية ابن القبيلة الصريح( ) وبعضهم جعل دية الصريح عشرة من الإبل ودية الحليف خمسة منها( )، ومع ذلك وما للدية من محاسن في إطفاء نار الحروب إلا أن أغلب القبائل كانت ترفض أخذ الدية( )، لأن من يقبل الدية يعد في نظرهم ضعيفاً غير قادر على الأخذ بثأره( )، فأصبح في عرفهم أن الدم لا يغسله إلا الدم( ).
وكثيراً ما كانت تفشل الجهود التي تبذلها بعض الأطراف من أجل ردم الصدع وتحسين العلاقات بين القبائل( )، والبعض منهم كان يشترط لقبول الدية شروطاً تعجيزية( )، وفي الغالب فان مسألة قبول الدية تكون في حالة وجود الأسرى مثلاً وعدم وجود ثأر أو في أحوال معينة كوضع حد لحرب طال أمدها( ) أو حقناً لدماء حيين من قبيلة واحدة( ) أو عجز عن إدراك الوتر من قوم القاتل( ) وكان هناك مجال آخر لتحسين الصلات بين القبائل ودفع الحرب وهو تسليم القاتل طوعاً إلى أولياء المقتول ليقتلوه وعندئذ لا يبقى مجال للثأر ولكن هذا ما كان ليحدث إلا نادراً لأن ذلك يعتبر وصمة عار للقبيلة فهي تُفضل أن تقتل الجاني على أن تسلمه طوعاً فيلحق بها العار( )، وكانت بعض القبائل وحرصاً منها على سلامة أفرادها وعدم الدخول في حروب مع القبائل الأخرى أو لعدم قدرتها على مواجهة القبائل الأخرى تقوم بخلع فرد ما منها إذا كثرت جرائمه لأنه يؤدي إلى كثرة أعداء القبيلة( ).
ت- الإجارة( )وحماية الجار:
وهذا العامل من العوامل التي فرضتها الطبيعة القاسية مثله مثل من سبقه من العوامل، لأن المسافر في الصحراء يحتاج أن جنّ عليه الليل أو دهمه خطر بأن يجيره أحد وإلا فأن التنقل في الصحراء يصبح من الأمور المستحيلة وبما أن الجميع معرضون لمثل هذا الموقف وحتى يعامل بالمثل ولغيره من الأسباب شاع نظام الإجارة وحماية الجار قبل الإسلام وأصبح من الأمور التي لها أثر في توجهات القبائل وتحديد سياستها تجاه القبائل الأخرى، وحق الجوار لا يقتصر على شخص معين في القبيلة بل هو حق لجميع أفرادها وأن أجار شخص ما شخصاَ آخر أصبحت قبيلته ملزمة بحمايته وحفظه( ) والنساء من أبناء القبيلة شانها شان الرجال لها حق الإجارة( )، والجوار يتم وفق تقاليد متعارف عليها كأن يستظل بخبائه أو يمسك طرف خيمته أو ثوبه أو أن يأكل من طعامه( )، والعرب تقول: ((لا يكون الجوار جواراً حتى تبلغ جارك مأمنه أو تقتل دونه)) ( )، وكانت العرب تعيب من لم يحمي جاره ويغفر ذمته( ).
والصلة بين الجار والمجير تختلف وفقاً لتعهد المجير لمن استجار به فكانت الإجارة مؤقتة أحياناً ودائمية بل وراثية حيناً آخر، وفي بعض الحالات كان المجير يتعهد بأن ينصر جاره على عدو معين فقط وفي حالات أخرى كان يتعهد بإجارته من كل الأعداء( )، وبذلك فيعد هذا العرف مفخرة من المفاخر التي يفتخر العرب بها فيقال فلان منيع الجار أو حامي الجار( ) ويتغلب الجوار في بعض الحالات على عامل الدين فيجير أحدهم شخصاً آخر وأن عارضه في معتقده الديني وأن كانت بينهما خصومة أو عداوة( )، وللعرب في حفظ الجوار صور تثير العجب والدهشة تصل إلى حد أن يقتل أحدهم أخاه وفاءً لجاره( ) أو أن يُقتل ابنه أمام عينه فلا يغفر ذمته( )، ولهذا العامل أي الجوار أثر كبير في توتر العلاقات بين القبائل يصل في بعض الأحيان لحد القطيعة بل الدخول في حرب وتعريض القبيلة للقتل والسبي( ).
وإن من القبائل من تنقسم على نفسها بسبب مسألة الجوار فيخرج منها بطن ويحالف قبيلة أخرى( )، بل قد تتعداها إلى القتال بين بطون القبيلة الواحدة كما حدث في حروب الأوس والخزرج التي كان سببها قتل أحد جيران مالك بن العجلان الخزرجى من قبل رجل من الأوس( ).
وكانت بعض القبائل ترد طلب اللجوء إليها عندما تجد نفسها غير قادرة على حماية من طلب ذلك، حتى لا يلحقها العار إن قُتل في جوارها، أو لأن هذا الجوار قد يجرها إلى حرب لا طاقة لها بها، فتؤدي إلى إنهاكها سياسياً واقتصادياً، كما رفضت قبائل العرب إجارة خالد بن جعفر بن كلاب بن ربيعة( ) خشية من قوة عبس( ) وبطشها( )، إلا أن بعض العرب بالغ في مسألة الجوار حتى كان يجير الشخص من أهل الأرض والسماء( ) بل أن منهم كان من يجير الطير( ) وهذا مدلج بن سويد الطائي يجير الجراد من قومه ويأخذ سلاحه ويخرج وهو مستعد لقتل أي شخص منهم إن تعرض للجراد مادام في فناءه حتى غلب عليه لقب مجير الجراد( )، والجوار أحد الأمور التي أقرها الإسلام في تعاليمه وهذا الدين لا يقر شيئاً من أمور الجاهلية إلا إذا كان له أثر طيب وفيه نفع للإنسانية وللمجتمع الإنساني.
ث-المصاهرات:
للمصاهرات دور كبير في تحسين العلاقات بين القبائل العربية حتى اتخذه البعض وسيلة سياسية لكسب القبائل لذلك لجأ رؤساء القبائل للزواج من بنات سادات القبائل من أجل شد عضدهم ومؤازرتهم( )، وذكر الآلوسي( ): ((كان من مقاصد العرب قبل الإسلام في الزواج والمصاهرات من القبائل الأخرى اجتذاب البعداء وتأليف الأعداء حتى يرجع المفاخر مؤانساً والعدو موالياً، وقد يصير للصهر بين الاثنين ألفة بين القبيلتين))، ومن العرب من اعتقد بأن الزواج من الأباعد أدعى لإنجاب النجباء من الأبناء لذلك مالوا للزواج من خارج قبيلتهم( )، ومنهم من ذهب إلى خلاف ذلك إذ كان يحقد على المرأة التي تتزوج من خارج قبيلتها لأنها برأيهم تدني البعداء وتلد الأعداء( )، وبلغ من قوة أثر المصاهرات في رسم شكل صلات القبائل مع بعضها البعض بأنها كانت السبب في عقد بعض الأحلاف بين القبائل التي تكون بينها مصاهرة، فهذه عامر بن صعصعة( ) تدخل في الحلف الديني (الحمس)( ) مع قريـش وكان الذي جر لهذا الحلف هو أن أم عامر بن صعصعة مجد بنت تيم بن مرة كانت قرشية( )، ومن الأحلاف السياسية التي كانت من أسبابها المصاهرات هو حلف ثقيف مع (قيس عيلان)( ) لأن أم قيس بن منبه وهو ثقيف كانت من قبيلة قيس عيلان فوجودهم أحق بالحلف من غيرهم فحالفوهم( )، وحالفت بنو سليم عبد مناف وجر لذلك الحلف لأنه أمه عاتكة بنت مرة كانت من بني سليم( )، وذكر اليعقوبي:( ) بأن الذي جر لـ(حلف الأحابيش)( ) هو النسب والمصاهرة، وأن عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان هي التي جرت للحلف، بينما ذكر الزبيري( ) بأن ريطه بنت عبد مناف كانت عند معيط بن عامر بن عوف بن الحارث بن عبد مناف بن كنانة وهي التي جَرَّتْ لحلف الأحابيش، ومن أكثر القبائل التي عنت بهذا الجانب هي قريش لأن مصالحها واعتمادها في اقتصادها على التجارة ومرور قوافلها بمضارب عدد من القبائل هو الذي دعاها لذلك( ) فتزوج هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب من قبيلة هــــــوازن( ) وفــــــرعها ثقيف( )( )، وبــــــعده صـــــاهر ولده عبــــد المطلب( ) قبــائل: هوازن والخزرج( ) وخزاعة( )وقضاعة( )( )، وغير ذلك فقد كان لقريش مصاهرة مع قبيلة فهم( )( ) وقد أشارت أغلب كتب الأنساب إلى أن التوجه العام لسادات القبائل هو المصاهرة مع بعضهم الآخر، فمن سادات قريش في الجاهلية هو صفوان بن أمية الذي صاهر ثقيف بزواجه من برزة بنت مسعود الثقفي( )، وكان للقبائل الأخرى التوجه نفسه من أجل تحسين صلاتها مع القبائل الأخرى، فهذا صعصعة بن معاوية من هوازن صاهر قبيلة عدوان( ) بزواجه من ابنة عامر بن الضرب العدواني( )( )، وصاهر بشر بن عبد دهمان وهو من سادات قبيلة ثقيف قريش بزواجه من خالدة بنت أبي لهب( ) وجاء في الحديث عن (أم خارجة)( ) من قبيلة بجيله( ) بأنها كانت السبب في تحسين الصلات بل واندماج عدد من القبائل مع بعضها بزواجها من عدد كبير من الرجال ينتمون لعدد من القبائل العربية( )، حتى ضرب المثل في سرعة زواجها فقيل( ): ((أسرع من نكاح أم خارجة)) ولم يقتصر الأمر على رؤساء القبائل في تحسين صلاتهم مع غيرهم بل تعداه إلى ملوك المناذرة فهذا النعمان بن امرؤ القيس( ) يصاهر قبيلة عبس القوية من أجل تحسين صلاتها معها( ).
وبالرغم من قلة موارد القبيلة واعتمادها بالأساس على أنعامها التي تعتمد بالدرجة الأولى في حياتها على خصب أرضها إلا أننا نجد إحدى القبائل تسمح لقبيلة أخرى بمشاركتها مراعيها بسبب مصاهرة كانت بينهما( )، بل وبلغ أمر أثر المصاهرات في الصلات بين القبائل بأن تخرج القبيلة بعدة حربها وتعرض نفسها للخطر من أجل أن تنصر صهرها حتى على قبيلته نفسها، وهذا ما فعلته الخزرج عندما استغاث بهم عبد المطلب بن هاشم، لينصروه على عمه نوفل بن عبد مناف عندما غصبه حقه وكانت أم عبد المطلب سلمى بنت عمر وبن زيد بن لبيد من الخزرج فلبس ثمانون رجلاً من الخزرج عدة حربهم وأقبلوا حتى دخلوا مكة، ووقفوا على رأس نوفل بن عبد مناف يطلبون منه أن يرد على ابن أختهم حقه وإلا فإنهم مستعدون لقتله وخوض حرب مع من يناصره( )، إلا أن ذلك لا يعني بأن كل من له صهر في قبيلة أخرى قد ضمن وقوفها إلى جانبه، لأن هذا قد لا يحدث في بعض الأحيان لأن الأساس كما ذكرنا سابقاً هو مصلحة القبيلة أولاً فهذه قبيلة طيء وبالرغم من أن النعمان بن المنذر كان قد صاهرهم إلا أن طيء( ) ترفض إجارته عندما طلبه كسرى ملك الفرس خوفاً على مصالح القبيلة وأبناءها( )، بل قد يتعدى الأمر ذلك فتجد حروباً وأياماً قد حدثت بين قبائل كان بينهم صلة نسب ومصاهرة( ).
Post a Comment