دستور نافع في القراءة كما حدده ووصفه بعض الأئمة لقراءته:
قال الحافظ أبو عمرو الداني في كتاب التحديد:
"جاء رجل إلى نافع فقال: خذ علي الحدر[1]،
فقال نافع: ما الحدر؟ ما أعرفها، أسمعنا قال: فقرأ الرجل، فقال نافع: "حدرنا
أن لا نسقط الإعراب، ولا نشدد مخففا، ولا نخفف مشددا ولا نقصر ممدودا، ولا نمد
مقصورا، قراءتنا قراءة أكابر أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سهل جزل، لا
نمضغ ولا نلوك، نسهل ولا نشدد، نقرأ على أفصح اللغات وأمضاها، ولا نلتفت إلى
أقاويل الشعراء وأصحاب اللغات، أصاغر عن أكابر، ملي عن وفي، ديننا دين العجائز،
وقراءتنا قراءة المشايخ، نسمع في القرآن، ولا نستعمل الرأي، ثم قرأ نافع ـ رحمه
الله تعالى ـ:
"قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن ياتوا بمثل هذا
القرآن، لا ياتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا"[2] [3].
وصف قالون لمذهب شيخه في المد
ومن تمام ما جاء عن نافع مجملا ما جاء عن صاحبه قالون مفصلا
في أصول روايته عنه، ومنها في باب المد فيما رواه أبو بكر بن مجاهد في السبعة من
طريق أحمد بن يزيد الحلواني عن قالون عن نافع:
"أنه كان لا يمد حرفا لحرف، وكان يمكن الياء الساكنة
التي بعدها همزة وقبلها كسرة مثل: "وفي أنفسكم" والألف التي بعدها همزة
مثل: "بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك"، والواو الساكنة التي بعدها همزة
وقبلها ضمة، مثل: "قالوا آمنا"، "ولا تعتدوا إن الله"، حتى
يتم الياء والواو والألف من غير مد[4]، فإذا كانت الهمزة
من الكلمة مثل: "من السماء ماء"، و"جفاء"، و"غثاء"،
و"سيئت" و"جيء بالنبيئين" و"لتنوء بالعصبة"
و"تبوء باثمي"، و"السوأى أن"، و"أضاء لهم"، وما
أشبه ذلك، مد الحروف مدا وسطا بين المد والقصر، ولا يهمز همزا شديدا، ولا يسكت على
الياء والألف والواو التي قبل الهمزة، وإذا مدهن يصل المد بالهمز، ويمد ويحقق
القراءة ولا يشدد، ويقرب بين الممدود وغير الممدود .."[5]
وصف صاحبه أبي بكر الأعشى لقراءته:
وقال الأعشى:
"كان نافع يسهل القراءة لمن قرأ عليه، إلا أن يقول له
إنسان أريد قراءتك، فيأخذه بالنبر في مواضعه، واتمام الميمات[6]، وكانوا يقولون:
قراءة نافع بز[7]
القراءة "قال السخاوي: "قلت والله أعلم ـ "لما فيها من
الأنواع"[8].
وصف صاحبه أبي سعيد ورش لقراءته:
روى محمد بن سلمة العثماني عن أبيه[9] قال:
"قلت لورش: كيف يقرأ نافع؟ فقال: كان لا مشددا ولا
مرسلا، بينا حسنا"[10].
وصف بعض الأئمة لمذاهبه في القراءة:
من ذلك قول ابن مجاهد في كتاب السبعة عند ذكر الإدغام:
"كان نافع لا يكاد يدغم إلا ما كان إظهاره خروجا من
كلام العرب، إلا حروفا يسيرة"[11].
وقال في باب الامالة:
"كان نافع يفتح ذوات الياء ولا يكسر، مثل قوله:
"الهدى" و"الهوى" و"العمى"، وما أشبه ذلك، كانت
قراءته وسطا في ذلك كله"[12].
وقال أبو بكر الشذائي: "أما صفة قراءة نافع فسلسة لها
أدنى تمديد".
وصف المسيبي لقراءته في مجلس الخليفة هرون
الرشيد ببغداد:
حكى أبو عبد الله محمد بن إسحاق المسيبي قال:
"سأل الكسائي أمير المؤمنين أن يجمع بينه وبين أبي،
فسأله عن "ما لي لا أعبد"[13] و"مالي لا أرى
الهدهد"، "ولي نعجة"، "ولي دين"، فنصب "مالي لا
أعبد" "ولي دين". ووقف[14] على "مالي لا
أرى الهدهد" "ولي نعجة"، فقال الكسائي:
"هذا مما لا أعلمه بعلمي، ولا يعلمه أحد إلا بالتعلم،
ثم سأله عن حروف كيف كان أبو جعفر يقرؤها؟ وكيف كان شيبة يقرؤها؟ فقال له:
"قراءة نافع فيها كذا وكذا، وهي قراءتنا، وإنه قد كفانا المؤونة، حتى لو
أدركنا من أدرك ما عدونا ما فعل"[15]، إنه أخبرنا أنه
أدرك هؤلاء القوم فنظر إلى ما اجتمع عليه اثنان منهم فأخذه، وما شذ فيه واحد
فتركه. قال: فإني على حال أحب أن تعلمني، فأبى، فكلم الكسائي الفضل[16]،
وذكر أنه إنما سأل أمير المؤمنين هارون هذا المجلس لهذا المعنى، فقال له الفضل:
أحب أن تجيبه إن خف عليك، فإن له من أمير المؤمنين ومنا مكانا[17]،
فقال: "ما يثقل علي أن أكون أعلمه، إلا أنه شيء قد أمتناه بالمدينة، واجتمعوا
على قراءة نافع" قال: فإني أحب أن تفعل، قال: سل عما بدا لك، فأخذ يسأله وهو
يجيبه قال فيها أبو جعفر وشيبة وفلان"[18].
ومن خلال هذا التقويم على لسان صاحب القراءة نفسه، ثم على
لسان أصحابه وغيرهم، ندرك السمات العامة لاختياره، ونتبين معالمه الكبرى، وهي في
مجملها ـ كما يبدو ـ منبثقة عن العناصر الخمسة التي سبق الحديث عنها، مما يفصح
تمام الإفصاح عن مقومات منهجه الصارم وأسلوبه في الانتقاء والاختيار، كما نفذ
خطواته بكل إحكام وانسجام، فجاءت منه في النهاية هذه القراءة "السنية"
التي صارت إليها أهل بلده العامة منهم والخاصة"[19]،
وشهدوا له بمقتضى هذا الأخذ بالإمامة المطلقة فيها لا ينازعه فيها منازع.
وننتهي من هذا إلى نتيجة نسعى بالبحث إلى بلوغها، هي تمثلنا
لأصول منهجه في الاختيار، وتعرفنا على مقوماته، وإدراكنا لمجالي إمامته في قراءة
بلده، واستقلال شخصيته فيها فيما أخذ به من حروف واختيارات، بصورة رشحته عند علماء
هذا الشأن ليوضع اسمه بين فحول أئمة القراء وأساتذة الإقراء، ومكنته من انتزاع
الاعتراف له بذلك في مصره وعصره وفي غير مصره وعصره، كما أتاحت له أن يستقل بمنصب
إمامة الإقراء في حياة أكابر شيوخه، وأن يستقل عنهم في كثير مما قرأ به من حروف،
وربما خالف في كثير منها معهم نظراءه من السبعة أئمة الأمصار، وهذه أمثلة من تفرده
نقتصر عليها للاختصار، مما تفرد به في سورة البقرة وحدها.
ـ نماذج من مخالفته للسبعة وغيرهم في سورة البقرة
ـ فمن ذلك قراءته لفظ "النبيء"
"والنبوة" "والأنبياء" ومنه في البقرة "ويقتلون
النبيئين" فهمزها وحده ولم يهمزها غيره من السبعة[20].
ـ ومن ذلك مخالفته لباقي السبعة والعشرة في لفظ
"الصابين" في البقرة والحج[21] ولفظ
"الصابون" في المائدة[22]، فقرأها بغير همز
بعد الباء ولا خلف للهمز،
وهمزها الباقون[23].
ـ ومن ذلك مخالفته للسبعة في قوله تعالى وأحاطت
به خطيئاته"[24]،
فقرأ وحده" بالجمع، وقرأ غيره من السبعة "خطيئته بالتوحيد"[25].
ـ ومن ذلك مخالفته لشيخه أبي جعفر ولباقي القراء
السبعة في قوله تعالى "ولا تسأل عن أصحاب الجحيم"[28]، فقرأ نافع
وحده "ولا تسأل" مفتوحة التاء مجزومة اللام، وقرأ الباقون بضم التاء
ورفع اللام"[29].
ـ ومن ذلك مخالفته لباقي السبعة غير ابن عامر في
قراءة قوله تعالى "واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى"[30] قرأ نافع
وابن عامر "واتخذوا" بفتح الخاء بلفظ الماضي، وقرأ باقي السبعة بكسر
الخاء على الأمر"[31].
ـ وخالف السبعة غير ابن عامر أيضا في قوله تعالى
"وأوصى بها ابراهيم بنيه"[33]، فقرأها
بهمزة قبل الواو وتخفيف الصاد، ووافقه ابن عامر، وقرأ باقي السبعة
"ووصى" بالواو والتشديد"[34].
ـ وقرأ نافع "لئلا يكون للناس"[35] ولفظ
"لئلا" حيث وقع، بإبدال الهمزة ياء، وقرأ باقي السبعة بالهمز[36].
ـ وقرأ نافع وحده في سورة البقرة "وزلزلوا
حتى يقول الرسول.."[37] برفع يقول،
وقرأ باقي السبعة "يقول" بالنصب"[38].
ـ وقرأ في سورتي البقرة والحج "ولولا دفاع
الله الناس.."[41] بكسر الدال
وألف بعد الفاء، وقرأ باقي السبعة "ولولا دفع" بفتح الدال وإسكان الفاء[42]، وقد تقدم
ذكر إنكار أبي عبيدة لصحة هذا الوجه وبيان فساد ما ذهب إليه من التأويل.
ـ وخالف السبعة في إثبات ألف "أنا" في
الأداء في قوله "قال أنا أحيي وأميت"[43]، قال ابن
مجاهد "كلهم قرأ"أنا أحيي وأميت"، يطرحون الألف التي بعد النون من
"أنا" إذا وصلوا في كل القرآن، غير نافع، فإن أبا بكر بن أبي أويس
وقالون وورشا[44] رووا عنه
"أنا أحيي" بإثبات الألف بعد النون في الوصل إذا لقيتها همزة في كل
القرآن، مثل قوله "وأنا أول المسلمين"[45]، إلا في
قوله "إن أنا إلا نذير مبين"[46]، فإنه
يحذفها في هذا الموضع مثل سائر القراء"[47].
وبرجوعنا للمصادر نجده في هذه المرة أيضا خالف ثلاثة من
شيوخه، بينما وافق قراء مكة غير ابن كثير، فقد قرأ "ميْسرة" بفتح السين
علي بن أبي طالب وابن عمر والأعرج وأبو جعفر وابن جندب ـ والثلاثة من أكابر شيوخه
ـ، وقرأ به من أهل البصرة الحسن وقتادة وأبو رجاء العطاردي".
وقرأ بالضم كنافع مجاهد بن جبر وابن محيصن وعطاء بن أبي رباح
وحميد بن قيس والحسن، وهي لغة هذيل"[50].
ونكتفي بهذه النماذج لبيان درجة استقلاله في القراءة عن عامة
القراء فيما أخذ به من اختيارات، وقد رأينا أنه كان في كثير من حروف القراءة يخالف
عامة أئمة الأمصار الخمسة، حتى إنه أحيانا يخالف قراءة مشايخه المشهورين، مما يدل
على سعة روايته.
ومن الطريف في هذا الصدد أن نجده في بعض اختياراته من حروف
القراءة يخالف قراءة شيخي قراء بلده وعميدي مدرسة القراءات بها: أبي بن كعب وزيد
بن ثابت، وذلك في مثل قراءته لقوله تعالى: "وانظر إلى العظام كيف ننشرها ثم
نكسوها لحما"[51]، فقد قرأ
"ننشرها" بالراء، وقرأ أبي وزيد معا "ننشزها" بالزاي"[52].
وأكثر من هذا طرافة وغرابة ما فعله نافع في اختياره في قراءة
مادة "يحزن" حيث وقعت في القرآن، فقد خالف في قراءتها شيخه أبا جعفر
مخالفة واضحة حتى تبدو وكأنه تعمدها وقصد إليها، فقد قرأ الشيخ "يحزن"
بفتح الياء وضم الزاي في جميع القرآن، إلا في قوله "لا يحزنهم الفزع
الأكبر" في سورة الأنبياء[53] فقرأها بضم الياء
وكسر الزاي[54]،
في حين قرأ تلميذه نافع بعكس ذلك فقرأ المادة كلها بضم الياء وكسر الزاي إلا في
هذا الحرف من سورة الأنبياء، فقرأ بفتح الياء وضم الزأي[55].
ولم يخالف هنا شيخه وحده، وإنما خالف جمهور القراء ونظراءه
من السبعة جميعا، قال ابن مجاهد:
"فكلهم قرأ "فلا يحزنك" و"ليحزن الذين
آمنوا" و"اني ليحزنني" بفتح الياء وضم الزاي، وقرأ نافع بعكس ذلك،
إلا في حرف سورة الأنبياء، فإنه فتح الياء وضم الزاي"[56].
وقد مثل الإمام السخاوي بصنيع نافع هذا لالتزام أيمة أئمة
القراء للرواية فقال:
"ومما يوضح تمسك هؤلاء الأئمة بالنقل ما نراه في
قراءتهم، من قراءة حرف في موضع على وجه، وقراءة ذلك الحرف في غير الموضع على خلاف
ذلك، كما قرأ نافع "يحزن" في جميع القرآن، إلا في الأنبياء .."[57].
ونقل ابن الجزري مثله عن القاضي أبي بكر الباقلاني مستدلا
لأصل هذا الاختلاف بجواز أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقرأ واحدا بعض
القرآن بحرف وبعضه بحرف آخر على ما قد يراه أيسر على القارئ ـ ثم قال ابن الجزري:
"وظهر من هذا أن اختلاف القراء في الشيء الواحد مع اختلاف المواضع، قد أخذه
الصحابي كذلك، إلى أن اتصل بالقراءة[58].. ثم ضرب أمثلة
لذلك فذكر منها قراءة أبي جعفر "يحزن" بالضم وكسر الزاي في الأنبياء
فقط، وفتح الياء وضم الزاي في باقي القرآن، وقراءة نافع عكسه في جميع القرآن بضم
الياء وكسر الزاي، إلا في الأنبياء فإنه فتح الياء وضم الزاي"[59].
[3] - التحديد لحقيقة الإتقان والتجويد للداني (مخطوط)، والنص منقول
عند السخاوي في جمال القراء 2/530، وأشار محققه إلى ص 93 من النسخة المطبوعة
بتحقيق الدكتور غانم قدوري حمد – مطبعة الخلود بغداد – 1407-1988.
[13] - سورة يس أول الآية رقم 22 وما بعدها في سورة النمل الآية رقم 20.
وقوله "ولي نعجة" في سورة ص:23.
[14] - يعني بالوقف الإسكان، وهو بمنزلة القطع، فلذلك جاز في آية النمل
وجاز الفتح، ولم يجز في يس إلا الفتح.
[17] - يعني أنه كان مؤدب ولده ينظر في سبب اتصاله به انباه الرواة على
أنباه النحاة للفقطي 2/255. قال الذهبي قي معرفة القراء 1/120 "وكان في
الكسائي تيه وحشمة لما نال من الرياسة بإقراء محمد الأمين ولد الرشيد وتأديبه أيضا
للرشيد".
[46] -كان ينبغي أن يقتصر على قوله "إن أنا إلا نذير" دون لفظ
"مبين" إذ لا يوجد في آية سورة الأعراف ومواضعها في القرآن في الأعراف
آية 188، والشعراء 115 والأحقاف آية 6.
[57]- جمال القراء وكمال الإقراء 2/645.
[59]- منجد المقرئين 61.
إرسال تعليق