عناصر الاختيار عند الإمام نافع كما تستقرأ من
أخباره وأقوال الأئمة عن قراءته:
سلك الإمام نافع في اختياراته في القراءة ذلك المنهج نفسه
الذي سلكه أئمة الاختيار من أهل الأمصار، وسار على الطريقة نفسها، إلا أن نافعا في
شروطه في الاختيار كان أكثر صرامة من غيره من قراء الصدر الأول ـكما سنرى ـ،
ولاسيما من جهة النظر في الأسانيد، فلذلك اعتبروا قراءته وقراءة عاصم أولى تلك
القراءات وأصحها سندا كما قدمنا. ونجمل فيما يلي أهم عناصر الاختيار عنده في النقط
التالية:
1-
اعتماده على الرواية
والنقل في اختياراته، لا على الاستحسان والقياس.
2-
اشتراطه توافر عنصري
الثقة والضبط في الرواة مع سلامة الذمة من الخوارم.
3-
توافر الاستفاضة
والشهرة في الحرف المختار وعدم شذوذه ومخالفة الجماعة.
4-
موافقة الوجه المختار
في القراءة والأداء للمرسوم في المصحف "الإمام".
5-
أن يكون الوجه المختار
فصيحا مأنوسا، بعيدا عن التقعر والتكلف والتأويل البعيد في معناه.
ولكي نتبين منهجه واضحا في تطبيق هذه العناصر، يجدر بنا أن
نقف معه على كل عنصر منها، لنرى كيف استوفاه في اختياراته، حتى انتهى إلى جمع ما
تواتر في حرفه من وجوه واختيارات في أصول الأداء وفرش الحروف.
أولا: ففيما يخص اعتماده في اختياره على الرواية والنقل عن المشايخ،
لا على الاستحسان الشخصي، أو القياس اللغوي والنحوي، نحا نافع منحى سلفه من الأئمة
الذين أخذوا القراءة عن الصحابة مباشرة، وسلك سبيل أمثاله من أئمة الأمصار في تحري
الاستفاضة والنقل الصحيح السائر الذي عليه الناس، دون الغريب النادر الذي لا يثبت
في الأثر والرواية، وهو المنهج العام الذي عبر عنه شيخ قراء بغداد في زمنه أبو بكر
بن مجاهد في كتاب "جامع القراءات" بقوله: "ولم أر أحدا ممن أدركت
من القراء وأهل العلم باللغة وأئمة العربية، يرخصون لأحد في أن يقرأ بحرف لم يقرأ
به أحد من الأئمة الماضين، وإن كان جائزا في العربية، بل رأيتهم يشددون في ذلك
وينهون عنه أشد النهي، ويروون الكراهية له عمن تقدمهم من مشايخهم، لئلا يجسر على
القول في القرآن بالرأي أهل الزيغ، وينسبون من فعله إلى البدعة والخروج عن
الجماعة، ومفارقة أهل القبلة، ومخالفة الأمة"[1].
ويقرر مثل ذلك الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره في غير موضع
حين يتعرض لذكر ما لم يصح عنده من القراءات فيقول: "وغير جائز في القرآن أن
يقرأ بكل ما جاز في العربية، لأن القراءة إنما هي ما قرأت به الأئمة الماضية، وجاء
به السلف على النحو الذي أخذوه عمن قبلهم"[2].
ولم يكن الإمام نافع في رفضه لاستعمال القياس فيما سبيله
الرواية، بدعا في أئمة القراء المعتمدين، فالنقول المستفيضة عن نظرائه من باقي
السبعة كلها تنعى على اعتماد القياس في كتاب الله، وهذا سفيان الثوري يقول عن شيخه
حمزة بن حبيب: "ما قرأ حمزة حرفا من كتاب الله إلا بأثر"[3].
وهذا شيخ أئمة اللغة وسيد القراء بالبصرة أبو عمرو بن العلاء
يقول: "ما قرأت حرفا من القرآن إلا سماعا وإجماعا من الفقهاء، وما قلت فيه
برأي، إلا حرفا واحدا، فوجدت الناس قد سبقوني إليه"[4].
وقال الأصمعي: "قلت لأبي عمرو بن العلاء: "وبركنا
عليه"[5]
في موضع، "وتركنا عليه" في موضع أيعرف هذا ـ يعني بالقياس ـ؟ قال: ما
يعرف، الا أن يسمع من المشايخ الأولين"[6].
وهذا أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي ـ سابع السبعة ـ يقول:
"لو قرأت على قياس العربية، لقرأت "كبره"[7] برفع الكاف، لأنه
أراد عظمه، ولكني قرأت على الأثر"[8].
فلا دخل إذن للقياس والاجتهاد الشخصي فيما طريقه الرواية،
إلا في اختيار ما هو أوثق في الثبوت أم أفصح في الأداء، أو أكثر انسجاما مع
التأويل المأثور، ولا أثر لغير ذلك من الرأي الذي قد يحتمله الرسم، أو يقبله اللفظ
ويتضح به المعنى، ولذلك قرر علماء هذا الشأن امتناع القراءة بالقياس المحض وحده فقال
أبو عمرو الداني في "المنبهة:
فلا طـريق
لقيــاس ونظـر في ما أتى فيه أداء أو
أثــر[9]
وقال في جامع البيان:
"وأئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في
العربية، بل على الأثبت في الأثر، والأصح في النقل، والرواية إذا ثبتت[10]
لم يردها قياس عربية، ولا فشو لغة، لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير
إليها"[11].
وقد غاب هذا الملحظ عن
طائفة من النحويين والمفسرين الذين تصدروا للطعن في بعض حروف القراءة مما قرأ به
بعض القراء السبعة، متوهمين أن القراءة لما كان مرجعها إلى اختيار القارئ، كان
لابد أن يكون فيها مجال للاجتهاد الشخصي، وإنما عكر عليهم في نظرنا أنهم لم
يتبينوا جيدا الفارق بين ما هو اجتهاد في اختيار رواية من بين جملة من الروايات،
وما هو اجتهاد من قبيل الرأي والوضع، دون أي سند من الرواية والنقل، إذ الأول
محدود النطاق في دائرة المروي، أما الثاني فلا ضابط له، ومن ثم فلا سبيل إليه.
وهذا القصور في الفهم
أيضا هو الذي أدى بجماعة منهم إلى إنكار تواتر قراءات السبعة، بدعوى أنها
اختياراتهم، وأن كل واحد من السبعة قد ذكر أسانيد قراءته، حتى قال بدر الدين
الزركشي:
"ان التحقيق أنها
متواترة عن الأئمة السبعة، أما تواتوها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففيه
نظر"[12].
وقد غاب عن هؤلاء مثل
ما غاب على من قبلهم، وهو أن اجتهاد القارئ في اختيار أحد وجوه القراءات من بين
جملة وجوه كلها متواتر، لا يخرج قراءته في الجملة عن أن تكون متواترة.
فمن قرأ مثلا في سورة
الفاتحة "ملك يوم الدين" مختارا حذف الألف، لا يختلف في شيء عمن اختار
"مالك" بالألف، فالقراءتان معا متواتران، واختيار القارئ لهذه على تلك
لا يمس منزلتهما في الصحة والثبوت.
قال الحافظ ابن الجزري:
"والشبهة دخلت عليهم من انحصار أسانيدها في رجال معروفين، فظنوها كاجتـهاد
الآحاد.. ثم ذكر أنه سأل شيـخه إمـام الأئمة أبـا المعالـي ـ رحمه الله تعالى ـ[13]
عن هذا الموضع، فقال: "انحصار الأسانيد في طائفة لا يمنع مجيء القرآن عن
غيرهم، فلقد كان يتلقاه أهل كل بلد يقرؤه منهم الجم الغفير عن مثلهم، وكذلك دائما،
والتواتر حاصل لهم، ولكن الأئمة الذين تصدروا لضبط الحروف، وحفظوا شيوخهم فيها،
وجاء السند من جهتهم... [14].
ولهذا الملحظ الذي نبه
عليه ابن الجزري وشيخه أبو المعالي، حذر طائفة من العلماء من السقوط في خطأ
المفاضلة بين الوجوه المتواترة في القراءة بصورة تؤدي إلى إنكار وجوه القراءات
الأخرى، مع تساويها في التواتر والاستفاضة[15]، كما لوحظ ذلك على
الإمام الطبري في تفسيره على جلالة قدره[16]، ولذلك يقول
العلامة أبو جعفر النحاس ـ أحد رجال مدرسة ورش في مصر ـ: "السلامة عند أهل
الدين إذا صحت القراءتان عن الجماعة أن لا يقال إحداهما أجود، لأنهما جميعا عن النبـي
صلى الله عليه وسلم" [17].
ويقول أبو حيان
الغرناطي في تفسيره: "ولا وجه لترجيح إحدى القراءتين على الأخرى، لأن كلا
منهما متواتر، فهما في الصحة على حد سواء"[18].
وقد نبه الإمام أبو
سعيد بن لب على الخطأ والتعسف في الحكم الذي وقع فيه كثير ممن أنكروا تواتر
القراءات السبع أو بعضها، لمجرد أنهم لا علم لهم أو لأهل بلدانهم بها، وذكر
"أن تواتر القراءات السبع إنما هو خصوص في القراء والأقطار، وليس تواتر عموم
كالعلم بالبلاد النائية والقرون الخالية، وإنما ذلك كتواتر أشياء من الصنائع عند
أهل كل صناعة، فلا يعرف ذلك التواتر غيرهم... كذلك قراءة نافع تواترت بالمدينة
وأحوازها عند قرائها، وعند من تنقل إليه كذلك في البلاد النائية، ان نقلت إليها،
فربما سمع قراء بلد قراءة متواترة في غيرها ثم ينكرونها، لأنهم لم يبلغهم تواترها،
ولا يقدح ذلك في تواترها"[19].
ومن سيطرة الأخذ بموجب
القياس على مناهج أهل اللغة والنحو، مبادرة طائفة من الكتاب إلى الطعن في جملة من
الاختيارات التي قرأ بها بعض السبعة، ونسبوهم فيها إلى الجهل والغباوة، على غرار
ما فعله ابن قتيبة في كتابه "تأويل مشكل القرآن" حيث انتقد على نافع
وغيره مواضع من القراءة خالف فيها مقتضى القياس اللغوي، فقال: "وقرأ
نافع" "فبم تبشرون"[20] بكسر النون، ولو
أريد بها الوجه الذي ذهب إليه الكاتب، لكانت "فبم تبشرونني" بنونين،
لأنها في موضع رفع"[21].
وفعل مثله أبو حاتم سهل
بن محمد السجستاني فعاب على نافع كسر النون في هذا الحرف، وقال: "هذا يكون في
الشعر اضطرارا"[22].
ومثله انتقاد أبي عبيدة
معمر بن المثنى على نافع قراءته: "ولولا دفاع الله الناس.."[23]،
وأنكر أن يقال "دفاع" وقال: "لأن الله عز وجل لا يغالبه أحد"[24].
قال مكي بن أبي طالب "وهذا وهم من أبي عبيدة، توهم فيه
باب المفاعلة وليس به"[25].
وانتقد بعض أهل العربية على نافع قراءته في قوله تعالى في
سورة الأنعام: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين"[26]
بإسكان ياء "محياي" وفتح "ومماتي" قالوا: "وكان الوجه أن
يعكس فيفتح الأولى تجنبا لالتقاء الساكنين، ويسكن الثانية"[27].
ولا يخفى أن هذه الانتقادات إنما تقوم على الظن بأن نافعا
ونظراءه من الأئمة إنما يرجعون في اختياراتهم إلى الاجتهاد الشخصي، مما ترتب عنه ـ
في زعمهم ـ سوء تصرف في القراءة، أو سوء تصور للفصيح من الكلام، وحتى قال ابن
قتيبة بعد أن عدد حروفا مماثلة قرأ بها السبعة وغيرهم، وبعد حملة عنيفة على قراءة
حمزة خاصة، قال: "وما أقل من سلم من هذه الطبقة في حرفه من الغلط
والوهم"[28].
ونحن نعتقد أن نافعا وأمثاله من خيار الأئمة ما كان ليخفى
عليهم ما يوجبه القياس النحوي والمقتضى اللغوي لولا أنهم يستندون إلى ركن ركين من
الرواية عن المشايخ، إذ القراءة ـ كما جاء عن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت وجمــاعة
من التابعين ـ سنة يأخذها الآخر عن الأول، فاقرأوا كما علمتموه ـ أو كما علمتم
ـ"[29].
ولهذا كان طائفة من أئمة القراء كنافع وأبي عمرو بن العلاء
يقول: "لولا أنه ليس لي أن أقرأ إلا بما قرأت"[30]
لقرأت حرف كذا وكذا، وحرف كذا وكذا"[31].
وقد أشار الأندرابي في صدر كتابه في القراءة إلى منهج نافع
في اختياره فقال:
"وكان مع علمه بقراءة القرآن ووجوه علومه يتبع النقل
والأثر، ويتجنب القياس برأيه والنظر"[32].
ويحقق هذا أيضا ما ذكره عنه تلميذه الأصمعي قال:
"سمعت نافعا يقرأ "يقص الحق"[33]
فقلت له: ان أبا عمرو يقرأ "يقض الحق"[34] وقال: القضاء مع
الفصل، فقال نافع: وي يا أهل العراق، تقيسون في القرآن؟ "[35].
قال السخاوي تعليقا على هذا الخبر: "ومعنى قول أبي عمرو
قضاء مع الفصل، أي أني اخترت هذه القراءة لهذا، ولم يرد القراءة الأخرى، ومعنى قول
نافع: تقيسون في القرآن، لم يرد به أن قراءتهم أخذوها بالقياس، وإنما يريد أنهم
اختاروا ذلك كذلك، والقراءتان فاشيتان عندهما، قال ابن أبي هاشم[36]:
يريد أنا لم نأخذ القراءة على قياس العربية، إنا أخذناها بالرواية"[37].
وانطلاقا من مبدأ الرواية عن الشيوخ المعتبرين، كان نافع لا
يبالي أن توافق مقتضياتها مذاهب الفقهاء أو أن تخالفهم، وعلى مثل منهجه كان قراء
المدينة في ذلك، كما حكى عنهم إسحاق المسيبي في شأن البسملة في الصلاة قال:
"كنا نقرأ لسم الله الرحمن الرحيم أول فاتحة الكتاب، وفي أول سورة البقرة،
وبين السورتين، في العرض والصلاة، هكذا كان مذهب القراء بالمدينة ـ قال ـ وفقهاء
المدينة لا يفعلون ذلك"[38].
ولعل مرجع الخلاف بينهم إلى كون القراء كانوا يسيرون على سنن
المشايخ قبلهم الذين تلقوا القراءة عن الصحابة، فكانوا أوفياء للرواية كما تلقوها،
لا يفرقون بن حال وحال، في العرض أو الصلاة أو غير ذلك، بينما نظر الفقهاء ممن لا
يبسمل في الصلاة، اما إلى اختلاف الآثار في المسألة ورجحان الترك عندهم على غيره[39]،
واما إلى اعتبار عمل الناس بالمدينة، فأصبحت القضية موضع اجتهاد وترجيح ربما
تتكافأ فيه الأدلة، ولا يبقى المخرج إلا بالرجوع في ذلك إلى المتواتر عند القراء،
ولذا قيل ان مالكا ـ رحمه الله ـ لما سأل نافعا عن البسملة فقال: السنة الجهر بها،
سلم إليه، وقال: كل علم يسأل عنه أهله"[40]، وفي رواية قال:
سلوا عن كل علم أهله، ونافع إمام الناس في القراءة"[41].
[2]- جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 2/146.
[3]- معرفة القراء الكبار 1/95 طبقة 4 ترجمة 5. – وغاية النهاية 1/263
ترجمة 1190.
[4]- نكت الانتصار لنقل القرآن للباقلاني 416.
[5]- يعني قوله تعالى "وباركنا عليه وعلى إسحاق" سورة
اليقطين 113، وقبلها وبعدها" وتركنا عليه في الآخرين" الآيات
78-108-129.
[6]- السبعة في القراءات لابن مجاهد 48.
[7]- يعني قوله تعالى:
"والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم " سورة النور الآية 11.
[8]- جمال القراء للسخاوي 1/241.
[13]- المراد به شيخه محمد ابن أحمد بن علي بن اللبان الدمشقي (715-776
هـ) ترجم له في غاية النهاية 2/72-73 ترجمة 2755.
[14]- منجد المقرئين لابن الجزري 70.
[15]- يمكن الرجوع إلى إنكار بعض الأئمة الترجيح بينها في البرهان
1/340 والإتقان 1/83.
[16]- يمكن الرجوع في ذلك إلى كتاب "دفاعا عن القراءات المتواترة
في مواجهة الطبري المفسر "للدكتور لبيب السعيد، وهو كتاب صغير في 150 صفحة.
[17]- نقله الزركشي في الإتقان 1/340 – والسيوطي في الإتقان 1/83.
[18]- البحر المحيط في التفسير لأبي حيان 1/199.
[30] - النشر1/17 وورد قوله "إلا بما قرئ به" ينظر في السبعة
32 – ومعرفة القراء 1/65 وغاية النهاية 1/290.
[36] - هو الإمام عبد الواحد بن عمر بن محمد بن أبي هاشم أبو طاهر
البغدادي من أكابر أصحاب ابن مجاهد سيأتي في مكانه من البحث. ترجمته في غاية النهاية
1/475-476 ترجمة 1983.
[39] - يمكن الرجوع في اختلاف الآثار في ذلك إلى مصنف الحافظ عبد الرزاق
2/88-89 فقد أفاض في ذلك. وإلى كتاب الانصاف فيما بين العلماء في البسملة من الاختلاف لابن عبد البر النمري – الرسائل
المنيرية 1/254.
إرسال تعليق