تمثيل نافع لقراءة أهل بلده مما عرف بالقراءة السنية
إلا أنه ينبغي أن نشير إلى أن هذا الاستقلال الذي نوهنا به
عند الإمام نافع بالنسبة للمشهورين من رجال مشيخته، وما ذكرنا من بروز شخصيته في
اختياراته على العموم، لم يحل دون تمثيله لقراءة جمهور بلده تمثيلا جعلهم كما
قدمنا يجتمعون على قراءته، ويجدون فيها الصيغة المثلى لما تحرر لديهم من القراءة
السنية كما قرأ بها سلف الأمة وعلية الصحابة والتابعين.
وقد ساق العلامة ابن الباذش وغيره خبرا في هذا السياق يدلنا
على مقدار تمثيل اختيارات نافع لقراءة أهل المدينة في زمنه، فذكر ابن الباذش بسنده
عن سليم بن عيسى عن حمزة ـ رحمة الله عليه ـ قال:
"قرأت على أبي عبد الله جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن
علي بن أبي طالب[1]
ـ رضي الله عنهم ـ القرآن بالمدينة، فقال جعفر: ما قرأ علي أحد أقرأ منك، ثم قال:
لست أخالفك في شيء من حروفك إلا في عشرة أحرف، فإني لست أقرأ بها، وهي جائزة في
العربية".
"قال حمزة: فقلت: جعلت فداك، أخبرني بم تخالفني؟ قال:
أنا أقرأ في النساء "والأرحام" نصبا، وأقرأ "يبشر"مشددا،
و"حتى تفجر" مشددا، "وحرام على قرية "بالألف، و"سلام على
آل ياسين "مقطوعا، و"مكر السبئ" بالخفض، "وما أنتم
بمصرخي" بفتح الياء، "ويتناجون" بألف، وأظهر اللام عند التاء
والثاء والسين، مثل: "بل تاتيهم"، "وهل تنقمون منا"،
و"هل ثوب" و"بل سولت"، وأنا أفتح الواو من قوله
"وولدا" في كل القرآن، هكذا قرأ علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال
حمزة: فهممت أن أرجع عنها وخيرت أصحابي"[2].
ومن المقارنة بين قراءة نافع في هذه الحروف العشرة وقراءة
جعفر بن محمد، نجد المطابقة التامة بينهما فيها جميعا بدون استثناء، مما يدل على
أن قراءتيهما واحدة أو متقاربة إلى أبعد الحدود، وربما كان سبب هذا التوافق أو
التقارب راجعا إلى وحدة المصدر، على ما ذكره الإمام الأندرابي عن أبي جعفر محمد بن
مسعود ـ وكان من قراء المدينة ـ قال: "قراءة أهل المدينة قراءة علي بن أبي طالب
ـ رصي الله عنه ـ[3]
فيستفاد من هذا توافق قراءة نافع مع قراءة جعفر بن محمد، لأنهما كانتا معا جاريتين
في حروفهما على ما تواتر واستفاض عند أهل المدينة نقلا عن قراء الصحابة علي وعثمان
وأبي وزيد وابن عباس وأمثالهم، بحيث لم يكن لنافع فيها إلا زيادة تحرير وتنقيح،
واقتصار على الشائع والسائر المشهور.
ولعله من ههنا جاء وصف الواصفين لها خاصة بأنها سنة، فروى
سعيد بن منصور أنه سمع مالكا يقول: قراءة نافع سنة"[4]، وقال عبد الله بن
وهب: قراءة أهل المدينة سنة، فقيل له: قراءة نافع؟ قال: نعم[5].
وجاء عن الليث بن سعد أنه قال:"أدركت أهل المدينة وهم
يقولون: قراءة نافع سنة"[6].
وللعلماء في بيان تأويل قول مالك وأهل المدينة هذا ووصف
قراءة نافع بذلك بوجه خاص وجوه:
فقال الإمام مكي بن أبي طالب في أول كتاب التبصرة:
"يعني بذلك سنة أهل المدينة"، ثم قال في دفع التوهم بأن سواها خارج عن
السنة: "والقراءات الثابتة من السنة التي لا مدفع فيها لأحد"[7].
أما الإمام القيجاطي فقد رأى أن مراد مالك ترجيحها على غيرها
فقال: "وذلك أن مالكا ـ رحمه الله ـ أراد أن يرجح قراءة نافع على غيرها من
القراءات، فعبر عن ذلك بأنها سنة، أي: هي الأولى بالاتباع من غيرها، لاجتهاد نافع،
ولكون أهل المدينة اجتمعوا عليه"[8].
وذهب الإمام أبو بكر بن العربي المعافري إلى أن المراد تمثيل
قراءة نافع لمقتضى الرخصة في القراءة بالأحرف السبعة التي أنزل بها القرآن، فقال:
"روى ابن وهب وابن القاسم عن مالك قالا:
"أخرج إلينا مالك مصحفا لجده زعم أنه كتبه في أيام
عثمان حين كتب المصاحف، مما فيه" ولا يخاف عقباها"[9] بالواو، وهكذا قرأ
أبو عمرو من القراءة السبعة وغيره[10]. فإن قيل: لم يقرأ
به نافع وقد قال مالك: "السنة قراءة نافع"؟ قلنا: ليس كل أحد من أصحابه،
ولا كل سامع يفهم عنه، في قراءة نافع الهمز وحذفه، والمد وتركه، والتفخيم
والترقيق، والإدغام والإظهار، في نظائر لها من الخلاف في القراءات، فدل على أنه
أراد: "السنة في توسع الخلق في القراءة بهذه الوجوه، من غير ارتباط إلى شيء
مخصوص منها"[11].
وسواء حملنا قول مالك وأهل المدينة على ما ذهب إليه مكي أم
القيجاطي أم ابن العربي، فإننا لا نعدو الحقيقة في شأن هذه القراءة، إلا أن ما ذهب
إليه ابن العربي يستوقفنا هنا على وجه الخصوص لأهميته، إذ رب قائل يقول: إذا كانت
قراءة نافع سنة أو "هي السنة" فمن أية رواية؟ وعلى أي وجه من أوجه
الأداء؟ وكيف نفسر وقوع الخلاف بين أصحابه عنه مع ما ذكرناه له من أخذه في القراءة
باختياره الخاص؟
يقتضي منا الجواب عن هذه الأسئلة وقفة خاصة لبيان ذلك،
وتحديد الأسباب المشروعة لوجود الخلاف حتى عن القارئ الواحد في المصر الواحد، سواء
تعلق الأمر بنافع أم بغيره من أئمة القراء.
[1]- هو المعروف بجعفر الصادق من سادات أهل البيت وعلماء المدينة، إلا
أن الشيعة تزيدوا عليه، وهو من شيوخ مالك. توفي سنة 148 وهو ابن 68 سنة. ترجمته في
مشاهير علماء الأمصار 127 ترجمة 997.
[10] - قال ابن مجاهد في السبعة: "قرأ نافع وابن عامر "فلا
يخاف" بالفاء، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام، وقرأ ابن كثير وعاصم
وأبو عمرو وحمزة والكسائي "ولا يخاف" بالواو، وكذلك هي في
مصاحفهم".
Post a Comment