اختلاف الرواة عنه وأسبابه:
كان زمن تصدر نافع للإقراء ممتدا جدا يبلغ أزيد من سبعة
عقود، وقد التف عليه خلال هذا العهد الطويل من طلاب القراءة عدد لا يحصى، منهم من
أتيح له معه طول الصحبة حتى دون عنه اختياراته وكانت له نسخة عنه، ومنهم من لم يتح
له ذلك، فاكتفى بالسماع منه، أو بعرض قراءته عليه، فكان بين الرواة عنه بسبب ذلك
وغيره وجوه واسعة ومنادح كثيرة من الاختلاف في أصول الأداء وحروف القراءة مما
يتوارد عليه الخلاف بين القراء.
وكان نافع إلى جانب ذلك ـ كما قيل عنه ـ "عالما بوجوه
القراءات، متبعا لآثار الأئمة الماضين ببلده"[1]، وكان احتكاكه
الدائم بالقراء، ومراسه الطويل للإقراء، قد وسع من مداركه مع الزمن، ونمى من
معرفته، وأغنى من خبرته باللغات والأساليب التي تكلمت بها العرب الفصحاء في
حواضرها وبواديها، وقرأت بها القراء في الأمصار، فكان يتعامل مع أصحابه والعارضين
عليه من هذا الأفق الرفيع والمستوى الخصب، الذي يتقبل بصدر رحب لهجة الراوي
وروايته، طالما أنها لا تجافي الفصاحة المطلوبة في القراءة، ولا تصادم النقل
الصحيح، وانطلاقا من هذا المبدأ لم يكن يجترئ على رد قراءة لغيره، أو يتعصب
لاختياره، بل كان "يسهل القرآن لمن قرأ عليه، إلا أن يقول له إنسان: أريد قراءتك"[2].
ولقد فوجئ به أحد تلامذته من المصريين يأخذ بهذا المنهج
حينما رحل إليه، قال معلى بن دحية:
"سافرت بكتاب الليث[3] إلى نافع لأقرأ
عليه، فوجدته يقرئ الناس بجميع القراءات، فقلت له: يا أبا رؤيم ما هذا؟ فقال لي:
سبحان الله، أأحرم ثواب القرآن؟ أنا أقرئ الناس بجميع القراءات، حتى إذا كان من
يريد حرفي أقرأته به"[4].
ومعنى هذا أنه كان يترك القارئ يقرأ عليه بما اعتاده من
الوجوه تيسيرا عليه، فتكون قراءته عليه بذلك رواية على سبيل الإقرار، لا على سبيل
الاختيار، وبذلك تختلف الروايات عنه باختلاف العارضين.
وقد شرح الإمام المجاصي هذا المعنى بقوله: "كان كل من
قرأ على نافع لا يرد عليه شيئا فيما سمع، حتى يقول له الذي يقرأ عليه: أريد قراءتك
التي تقرأ بها في خاصة نفسك، فيقرئه بها، ولهذا كثر الاختلاف عنه في القراءة"[5].
وقد سبق أبو محمد مكي بن أبي طالب القيرواني إلى تقرير هذا
المعنى في كتاب "الابانة"، وعلل به للخلاف الواسع الملحوظ بين ورش وباقي
الرواة عن نافع، وبالأخص بينه وبين قالون عنه، الذي "اختلف معه في أكثر من ثلاثة آلاف حرف، من قطع وهمز وتخفيف
وإدغام وشبهه، ولم يوافق أحد من الرواة عن نافع رواية ورش عنه، ولا نقلها أحد عن
نافع غير ورش، وإنما ذلك لأن ورشا قرأ عليه بما تعلم في بلده، فوافق ذلك رواية
قرأها نافع على بعض أئمته، فتركه على ذلك، وكذلك ما قرأ عليه قالون وغيره، وكذلك
الجواب عن اختلاف الرواة عن جميع القراء"[6].
بمثل هذه المرونة كان يتعامل نافع مع العارضين عليه، ولاسيما
فيما يرجع إلى طرق الأداء التي تخضع كثيرا لعادة القارئ في النطق بالكلمات في
لهجته، فيما يتعلق بالهمز والتخفيف والفتح والإمالة والإظهار والإدغام ونحو ذلك،
إذ كان أئمة القراء لا يأخذون القارئ بما قد لا يقوى عليه ولا يطوع به لسانه في
الأداء، سيرا مع ما كان يسلكه أهل الفصاحة من التوسع في اللغة ووجوهها، والإبقاء
على قدر من المرونة فبها، بشرط الابتعاد عن مظاهر التقعر والتكلف البعيد، فد حكى
أبو الفتح بن جني من مذاهب العرب "أن الفصيح منهم قد يتكلم باللغة غيرها أقوى
في القياس عنده منها.. قال: منها ما حدثنا به أبو علي[7] ـ رحمه الله ـ قال
أبو بكر[8]
عن أبي العباس[9]
أن عمارة[10]
كان يقرأ "ولا الليل سابق النهار"[11] بالنصب[12]
قال أبو العباس: فقلت له ما أردت؟ فقال: أردت "سابق النهار"[13]
قال: فقلت: فهلا قلته؟ فقال: لو قلته لكان أوزن"[14].
قال ابن جني تعقيبا عليه: "قوله أوزن أي: أقوى وأمكن في
النفس، أفلا تراه كيف جنح إلى لغة وغيرها أقوى في نفسه منها"[15].
وعلى مثل هذا الصنيع درج أئمة القراء، فكانوا يفعلونه مع
العارضين عليهم، فلا يلزمون القارئ في أصول الأداء بما يرونه الوجه المختار لقوته
في اللغة والقياس، أو لشيوع استعماله في القراءة والأداء، ولهذا نجد الخلاف يتسع
أحيانا في بعض حروف القرآن اتساعا كبيرا، بسبب قبول اللغة فيها للوجوه المتعددة،
كالوجوه في "أف" و"هيت لك" و"عبد الطاغوت"[16]
ونحوها.
ويدخل في هذا المنحى من التيسير على العارضين ما جاء عن نافع
من قوله بالوجهين أو أكثر في أداء الحرف الواحد، وتخييره القارئ أحيانا في القراءة
بأيها شاء، فقد روى عنه قالون مثلا قوله: "لا تبال كيف قرأت "بسطة"[17]
و"يبسط"[18] بالصاد أو
بالسين"[19].
وقرأ ورش رواية عن نافع الحرفين "وبيصط" في
البقرة، و"بصطة" في الأعراف بالصاد
[22] وقرأ غيرهما في
سائر القرآن بالسين"[23].
وانما يرجع ذلك بعد الرواية والنقل إلى اختلاف الأصوات،
وتعدد اللغات، فلذلك رسم الصحابة بعضه بالصاد[24] وباقيه بالسين،
وذلك مألوف في اللغة والاستعمال مما يسميه علماء اللسان بـ"تداخل
اللغات"[25].
وهذا تفسير كثير من الاختلاف في حروف القراءة وأصول الأداء، مثل الاختلاف في
"الصراط" وصراط و"المصيطرون" و"يصدر الرعاء"[26]
ونحوها، ومثل الاختلاف في أحوال الهمز وتخفيفه بالابدال أو التسهيل أو النقل أو
الحذف، ومثل الفتح والتقليل والإمالة، تبعا لما اعتاده لسان القارئ ودرج عليه في
قراءته، وفي القراء يومئذ من لا يستقيم لسانه البتة بالنطق بغير ما درب على
استعماله في لسانه من الحروف واللغات.
وقد حكى أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني قال: "قرأ
أعرابي بالحرم "طيبي لهم وحسن مئاب"[27] فقلت:
"طوبى" فقال: "طيبي"، فلما طال علي قلت: "طو، طو"
فقال: "طي، طي" ولم يفارق الأعرابي لغته إلى متابعة أبي حاتم"[28].
وانتهاجا لهذا المهيع في القراءة نقل قالون عن نافع "أن
نافعا لم يكن يعيب رفع ميم الجمع ـ يعني في مثل إليهم وعليهم كما يقرأ بذلك أهل
مكة ـ[29]،
قال ابن مجاهد: "فهذا يدل على أن قراءته كانت بالإسكان"[30].
ويمكن الرجوع إلى مظاهر هذه المرونة في قراءة نافع واختلاف
أصحابه عنه بالرجوع إلى ما ذكره عنه ابن مجاهد في كتاب السبعة في قراءة كلمات مثل
"كفؤا"[31]
و"هزؤا"[32] و"جزءا"[33]
بأسكان أواسطها مع الهمز، أو تحريكها بالضم معه، أو اسكان بعضها وتحريك باقيها[34]،
وفي قراءة ألفاظ مثل "البيوت" و"الغيوب" و"العيون"
و"جيوبهن" بضم الأول أو كسره في الجميع، أو بعضها دون بعض[35]،
ومثل ذلك في قراءة ما اجتمعت فيه همزتان من كلمة أو كلمتين[36].
ومن المعلوم أن مجيء هذا عن نافع وأمثاله من الأئمة، ليس
مرده إلى ضعف ضبط الرواة، إنما مرده إلى سعة الرصيد المتداول بين القراء في وجوه
القراءة وأحوال الأداء، مما صح في الرواية وقرأ به السلف في مختلف الأمصار، وقرأ
به الأئمة أو قرئ عليهم به فأقروه، باعتباره مظهرا من مظاهر الترخص في القراءة
"بلحون العرب وأصواتها"[37]، غير مفرقين بين
حرف وحرف، طالما تحققت في القراءة به شرائط القبول الآنفة الذكر، فلم يكن نافع في
ذلك إلا واحدا من أئمة المقرئين الذين اتسعت رواياتهم، ووقفوا على مختلف الحروف
والروايات، فكانوا يقرأون منها بما يختارون، ويقبلون إلى جانب ذلك كل ما قرأ به
غيرهم، على غرار ما جاء عن أبي عمرو بن العلاء إمام أهل البصرة في القراءة.
روى أبو عمرو الداني بسنده إلى أبي زيد سعيد بن أوس بن ثابت
الأنصاري البصري قال: "حملت نفسي على أن أذهب إلى أبي عمرو بن العلاء، فصليت
خلفه في رمضان، فرأيته يقرأ ليلة بالإدغام[38]، وليلة بالإظهار،
وليلة بقراءة، وليلة بأخرى، ومرة بهمزة، ومرة بغير همزة، فقلت: أحببت أ ن أكتب
قراءتك، فصليت خلفك فلم أضبط، فكيف أصنع؟ فقال: اجمع الحروف، ثم اعرضها علي، فجمعت
ومضيت فقرأت عليه، فما قال لي فيه: هذا اختياري أخذته، فقلت لأبي عمرو: أكل ما
اخترته وقرأت به سمعته؟ قال: لو لم أسمعه من الثقات لم أقرأ به، لأن القراءة
سنة"[39].
[7] - هو شيخه أبو علي الحسن بن أحمد الفارسي النحوي صاحب
"الإيضاح في النحو" و"الحجة في علل القراءات السبع" توفي سنة
377. ترجمته في نزهة الألباء 315-317 رقم 124 – وغاية النهاية 1/206 رقم 951.
[8] - أبو بكر محمد بن السري البغدادي المعروف بابن السراج النحوي من
أصحاب المبرد توفي سنة 316 هـ . ترجمته في تاريخ بغداد للخطيب 5/319 رقم 2842.-
ونزهة الألباء 249-250.
[16] - في هيت لك ست قراءات – الكشف مكي بن أبي طالب 2/8-9 وإملاء ما من
به الرحمن للعكبري 2/28. – وفي "وعبد الطاغوت" اثنا عشرة قراءة – إملاء
ما من به الرحمن 1/128.
[21]- السبعة 186.
[23]- السبعة 185.
[24] - رسمت "وبيصط" في سورة البقرة بالصاد، وفي غيرها في
سائر القرآن بالسين، وكذلك رسمها الصحابة في جميع مصاحف الأمصار. – المقنع لأبي
عمرو الداني 84.
[25] - ينظر في أمثلة تداخل اللغات الاختلاف في لفظ "الصقر"
بالصاد والسين والزاي – الخصائص لابن جني 1/374.
[29]- يمكن الرجوع في ذلك إلى كتاب السبعة لابن مجاهد 108.
[30]- نفس المصدر والصفحة.
[31]- سورة الإخلاص الآية الأخيرة.
[32]- كثيرة الورود في القرآن.
[34]- السبعة لابن مجاهد 160.
[35]- السبعة لابن مجاهد 178-179.
[36]- ينظر في ذلك السبعة 138-140 – والتعريف للداني 240-242.
[37]- ينظر تمام حديث "اقرأوا بلحون العرب وأصواتها" الحديث
أخرجه أبو داود في سننه.
[38]- لعله يعني الإدغام الكبير، وهو مما اشتهر به بين القراء السبعة.
[39]- نقله الباقلاني في نكت الانتصار 417 – وأبو سعيد بن لب في جوابه
عن تواتر القراءات السبع – ينظر في المعيار للونشريسي 12/105.
Post a Comment