اتقان الامام نافع لعلم اللغة العربية:
لا شك أن نافعا بحكم نشأته بين القبائل العربية الفصيحة،
وطول مناقشته للفصحاء والعلماء من رجال مشيخته، قد اكتسب في العربية وعلوم اللسان
ملكة رفيعة المستوى، إلا أننا لن تسوقنا الحماسة له إلى الحديث عن نبوغ له في ذلك
يتميز عن علماء القراءة في زمنه، أو يطاول به أو يزاحم عليه علماء اللغة واللسان،
وإنما نريد إثبات مستوى بارز له في هذا المجال على مستوى المشاركة والمدارسة
والاهتمام كما تدل عليه شواهد كثيرة من أهمها اختياراته في القراءة والأداء، مما
أعطينا عنه نظرة في الفصل الماضي ورأينا أنها تقوم في كثير من الأحيان إلى جانب
الرواية والنقل المتواتر، على منازع معنوية، واعتبارات لسانية من لغوية وبيانية،
إذ لولا تحقق مثل هذا المستوى لديه في تلك الاختيارات ما كان ليحظى في تلك
الاختيارات بتنويه أهل هذا الشأن وثنائهم عليها حتى وصفها بعضهم بكونها "بز
القراءات"[1].
ويدلنا على اهتمام نافع بالعربية كثرة ما نجده من نقوله عن
شيوخه، وكثرة نقول تلامذته عنه في توجيه حروف القراءة بالإشارة إلى معانيها،
واختلاف منازع القراء فيها.
فمن ذلك ما حدث به في اختلاف القراءة في قوله تعالى "ثم
اتبع سببا حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة.."[2].
قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسيره: حدثنا يونس[3] قال:
أخبرنا ابن وهب قال: "حدثني نافع بن أبي نعيم قال: سمعت عبد الرحمن الأعرج[4] يقول: كان
ابن عـباس يقـول: "في عين حمئة"[5]، ثم
فسـرها: ذات حمــأة. قال نــافع: وسئل عنـها
ومن هذا القبيل ما نقله ابن أبي حاتم عنه أيضا في تفسير لفظة
"الفوم" من قوله تعالى في سورة البقرة "فادع لنا ربك يخرج لنا مما
تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها..."[9]. إذ
جاءت القراءة فيها بلفظ "وثومها" منسوبة إلى مصحف ابن مسعود[10]، وتروى
قراءة عن ابن عباس أيضا
[11]، وفسرت
قراءة الجمهور "وفومها" بالفاء: بالخبز وبالحبوب، كما فسرت بالثوم
بإبدال الثاء فاء، على طريقة العرب في بعض الأمثلة من ذلك، فتتحد القراءتان في
المعنى مرة، وتختلفان أخرى[12]، وعلى
تأويلها بالمعنى الأول جاء الخبر من طريق نافع، قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن
عبد الأعلى قراءة، قال: أنبأنا ابن وهب قراءة، حدثني نافع بن أبي نعيم أن ابن عباس[13] سئل عن قول
الله "وفومها"، ما فومها؟ قال: الحنطة، قال ابن عباس: أما سمعت قول
أحيحة بن الجلاح[14]
قد كنت أغنى الناس شخصا واجدا ورد المديــنة عن زراعـــة فـــــوم[15]
ومن ذلك ما حدث به نافع أيضا عن بعض شيوخه في بيان تأويل
كلمتين من القرآن اختلفت القراءة فيهما، فاختلف التأويل باختلاف القراءتين، وذلك في
قوله تعالى
في سورة المعارج: "يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون[16]. وقوله في سورة القصص: "فأرسله معي ردا يصدقني"[17].
قال عبد الله بن وهب: حدثني نافع قال: سألت مسلم بن جندب عن
قوله تعالى: "كأنهم إلى نصب يوفضون" فقال: إلى غاية، فسألته عن
"ردا يصدقني"، فقال: الردء: الزيادة"[18].
وهكذا نلاحظ في الأمثلة الثلاثة أن الأسئلة توجهت إلى
المعاني لا إلى كيفية القراءة، وكأن القراءة إنما هي تابعة للتفسير على خلاف ما هو
متعارف، ولكننا بتأمل تلك الأمثلة واعتبار صحة ما ذكر فيها من أوجه القراءات، ندرك
أن الأسئلة كانت غالبا منصبة على وجه التأويل لأنه يساعد على اختيار أمثل الوجوه
في المعني، فتكون القراءة بحسب ذلك على سبيل الاختيار، دون إنكار وجه القراءة
الأخرى أو باقي الأوجه. ويظهر ذلك في المثال الأخير في قراءة "إلى نصب"
فقد قرأها بضم النون والصاد معا عبد الله بن عامر الشامي، وعاصم من رواية حفص عنه،
وقرأ نافع وباقي السبعة والعشرة "نصب" بفتح النون وإسكان الصاد[19]
وقرأ أبو العالية الرياحي "إلى نصب" بضم النون وإسكان الصاد[20]،
ففيها إذن ثلاث قراءات يتنوع المعنى ويختلف باختلافها. وقد جاء التفسير عن الحسن
البصري في قوله: "إلى نصب يوفضون" قال: يعني: إلى أنصابهم أيهم يستلمها
أولا؟ قال الزجاج: وهذا على قراءة من قرأ "نصب" بضمتين، كقوله:
"وما ذبح على النصب" قال: ومعناه: أصنام لهم"[21].
وقال ابن خالويه في توجيه قراءتي السبعة: "الحجة لمن
قرأ بضمتين، أنه جمع نصب ونصب كرهن ورهن، والحجة لمن فتح وأسكن أنه جعله ما نصب
لهم كالعلم أو الغاية المطلوبة، ومعنى يوفضون: يسرعون"[22].
ولا يخفى أن المعنى على التأويل الأخير هو الموافق لاختيار
نافع وما ذهب إليه شيخه ابن جندب فيما حكاه عنه في تفسير اللفظ، مما يدل على مقدار
استفادته من مثل هذه الروايات في تكوين اختياره في القراءة والاحتجاج له، واعتماده
أيضا مع بعض مشايخه على الدراسة اللغوية "المقارنة" للحصول على معرفة
الوجوه المختارة في القراءة والأداء.
وما ذكرناه عنه في هذا الحرف نذكره أيضا عنه في الحرف الثاني
الذي سأل عنه ابن جندب، وهو لفظ "الردء" في الآية، فقد قرأ نافع
"ردا" بإسقاط الهمز، فقيل: نقل حركة الهمزة إلى الدال وحذف الهمزة، وقرأ
غيره من السبعة "ردءا" بإسكان الدال وهمزة مفتوحة منونة"[23].
وقد وجهت القراءتان على وجوههما إلى معنى واحد، حملا على ما
روي عن نافع من رواية ورش في نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها مع حذفها في مثل
"قد افلح" و"من آمن" و"ذواتي أكل" ونحوها، وبه قرأ
ورش وقالون معا عنه في "ردا يصدقني"، وبه قرأ جميع الرواة عن نافع[24].
إلا أن ما روي عن نافع في توجيهه لقراءة الهمز ينفي أن يكون
أراد المعنى نفسه الذي تدل عليه لكنه نقل حركة الهمز إلى الساكن قبله وحذفه، وإنما
قراءته على التوجيه الآتي بترك الهمز ابتداء دون اعتبار نقل ولا غيره، مع إشارته
إلى مدلول القراءة الأخرى بالهمز، وذلك ما نقله العلامة ابن الأنباري بسنده عن
نافع أنه قال: "من قرأ" ردءا بالهمز أراد: عونا، ومن قرأ
"ردا" بلا همز أراد: زيادة، واحتج للمعنى الأخير بقول الشاعر:
وأســـــمر
خطيــا كــأن كعــوبه نوى القسب قد أردى
ذراعا على العشر[25]
قال ابن الأنباري: فمعناه: قد زاد على العشر"[26].
وهذا يدل على تفريق نافع بين مقتضى القراءتين، وأن قراءته
التي اختارها بالتخفيف ولم يرو عنه غيرها من الطرق المعروفة، ليست جارية على أحكام
نقل الهمزة كما تكلف لتخريجها على ذلك طائفة من المؤلفين في الاحتجاج للقراءات
وتوجيهها[27]،
وإنما هي جارية على رعايتها لهذا التأوبل الموافق لما تأوله عليه شيخه ابن جندب
فيما أسلفنا، مع تعزيز نافع له بهذا الشاهد من الشعر العربي، وهذا ونحوه منه سبق
فريد إلى الدراسة المقارنة لوجوه القراءات والاحتجاج لها بما تكلمت به العرب في
أشعارها، هذا إلى جانب استثماره للثقافة الأدبية والتراث الأدبي على الخصوص في
تنقيح الوجوه المختارة والنظر فيها باعتبار ما تؤول إليه من معان واعتبارات.
وهكذا ارتفع نافع في اختياراته من صعيد الرواية المجردة إلى
آفاق الدراية الواعية، كما ارتفع بمستوى التدريس إلى مثل ذلك شعورا منه بحاجة
المهرة من أصحابه إلى تعزيز ما يأخذونه من اختيارات بما يدعمه من الشواهد
والاعتبارات.
ويدل مجيء الرواية في هذا وأمثاله عن الأصمعي وابن وهب
وقالون وأضرابهم، على أنه إنما كان يطارح هذه المسائل والروايات من بلغوا مستوى
التبريز، وأخذوا معه في فقه القراءة وتحقيق معانيها. وذلك جانب من استعمال نافع
لثقافته اللغوية في توجيه اختياراته في القراءة والأداء.
وأما معرفته بوجوه الإعراب وأساليب البيان، فيشهد لها ما يلاحظ
في كثير من اختياراته من وجوه إعرابية خاصة، كما يلاحظ ذلك أيضا في بعض ما اختاره
في مواقع الوقف والابتداء ـ كما سيأتي ـ فإن التحقق من ذلك لا يتفق ولا يتاح
للقارئ دون أن يكون له رسوخ في هذه الصناعة، ولهذا عبر علماء القراءة في مختلف
العصور عن مقدار حاجة القارئ إلى احكام قواعد العربية، فنجد أبا الحسن الكسائي
ينعي على الذين يقرأون القرآن دون أن يكونوا على علم بتوجيه ما يقرأون فقال في
أبيات:
إنما
النــحو قيــاس يتبــــع وبه في كــــل
أمــر ينتفــــع
وإذا
لم يبصر النحو الفتــــى هاب أن ينطق
جبنا فانقطـــع
فتراه
ينصب الـــرفع ومـــــا كان من نصب ومن خفض
رفع
يقرأ
القرآن لا يعــرف مــــا صرف الإعــراب
فيه وصنــــع
والــــذي
يعرفــــه يقــــرؤه وإذا ما شك في حرف
رجــــع[28]
ويقول أبو عمرو الداني في مثل لك من أرجوزته:
ولا تقف إلا على
التمام أو حسن كاف من الكلام
وكل
هذا قطــبه الاعـراب تاركه ليــس له
صـــواب
فألزم
الأشيــاء للقـــراء معرفة الاعــــراب للأداء
وفهم
ما يجيء في القــرآن من غامض يدرك
بالبيان[29]
ويقول أبو الحسن الحصري القيرواني في هذا المعنى:
وأحسن كلام العرب إن كنت مقرئا وإلا فتخطي حين تقرأ أو تقــري
لقد يدعي علم الــقراءات معشـــر وباعهم في النحو أقصر من شبـــر
فإن قبل: ما إعـراب هذا ووزنــــه رأيت طويل الباع يقصر عن فتــر[30]
ومن هنا جاء اهتمام نافع وأمثاله بهذا الفن، وقد مر بنا ما
توافر لبعض شيوخه من مستوى في هذا الشأن، لاسيما عبد الرحمن بن هرمز الذي قدمنا
أنه كان أول من فتق النحو لأهل المدينة، فغير بدع إذن أن يرث التلميذ عن شيخه
نصيبا من هذا الاهتمام وإن لم يصل إلى مستوى النبوغ. حتى قيل عنه:
"كان إماما في علم القرآن وعلم العربية"[31].
ودليل ذلك ما قدمناه من مطارحاته لأصحابه في هذه القضايا في توجيه الاختيارات،
وقوله في وصف قراءته ـ كما قدمنا ـ "نقرأ على أفصح اللغات وأمضاها".
وقد ذكر ابن منظور في لسان العرب في مادة طمر ما يشهد على أن
نافعا قد بلغ في العربية إلى مستوى فصحاء أهلها حتى كان كلامه فيها مما يحتج به،
قال ابن منظور حاكيا عنه:
"وقال نافع بن أبي نعيم: كنت أقول لابن دأب[32]
إذا حدث: أقم المطمر أي: قوم الحديث ونقح ألفاظه واصدق فيه، وهو بكسر الميم الأولى
وفتح الثانية: الخيط الذي يقوم عليه البناء".
[5] - جاءت الرواية على قراءة نافع وبها قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم، وقرأ باقي
السبعة ابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر بن عياش
"حامية"بألف وبغير همز – ينظر السبعة في القراءات لابن مجاهد 398 – وقد
وافق نافع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وعلي وأبي بن أبي كعب وابن عباس كما في
الكشف لمكي بن أبي طالب 2/74.
[6] - هو كعب بن ماتع الحميري المعروف بكعب الأحبار، تابعي أسلم زمن
عمر، ونزل الشام، مات سنة 34 – ترجم له ابن حبان في مشاهير علماء الشام – مشاهير
علماء الأمصار لابن حبان 118 ترجمة 911.
[8] - تفسير الطبري "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" 16/10.
وقد أنكر أبو بكر بن العربي قصة مماثلة سأل فيها بعض الصحابة كعبا عن معنى الآية
لاختلافهم فيها في مجلس معاوية أهي "حمئة" أم هي "حامية"-
ينظر في ذلك ما ذكره ي عارضة الأحوذي على شرح جامع الترمذي 11/56.
[13] - في هذا الخبر انقطاع لأن نافعا لم يدرك ابن عباس، إذ مات سنة 68
هـ، وولد نافع حول سنة 70 هـ لكنه مسند من وجوه أخرى صحيحة كما سيأتي.
[15] - نقله ابن كثير في تفسيره 1/176 – والبيت المذكور منسوب إلى أحيحة
بن الجلاح بهذا اللفظ أيضا عند القرطبي في تفسيره 1/362، وساقه السيوطي في الإتقان
1/122 في المسائل المعروفة بمسائل ابن الأزرق، فنسبه لأبي محجن الثقفي وقال:
"قد كنت أحسبني كأغنى واحد قدم المدينة عن زراعة فوم.
Post a Comment