علمية ومظاهر إمامة نافع في القراءة وريادته في علومها
ولقد كان من مقومات الإمامة في شخصية نافع، تلك المشاركة
التي نجدها له في غير ما مجال من مجالات علوم الرواية ومباحث علوم القراءة، بل تلك
الريادة التي سنقف على بعض مظاهرها فيما تناوله مع طلبته أو ألف فيه أو شارك، مما
يعتبر في زمنه من الموضوعات الأبكار التي لم تروض بعد.
فكما تجلى نبوغه وبلوغه درجة الاستقلال العلمي في اختياراته
التي أخذ بها في القراءة، تجلى أيضا في غير علم من علومها، بسبقه إلى البحث فيه
والتأليف والتدوين، أو بالتنبيه لأصحابه على بعض مبادئه العامة، انسجاما في ذلك مع
معطيات العصر وثقافته، وإسهاما من جانبه في رقي العلم بهذا الشأن وتقدمه، إذ كانت
القراءات في عهد تصدره للإقراء قد أخذت بالتدريج تتحول من فن قوامه النقل والسماع
والحكاية الأمينة عن المشايخ، إلى علم خاص أصبح القارئ يخضع فيه لمجموعة من
القواعد والأصول المتعارفة، يستفرغ الوسع في الانقياد لها والالتزام بها في
القراءة والأداء، والعرض والإقراء، ويأخذ المتعلمين والعارضين عليه بالتزامها
ورعايتها والنزول على أحكامها. وبعبارة العلامة عبد الرحمن بن خلدون بدأت القراءة
تخرج من طور الرواية الشفوية إلى التدوين "فدونت وكتبت فيما كتب من العلوم،
وصارت صناعة مخصوصة، وعلما منفردا" [1].
ولقد كانت الريادة في هذا التحول الخطير لطائفة من أئمة
القراء، نهضوا بهذه المهمة بعد استيعاب ثقافة العصر وتمثلها تمثلا كافيا، مفيدين
من عطاء من تقدمهم من مشيخة المائة الأولى من الصحابة والتابعين في جميع الميادين
الشرعية واللغوية والأدبية، فاستطاعوا بهذا الجهد المكثف أن يظهروا على أهل المائة
الثانية شيئا فشيئا، بأولى المحاولات في تحديد معالم الفن، وتدوين علومه، وتوجيه
الأنظار إلى أهم قضاياه لتدارسها والتعمق في فهمها وبحثها، واتخاذ المواقف
واستنباط الحلول لها.
وبمكن الاعتراف ههنا لعلماء البصرة وقرائهم في هذا المجال
بالريادة والسبق المطلق في تسجيل اللمسات الأولى في معظم علوم القراءة، وخصوصا ما يتعلق
منها بطريقة الكتابة وضبط المصحف ابتداء من أبي الأسود الدؤلي ـ رائد علم النحو ـ،
ومرورا بنصر بن عاصم ويحيى بن يعمر، وانتهاء إلى الخليل بن أحمد "أول من صنف
في "النقط"[2] ورسمه في كتاب، وذكر
علله"[3].
ولقد عملت الجهود الرسمية إلى جانب الجهود الفردية في هذا المجال،
وكان من أبرز الخطوات في ذلك ما تم بالعراق في امارة الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي
قدمنا أنه كانت له عناية خاصة وشغف زائد بهذا الشأن، حتى قيل عنه: "لم يكن
أحد من الأمراء أشد نظرا في المصاحف منه"[4].
ولقد أعطينا آنفا نظرة موجزة عن سعيه في الحد من انتشار المصاحف
الفردية بالعراق المخالفة لمصحف الجماعة، وقدمنا ذكر ما فعله بأمر الخليفة عبد
الملك بن مروان من التجرد لخدمة المصحف وتحزيبه وأنه أمر وهو والي العراق الحسن
ويحيى بن يعمر بذلك[5].
وذكر الإمام أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني أن الحجاج
"بعث إلى حفاظ البصرة وخطاطيها فجمعهم عنده، ثم أدخل عليه منهم خمسة، هم: أبو
العالية[6]
ونصر بن عاصم[7]
وابن أصمع[8]
ومالك ان دينار[9]،
فقال: اكتبوا المصاحف واعرضوا، وصيروا فيما اختلفتم فيه إلى قول هذا الشيخ ـ يعني
الحسن البصري ـ"[10].
وذكر الإمام القرطبي عن أبي محمد سلام الحماني أن الحجاج
"جمع القراء والحفاظ والكتاب، فقال: أخبروني عن القرآن كله، كم حرف هو؟ قال:
فحسبنا، فأجمعوا أنه ثلاثمائة ألف وأربعون ألفا وسبعمائة وأربعون حرفا.. قال:
فأخبروني عن نصفه، فإذا هو إلى الفاء من قوله في الكهف "وليتلطف"، وهكذا
حتى سألهم عن أثلاثه وأسباعه.. قال سلام أبو محمد: عملنا ذلك في أربعة أشهر"[11].
وذكر ابن الجوزي من عمل هذه اللجنة أيضا عد رؤوس الآي، وهو
العدد المنسوب إلى أهل البصرة قال: "وأما البصري فمنسوب إلى عاصم بن ميمون
الجحدري[12]
وهو أحد التابعين الحفاظ الذين ندبهم الحجاج إلى عد حروف القرآن مع الحسن البصري ونصر
بن عاصم الليثي، بالشعير وحسبوه"[13].
كان السبق إذن لعلماء البصرة في هذا المجال، سواء على الصعيد
الرسمي أو الصعيد الفردي[14] ولكن هذا السبق
الملحوظ لا ينبغي أن تلغى به جهود بعض الأمصار الأخرى التي كانت فيها محاولات
مشابهة في غير مجال من علوم القراءة لهذا العهد، ومنها ما يرجع العهد به إلى بعض
علماء الصحابة كعبد الله بن عباس الذي ينسب إليه كتاب في "عدد الآي"،
وتوالت جهود التابعين في ذلك، فألف في العدد عطاء بن يسار من علماء المدينة من
أصحاب زيد بن ثابت، وإسماعيل بن جعفر صاحب نافع، وشيبة بن نصاح شيخه، ومن أهل الشام
خالد بن معدان[15]
ومن البصرة الحسن وعاصم الجحدري[16]، وألف في اختلاف
المصاحف أيضا جماعة منهم عبد الله بن عامر إمام أهل الشام[17].
وإلى جانب عطاء بن يسار وشيبة وإسماعيل فقد شارك علماء
المدينة من مشيخة نافع في هذا المجال من علوم القرآن، بنصيب لا يبخس، حتى ان من المؤرخين
من ذهب إلى إسناد السبق في وضع قواعد العربية إلى بعض علمائها، وهو عبد الرحمن بن
هرمز شخ نافع، كما قدمنا في ترجمته
[18].
وإذا كان بعضهم يذهب إلى أخذ ابن هرمز لذلك عن أبي الأسود
الدؤلي الذي انعقد الإجماع أو كاد على تفرده بالسبق والريادة المطلقة في هذا المجال،
فإن هذا لا ينفي عن ابن هرمز مثل ذلك السبق والريادة في تلك الدراسات في الحجاز،
وبالمدينة على الأخص، ولا يستبعد أن يكون أهل المدينة قد أفادوا مبكرين من طريقة
أهل البصرة في تيسير قواعد العربية، إلى جانب اقتباسهم لأسلوبهم في استعمال
الألوان بكيفية خاصة للتمييز بين النقط والحركات والهمزات وغيرها، إذ كان لأهل
المدينة ـ كما يفيد ما ذكره أبو عمرو الداني ـ نقط محلي، فتركوه ونقلوا بنقط أهل
البصرة"[19]،
وقد ساق في "المحكم" أدلة وافية كافية، لإثبات أخذ أهل المدينة لذلك عن
أهل البصرة، منها ما رواه بسنده من طريق قالون صاحب نافع قال:
"في مصاحف أهل المدينة" بالسوء الا" بهمزتين
في الكتاب ـ يعني نقطها ـ قال أبو عمرو:
"ألا ترى أن أهل المدينة لا يجمعون بين همزتين، بل قد
كان بعضهم ـ وهو أبو جعفر يزيد بن القعقاع القارئ ـ يسهلهما معا، وهي لغة قريش،
فدل ما استعملوه في نقط مصاحفهم من تحقيقهما وإثباتهما معا بالصفرة التي جعلوها
لنقط الهمز المحقق، خلافا لقراءة أئمتهم ومذهب سلفهم، على أنهم أخذوا ذلك عن
غيرهم، وأنهم اتبعوا في ذلك أهل البصرة، إذ كانوا المبتدئين بالنقط والسابقين
إليه"[20].
وقد قدمنا أيضا في ترجمة مسلم بن جندب الهذلي شيخ نافع، كيف
أدخل الهمز في قراءة المدنيين بعد أن كانوا لا يعرفونه في قراءتهم ولا هو من
لغتهم، حتى همز مثل "مستهزئون" "يستهزئ" ونحو ذلك فاقتدوا به[21].
كل هذه الملامح والإشارات تعتبر شواهد واضحة على مدى مشاركة
مشيخة نافع التي تخرج عليها في تنمية هذه المباحث الأبكار، وارتفاع مستوى الإقراء
والتعامل مع المجال القرائي عندهم، والاتصال عن كثب بأهم المؤثرات الوافدة من
المدارس العلمية بالأمصار، تلك التي كانت قد قطعت أشواطا متقدمة في الميدان، مع
استثمار ذلك وتوظيفه عمليا في القراءة وكتابة المصاحف ونقطها وضبطها لهذا العهد.
ولا نستبعد أن تكون لأهل المدينة إسهامات أخرى في هذه
المباحث لم يبق إلا قليل من الإشارات إليها، وربما كان ضياع كثير منها في الجملة
عائدا إلى أن صناعة التأليف يومئذ كانت في بدايتها إن لم تكن في حكم المنعدمة،
وذلك لما كانوا عليه من البداوة في الغالب، ولغلبة الرواية الشفوية عليهم، على ما
نبه عليه العلامة ابن خلدون بقوله: "والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم
والتأليف والتدوين، ولا دفعوا إليه ولا دعتهم إليه حاجة، وجرى الأمر على ذلك زمن
الصحابة والتابعين"[22].
وقد رفض أبو عمرو الداني في "رسالة التنبيه":
الرأي القائل بإسناد الريادة والسبق إلى الحجاج الثقفي في مجال الاهتمام بعلوم
القرآن رسما وضبطا وتعداد آي، وأتى بطائفة من النقول تثبت السبق في ذلك لجماعة من
تقدمي قراء الصحابة كأبي بن كعب وابن عباس وابن مسعود وعثمان بن عفان ومعاذ بن جبل
ومن التابعين الآخذين عنهم كمجاهد وعطاء بن يسار وسعيد بن جبير وحميد بن قيس
الأعرج وراشد الحماني"[23].
ومهما يكن فإن التأثر والتأثير كان يومئذ متبادلا على أشده
بن مدارس الأمصار، لاسيما فيما كان يجد في مجالات اللغة وتطوير وسائل الكتابة
والضبط، الأمر الذي رأينا أبا عمرو الداني نفسه يلح فيه على إسناد السبق لعلماء
البصرة. ولكن استفادة مدرسة المدينة من مثل هذا لا يغض من شأنها في شيء، ولا
يسلبها أو ينازعها في كونها "المدرسة الأم" التي تفرعت عنها بقية
المدارس الأخرى كما أسلفنا.
ولقد مر بنا من خلال التعريف بمشيخة نافع بعض التنبيه على ما
كان لابن هرمز وابن جندب وغيرهما من سبق في مجالات عديدة من مجالات علوم القرآن،
ولا شك أن نافعا قد استفاد مما كان يدور في حلقات أولئك المشايخ من مثل تلك
المباحث التي كانت تمتاز يومئذ بالجدة والطرافة، ومن هنا كان لا بد أن تخلف أثرها
في صياغة شخصيته العلمية، وأن يكون لها بعدها العميق في تكوين اختياراته في
القراءة والأداء، وأن يكون خير من يمثل صلة الوصل بين ثقافة أهل المائة الأولى
بالمدينة من الصحابة والتابعين في هذه العلوم، وبين أهل المائة الثانية، مما سيفتح
به لمدرسة المدينة آفاقا أكثر رحابة في هذه المباحث، ويحقق به من خلال بعض تلامذته
كعيسى بن مينا قالون خليفته من بعده، أهم امتداد لهذه المدرسة في المدينة وفي
الآفاق التي استفادت منها، حتى عده الإمام أبو عمرو الداني في طليعة "من
اشتهر من المتقدمين بالنقط واقتدي به فيه"[24] ووصفه الحافظ
الذهبي بأنه "قارئ أهل المدينة ونحويّهم"[25].
مما لا شك عندنا أنه انما كان في مستواه المشهود له به ترجمة
كاملة لشيخه وأستاذه نافع الذي قدمنا أنه لازمه خمسين سنة.
ونحن لكي يتأتى لنا رصد جهود نافع في هذه المباحث وأمثالها
مما يتعلق بعلوم القرآن، وتتبع بصمات التأثير التي خلفها في الميدان من خلال آثاره
المكتوبة والشفوية في المدرسة المدنية، نرى من المفيد أن نلم أولا بذكر العلوم
الأساسية التي يستمد منها علم القراءات، ويستند إليها علماء القراءة في ضبط
الرواية وتحقيق لفظ التلاوة وتوجيه معانيها وفقه أحكامها ورسم حروفها وضبطها وما
إلى ذلك من لوازمها، وقد كفانا المؤونة في ذلك الإمام علي النوري الصفاقسي في
كتابه "غيث النفع"، حيث تعرض لذلك بإيجاز محددا مقومات هذا العلم
واستمداداته كما تمثلها من خلال ما قرره علماء هذا الشأن في ذلك من أمثال مكي بن
أبي طالب في الرعاية، وأبي عمرو الداني في "الأرجوزة المنبهة" وأبي
مزاحم الخاقاني في قصيدته المعروفة بـ"الخاقانية" في القراءة والقراء،
فقال النوري:
مقومات
التصدر للإقراء وأهم استمدادات علم القراءات ومدى التزامه بها ومستوى تعامله معها:
"لا يجوز لأحد أن يتصدر للاقراء حتى يتقن عقائده
ويتعلمها على أكمل وجه.
ـ ويتعلم من الفقه ما يصلح به أمر دينه، وما يحتاج إليه في
معاملته.
وأهم شيء عليه بعد ذلك:
أولا: أن يتعلم
من النحو والصرف جملة كافية يستعين بها على توجيه القراءات.
ـ ويتعلم من التفسير والغريب ما يستعين به على فهم القرآن،
ولا تكون همته دنيئة فيقتصر على سماع لفظ القرآن دون فهم معانيه، وهذا ـ أعني علم
العربية ـ أحد أهم العلوم السبعة التي هي وسائل علم القراءات".
الثاني: التجويد، وهو معرفة
مخارج الحروف وصفاتها.
الثالث: الرسم.
الرابع: الوقف والابتداء
الخامس: الفواصل، وهو فن عدد
الآيات.
السادس: علم الأسانيد، وهي
الطرق الموصلة للقرآن، وهو من أعظم ما يحتاج إليه، لأن القراءة سنة متبعة ونقل
محض، فلا بد من إثباتها وتواترها، ولا طريق لذلك إلا بهذا الفن".
السابع: علم الابتداء والختم،
وهو الاستعاذة والتكبير ومتعلقاتهما"[26].
تلك أهم استمدادات هذا العلم، والآن فلنحاول متابعة
الإمام نافع في تعامله مع هذه العلوم، وكيف وقف منها في حلقته في الإقراء، ولنرصد
من خلال ذلك ما قد كان له في بعضها من ريادة وسبق، أو من شفوف وتبريز، وكيف كان في
تدريسه يصطنع المنهج العلمي في قضايا العربية لتوجيه اختياراته في القراءة وإرشاد
علية الآخذين عنه إلى بعض منازعه في تلك الاختيارات بناء على تلك المقتضيات،
[7] - وهو الذي يقال له "نصر الحروف" لأنه أول من قام بالشكل
المدور – ينظر في ذلك كتاب المحكم للداني 8.
[8] - هو علي بن أصمع عم أبي الأصمعي الراوية، تقدم ذكره في أفراد
اللجنة التي كلفها الحجاج بتعقب المصاحف
المخالفة لمصحف عثمان.
[9] - هو مولى لبني ناجية القرشيين من أهل البصرة وعباد التابعين، كان
وراقا يكتب المصاحف ويعيش منها، مات سنة 123. وردت عنه الرواية في حروف القرآن.
ترجمته في مشاهير علماء الأمصار لابن حبان 90-91 ترجمة 658.- وغاية النهاية 2/36
ترجمة 2643.
[14] - نسب إلى يحيى بن يعمر البصري كتاب في القراءة (ت 89) باسم
"كتاب القراءة" وإلى عيسى بن عمر الثقفي ( ت 149) كتاب فيها بعنوان
"الاختيار"، وإلى أبي عمرو بن العلاء رسالة في القراءة برواية يحيى بن
المبارك اليزيدي، - ينظر في ذلك "معجم الدراسات القرآنية" للدكتورة
ابتسام مرهون الصفار مجلة المورد العراقية مجلد 9 العدد الرابع السنة 1401-1981.
[15] - من قراء الشام وعلمائها من التابعين، أدرك سبعين من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم. ينظر كتاب مشاهير علماء الأمصار لابن حيان 113.
Post a Comment