علم بدء وختم القران وهو الاستعاذة والتكبير ومتعلقاتهما

أما العلم السابع الذي يلزم القارئ والمقرئ به، ولا يليق به جهله، فهو علم الابتداء بالسور والأجزاء من القرآن الكريم، وبمتعلقات ذلك من التعوذ في مواضعه والتسمية والتكبير وغير ذلك، وكيفية الختم عند الفراغ من الختمة ونحو ذلك من الفروع. وقد جرت عادة المصنفين في القراءات أن يدرجوه ضمن أبواب أصول القراء، فيذكروا باب التعوذ مثلا فيذكرون مذهب كل قارئ من السبعة في الجهر أو الإسرار، ثم يردفونه بباب البسملة، وهو أيضا من مباحث هذا العلم، فيذكرون مذهب كل قارئ في البسملة في فاتحة الكتاب، والتسمية في أول السور، والفصل بها أو تركه بين السور، والتسمية أو تركها في أول الأجزاء إلى غير ذلك من الفروع الاخرى.
وقد كان لنافع في ذلك كله اختيارات سنأتي عليها – بحول الله – آخر هذا البحث عند الحديث عن أصول قراءته من رواية ورش التي كسرنا هذا البحث على دراستها وتاريخها عند المغاربة. ولذا فسنرجئ الكلام على ذلك إلى موضعه هناك.
وهكذا يتبين لنا من خلال ما استعرضنا من نبوغه وريادته، أو إسهامه ومشاركته في هذه العلوم السبعة، مقدار تضلعه في المعارف المتصلة بفنه، مما يشهد أعدل شهادة على تبريزه وإمامته، وتفرده في بلده بالمستوى الرفيع الذي لم يتقدمه إلى مثله أحد، ولا لحقه فيه في فنه.
ولقد عزز هذا المستوى بمشاركة أخرى معتبرة في رواية الحديث والآثار، والعناية بالروايات والأخبار التاريخية والأدبية، كما تشهد بذلك النقول الكثيرة عنه في المتفرقات التي يمكن الوقوف عليها هنا وهناك.

ـ من حديثه الأدبي"

فمن حديثه المتصل بتاريخ الأدب مما يدل على إلمامه بالرواية الأدبية واحتفائه بأخبار الرجال:
ما حدث به عنه الأصمعي في أخبار الشاعر العربي المشهور: كثير بن عبد الرحمن، والمفسر التابعي المشهور عكرمة مولى ابن عباس، قال ابن قتيبة:
"حدثني الرياشي [1]عن الأصمعي عن نافع المدني قال: "مات كثير الشاعر، وعكرمة في يوم واحد"[2].
وقد أكد ابن حبان صحة هذه الرواية، فقال في ترجمة عكرمة: "مات سنة سبع ومائة هو وكثير عزة[3] في يوم واحد، فأخرجت جنازتهما، فقال الناس: مات أفقه الناس وأشعر الناس"[4].
-   ومنه ما ذكره أبو الفرج بن الجوزي في مناقب عمر بن عبد العزيز، قال:
"وعن نافع بن أبي نعيم قال: رثى رجل[5] من موالي أهل المدينة عمر بن عبد العزيز فقال:
قد غيب الدافنون اللحد إذ دفنوا     بدير سمعـــان[6] حرثان الموازيـن
من لم يكن همه عينا يـفجرهــــا     ولا النخيل ولا ركض البراديــــن"[7].."[8]
ومن حديثه في تاريخ الأدب أيضا ما أخرجه أبو الفرج الأصفهاني قال:
"أخبرني الحسن بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال: حدثني ابن أخي الأصمعي عن عمه عن نافع بن أبي نعيم أن عبد الرحمن بن عوف هو الذي استرضى عمر بن الخطاب، وكلمه في أمر الحطيئة[9] حتى أخرجه من السجن"[10].
ومن حديثه في مناقب الرجال وأهل البيوتات:
أخرج الحافظ أبو عمر بن عبد البر في التمهيد بسنده عن سعيد بن أبي مريم قال: حدثنا نافع بن أبي نعيم القارئ عن نافع عن ابن عمر، أن النبي ـ  صلى الله عليه وسلم ــ قال: ان الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه"[11].
ومثل ذلك في خبر مقتل عمر ـ رضي الله عنه ـ قال أبو زيد عمر بن شبة البصري في تاريخ المدينة: "حدثنا عبد الملك بن قريب قال: حدثنا نافع بن أبي نعيم قال: قال ابن الزبير: كنت أمشي مع عمر ـ رضي الله عنه ـ فنظر إليه العلج[12] نظرة ظننت أنه لولا مكاني لسطا به"[13].
ومن حديثه في مناقب بعض بيوتات الأنصار بالمدينة، وهو بيت سعد بن عبادة الأنصاري سيد الخزرج ـ رضي الله عنه ـ قال أبو حاتم محمد بن حبان البستي بسنده إلى الأصمعي قال: أخبرني نافع بن أبي نعيم قال: قال رجل[14] ممن قد أدرك الجاهلية: "قدمت المدينة، فإذا مناد ينادي: من أراد الشحم واللحم فليات دار دليم ـ وهو جد سعد بن عبادة بن دليم سيد الخزرج ـ ثم ضرب الزمان من ضربه، فقدمتها، فإذا مناد ينادي: من أراد الشحم واللحم فليات دار سعد"[15].
ومن حديثه في مناقب شيخه أبي جعفر المدني يزيد بن القعقاع ما أخرجه أبو بكر بن مجاهد في كتاب السبعة عن محمد بن منصور المدني قال: حدثني محمد بن إسحاق المسيبي قال: حدثني أبي عن نافع ابن أبي نعيم قال: غسل أبو جعفر يزيد بن القعقاع القارئ بعد وفاته، فنظروا ما بين نحره إلى فؤاده مثل ورقة المصحف، فما شك أحد ممن حضر أنه نور القرآن"[16].
ـ ومن ذلك ما أخرجه صاحب الأغاني أيضا قال: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال:
"حدثنا الرياشي قال: حدثنا الأصمعي عن نافع بن أبي نعيم قال: قدم عبد الله بن الحسن بن الحسن[17] على عمر بن عبد العزيز، فقال: انك لا تغنم أهلك شيئا خيرا من نفسك، فارجع، وأتبعه حوائجه"[18].
ذلك جانب من ثقافته الأدبية والتاريخية.


[1] - هو أبو الفضل عباس بن الفضل الرياشي، من كبار أهل اللغة والرواية الأدبية أخذ عن الأصمعي، وكان يحفظ كتبه وكتب أبي زيد الأنصاري كلها، توفي سنة 257 هـ - نزهة الألباء للأنباري 199 ترجمة 66.
[2] - المعارف 201.
[3] - اشتهر بإضافته إليها لصرفه جملة أشعاره في التشبيب والتغزل بها، وكان منافسا لجميل بثينة في ذلك.
[4] - مشاهير علماء الأمصار لابن حبان 82 ترجمة 593.
[5] - هو الشاعر المدني المشهور بابن عائشة، كما سماه ابن الجوزي في رواية أخرى ذكرها عقب هذه ، سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز 336.
[6] - مات عمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه – بدير سمعان من أرض حمص الشام لأربع بقين من رجب سنة 101 هـ وصلى عليه يزيد بن عبد الملك – سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي 328.
[7]- في بعض الروايات "قسطا س الموازين" – سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز 336 وفي بعضها "جربان" بالجيم والباء الموحدة، قال المقري الرواية هكذا:
أقول لما نعى النـــــــــاعون لي عمـــــرا          لا يـــــــبعدن قــــــوام الحــــق والديــــــن
قد غيــــب الرامســـــــــــون اليــــــــــوم        إذ رمسوا بدير سمعان قسطاس الموازين
(أزهار الرياض 3/63.)
[8] - سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي 336.
[9]- هو الشاعر المشهور، واسمه جرول بن أوس العبسي، مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام، وكان سبب سجن عمر له هجاؤه للزبرقان بن بدر التميمي، فاستعدى عليه عمر فسجنه، حتى استعطفه بالأبيات المشهورة التي منها قوله:
ماذا تقول لأفراخ بــذي مــــرخ          زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبـهم في قـعر مظلـــمة          فاغفر عليــــــك سلام الله يا عمـر
فرق له عمر وأطلقه، وأخذ عليه المواثيق أن لا يعود إلى هجاء ما عاش عمر، وأعطاه في مقابل ذلك ثلاثة آلاف درهم اشترى منه بها أعراض المسلمين " – ينظر في ذلك كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني 2/56-57.
[10]- الأغاني 2/52.
[11]- التمهيد لابن عبد البر8/10-110 – وذكر فيه روايات بأسانيد أخرى، وأخرجه ابن ماجة في السنن عن غضيف بن الحارث عن أبي ذر ... وذكر الحديث إلا أن فيه "يقول به" بدل "وقبله" – سنن ابن ماجة 1/40 الحديث رقم 108 – وأخرجه اين شبة بلفظ "وقبله" – تاريخ المدينة 2/662. تاريخ المدينة المنورة لابن شبة 3/893.
[12]- يعني أبا لؤلؤة الفارسي.
[13]- تاريخ المدينة المنورة 3/893.
6- ورد الخبر في الطبقات. 3/142 بسنده عن عروة بن الزبير قال: أدركت سعد بن عبادة وهو ينادي على أطمه: من أحب شحما أو لحما فليأت...".

[15]- روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لأبي حاتم 259.
[16]- كتاب السبعة لابن مجاهد 58 – ووفيات الأعيان لابن خلكان 6/275 ترجمة 814.
[17]- هو عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي وفاطمة رضي الله عنهما، وهو والد محمد المعروف بالنفس الزكية الذي خرج على أبي جعفر المنصور العباسي بالمدينة المنورة سنة 145هـ فقتل.
[18]- الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني 8/155.

Post a Comment

Previous Post Next Post