علم الأسانيد الموصلة للقرآن

أما العلم السادس الذي لا يسع القارئ فضلا عن المقرئ جهله، فهو علم الأسانيد والطرق الموصلة للقرآن، لمعرفة المتواتر في النقل من غيره من المشهور والآحاد والشاذ، ومعرفة منازل الرواة ودرجاتهم في العدالة والثقة والضبط، ومراتب التحمل والأداء، وما إلى ذلك من جزئيات هذا العلم.
وقد مر بنا الحديث عن مدى اهتمام نافع بمعرفة هذا الشأن ومراجعته لبعض مشايخه الأحياء بعد اكتمال نضجه العلمي، للوقوف على مستنداتهم ومصادرهم في رواية حروف القراءة قصد التثبت منها، كما رأينا فيما حكاه زميله في القراءة على أبي جعفر: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، أن نافعا كان يأتي أبا جعفر فيقول: يا أبا جعفر، ممن أخذت حرف كذا؟ فيقول: من رجل قارئ، من مروان بن الحكم .. إلى آخر الخبر..".
فكان هذا الصنيع من نافع دالا أبلغ دلالة على مقدار الحاجة إلى معرفة القارئ بمصادره قبل أن يقدم على الاطمئنان إليها فيما يأخذ به من اختيار، كما كان ينم عن نضج كبير في شخصيته العلمية ومقدار تشبعه بمنهج أهل الحديث في انتقاد الأسانيد، والعناية بمعرفة أحوال النقلة، وإخضاعهم للفحص والنظر، باستعمال معايير التعديل والتجريح المعتبرة عند أهل هذا الشأن، لتمييز الصحيح السائر، من الغريب النادر، والضعيف الشاذ والواهي الساقط.
ويدل على ما ذكرنا لنافع من اهتمام بالفحص عن حال حلقات السند عند رجال مشيخته، ما قدمناه من تنبيهه على عجمة لسان شيخه نافع مولى ابن عمر وغلبة اللحن عليه، فهذا التنبيه مفيد بالنسبة لمعرفة مرتبة التحمل والرواية عنه، باعتبار اللحن في الحديث مما ينزل بدرجة الراوي في القدرة على ضبط الرواية لا سيما حين يتعلق الأمر بحروف القرآن. لأن اللحن من الشيخ مؤذن بوقوع الخلل في الأداء، وداع إلى ضعف الطمأنينة لدى الآخذ عنه على صحة ما ينقله ويرويه.
وقد ساق الذهبي خبرا يشبه أن يكون المعني به نافعا هذا، ويتعلق بعدم معرفته بالعربية، عن الأصمعي قال: حدثنا نافع، حدثنا الأعرج[1] أنه[2] قرأ "لتخذت عليه أجرا"[3] قال: لا تأخذها عنه، فإنه لم يكن عالما بالعربية"[4].
فالظاهر أن الحديث كان عن نافع مولى ابن عمر، وأن الأعرج ابن هرمز حكى قراءته بهذا الحرف لينبه على الاحتياط في الأخذ عن مولى ابن عمر فيما يخص حروف القراءة، ويدل على أنه المراد خبر آخر قدمناه في أول هذا الباب عن نافع بن أبي نعيم قال: "قرأت على نافع مولى عبد الله بن عمر، ومالك من الصبيان – قال: وقرأ نافع "لتخذت عليه أجرا"[5].
وقد تقدم لنا من نظر نافع في الأسانيد ما حكاه إسحاق المسيبي عنه من قوله: "قرأت على هؤلاء ـ يعني شيوخه الخمسة وغيرهم ـ فنظرت إلى ما اجتمع عليه اثنان منهم فأخذته، وما شذ فيه واحد فتركته حتى ألفت هذه القراءة"[6].
على أن في شهادة أئمة الإقراء لنافع في بلده وغيره، بمعرفته بالقراءات، وفي إقرائه وقبوله في العرض لأكثر من قراءة ـ كما قدمنا ـ، ما يدل ضمنيا على سعة مجاله في الرواية، وعمق معرفته بأسانيدها وطرقها في الأمصار، إذ لا يصلح أن يظن به الإقراء أو الإقرار على ما لا يعلم من قرأ به من السلف.


[1]-  يعني عبد الرحمن بن هرمز
[2]- لعل المراد نافع مولى ابن عمر كما سيأتي، ولا يصح أن يرجع الضمير إلى الأعرج لما تقدم من كونه أول من وضع العربية بالمدينة
[3]- سورة الكهف الآية رقم 77، ورسمها في المصحف "لتخذت" ولعل نافعا قرأ بكسر الخاء مع تخفيف ما قبلها، وبه قرأ ابن كثير وأبو عمرو، وقرأ نافع وباقي السبعة وغيرهم بتشديد التاء وفتح الخاء "لاتخذت. ينظر في ذلك: السبعة لابن مجاهد 396 – والتيسير للداني 145.
[4]- معرفة القراء للذهبي 1/63.
[5] - إيضاح الوقف والابتداء لابن الأنباري 1/111.
[6] - معرفة القراء للذهبي 1/91.

Post a Comment

Previous Post Next Post