علم رسم المصحف

العلم الذي لا يسع الجهل به قارئ القرآن، وهو من وسائل علم القراءة، فهو رسم المصحف، وهو ـ كما عرفه ابن خلدون ـ "أوضاع حروف القرآن في المصحف، ورسومه الخطية، لأن فيه حروفا كثيرة وقع رسمها على غير المعروف من قياس الخط.."[1].
ولما كانت تلك الأوضاع الخطية لم تكن عند كتاب المصحف "كيف اتفق، بل على أمر عندهم قد تحقق، وجب الاعتناء به، والوقوف على سببه"[2]. فمن هنا جاء اهتمام السلف منذ الصدر الأول بالمحافظة على تلك الأوضاع، والالتزام بها عند الكتابة القرآنية، ولم يسوغوا لأحد تجاوزها والتصرف فيها لحال، كما هو مشهور من فتاوى كبار الأئمة في ذلك، فقد قال أشهب: سئل مالك  ـ رحمه الله ـ هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟ فقال: لا، إلا على الكتبة الأولى"[3].
وقال الإمام أحمد ابن حنبل: "تحرم مخالفة خط المصحف في ياء أو واو أو ألف أو غير ذلك"[4].
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: "اتباع حروف المصحف عندنا كالسنن القائمة التي لا يجوز لأحد أن يتعداها"[5].
ومن هنا كان أئمة الإقراء من قراء الجماعة بالأمصار لا يعترفون بقراءة القارئ، إلا إذ استوفت العناصر الثلاثة الأساسية ـ الآنفة الذكر ـ ومن أهمها موافقتها للمرسوم في المصحف الإمام.
وقد قدمنا مذهب نافع في ذلك، وأنه كان من أشدهم التزاما بملاءمة القراءة لمصحف الجماعة بتحقق الموافقة التامة له في الوصل والوقف، فكان بذلك يجمع بين مقتضى الروية الثابتة، ومقتضى هذه الرعاية الواجبة، فإذا زاد في الرواية الصحيحة حرف على خط المصحف، لم يأذن بكتابته بالسواد، واحتفظ به في الأداء فحسب، وقد قدمنا طريقته في ذلك في بعض ما يزيد عنده من ياءات، ولهذا جاء عنه أنه كان "يقف على الكتاب"[6]، وإذا وقف على حرف لم يدع الهمز فيه"[7].
وانما كان اهتمام نافع وغيره من الأئمة بالتمييز بين خط المصحف، وبين ما تقتضيه الرواية في بعض الحروف، نوعا من الاحتياط والوفاء لمذهب الجماعة في أن لا يزاد في المصحف ما لم يكن فيه، ومحاولة للملاءمة بين الرواية والرسم حتى فيما زاد عليه، إذ أن هناك حروفا كثيرة إنما احتملها رسم المصحف في القراءة بنوع من التسامح، إلا أنها ثابتة في الرواية ولا سبيل إلى ردها، ككثير من الكلمات التي تواترت القراءة فيها بالجمع والإفراد معا، ورسمت في المصاحف موافقة لإحدى القراءتين، ومحتملة للأخرى بنوع من التقدير، وكطائفة من الكلمات التي تقرأ باختلاف في الصيغة والوزن، مما يقتضي تقدير بعض الحروف في الرسم.
فمثال النوع الأول: الكلمات التي رسمت بالتاء المبسوطة، وجاءت القراءة فيها عن السبعة وغيرهم بالجمع والإفراد، مثل قوله تعالى: "وكذلك حقت كلمت ربك"[8]، "وتمت كلمت ربك"[9]، ومثل "في غيبت الجب"[10] حيث رسمت هذه الكلمات بتاء مبسوطة في المصحف، فاحتملت أن تكون رسمت على إرادة الجمع مع حذف الألفات اختصارا أو إشارة إلى القراءة الأخرى، واحتملت أن تكون رسمت على قراءة الإفراد مع بسط التاء لتحتمل القراءة الأخرى، وهما معا قراءتان متواترتان عن السبعة وغيرهم[11].
ومثال النوع الثاني: الكلمات التي تختلف صيغها وأوزانها الصرفية واللغوية باختلاف القراءة، مع قبول الرسم فيها لأكثر من وجه، باعتبار تقدير بعض الألفات أو الواوات أو الياءات محذوفة، وذلك في مثل قوله تعالى: "وإن ياتوكم أسرى تفدوهم.."[12] حيث قرئت "أسارى" ككسالى، وقرئت "أسرى" كمرضى[13]، وكذلك قرئ "تفدوهم" من "فدى" الثلاثي ومن "فادى" الرباعي[14]، والرسم محتمل لكل ذلك تحقيقا أو تقديرا مع التسامح في الخلاف اليسير المتعلق بحذف بعض الألفات، وهو نوع من الحذف يسميه القراء "حذف الإشارة" يريدون به الإشارة إلى اختلاف القراء في قراءة الكلمة بالحذف والإثبات[15].
ومثل هذا النوع كثير في قراءة نافع نحو "ولولا دفع الله الناس"[16]، و"ان الله يدفع عن الذين آمنوا"[17] "ولولا ألقي عليه أسورة من ذهب"[18]، "وأن يصلحا بينهما صلحا" [19].
ولهذه العلة من اختلاف الرواية عن الرسم في طائفة من حروف القرآن، كان لا بد من أن يقوم صاحب القراءة بالتنصيص على قراءته في تلك الحروف وتحديد كيفية التأتي لرسمها، دون خروج كبير أو تام عن مصحف الجماعة، وقد مر بنا كيف عاب يحيى بن أكثم قراءة "ليهب لك" في سورة مريم يالياء، ذهابا منه إلى مخالفتها في ظاهرها لخط المصحف لأنها مرسومة هكذا "لأهب" وظاهرها مخالف للقراءة الأخرى.
وقد ظهر في كل مصر من الأمصار إمام روى ما ورد في مصحف بلده، إذ أن أئمة القراءة كانوا يروون رسم الكلمات إلى جانب روايتهم للقراءة.
وكما كانت مدينة رسول الله  ـ صلى الله عليه وسلم ـ دارا للسنة، كانت قبل ذلك ومعه دارا للقرآن قراءته ورسمه، فكان ممن روي عنهم الرسم من أهل المدينة عبد الرحمن بن هرمز الأعرج (ت 117- أو 119) نزيل الأسكندرية[20] ، إلا أن إمام المدينة في الرسم هو نافع بن عبد الرحمن ابن أبي نعيم أبو رؤيم أحد القراء السبعة الأعلام"[21].
لقد كان نافع من أوائل من دونوا هذا الاختلاف بين مقتضيات الرواية والرسم المصحفي الإمام، ووصفوه لتلامذتهم، ووقفوهم على ما هنالك من خصوصيات ينبغي معرفتها والتنبيه على أي خلاف ملحوظ بينها وبين مقتضى الرواية المتواترة في القراءة، ويمثل في هذا الصدد الريادة المطلقة أو على الأقل يمثلها في المدينة المنورة، إذ كان أول من حدد رسم المصحف المدني، ووصفه ونعت ما امتاز به من خصوصيات.
وبمثل هذا العمل قام بعده القاسم بن سلام أبو عبيد (ت 224) فيما يخص مصاحف أهل العراق. وقد لاحظ أئمة هذا الشأن وجود اختلافات جوهرية بين النمطين المدني والعراقي، وتتبعوها بالإحصاء والمقارنة، وعمدتهم في ذلك على عمل كل من نافع وأبي عبيد، وإلى هذا يشير الإمام الشاطبي في أول عقيلة أتراب القصائد بقوله:
" وبين نافعهم في رسمـهم وأبـــي         عبيد الخلف في بعض الذي أثــــرا
ولا تعارض مع حسن الظنون فطب           صدرا رحيبا بما عن كلهم صـــدرا[22].
قال أبو محمد اللبيب في الدرة الصقيلة في شرح البيتين:
"يريد أن نافعا ـ رحمه الله ـ وقع بينه وبين أبي عبيد اختلاف في الرسم، وذلك أن أبا عبيد لم يخالف نافعا إلا في مواضع يسيرة أدركه فيها إيهام، كقوله: "رأيت في الإمام" ولات حين مناص"[23]  متصلة التاء بالحاء، وقد أنكر عليه ذلك وغيره  مما سنذكره في مواضعه إن شاء الله"[24].
ثم قال اللبيب في بيان منزلة نافع في هذا الشأن: "وذلك أن نافعا ولد بالمدينة، وقرأ بالمدينة، وأقرأ الناس بها بجميع القراءات، وعاش عمرا طويلا، ومات بالمدينة سنة تسع وستين ومائة، فكان المصحف الذي أعطى عثمان أهل المدينة لا يزال عنده، فيكثر مطالعته ومواظبته إياه حتى تصور في خلده، فلم تؤخذ حقيقة الرسم إلا عن نافع، وعنه أخذ الغازي بن قيس وعطاء ...[25] وحكم الناقط[26] وغيرهم، وأبو عبيد إنما رأى المصحف مرة واحدة، ولكنه ذكر في كتابه المعروف بفضائل القرآن أنه تصفحه كله ورقة ورقة، فمن بقي ينظر عمره في  مصحف كمن رآه في يوم أو يومين؟ فكان أبو عبيد ربما توهم في النقل"
"فهذا سبب الاختلاف بينهما" ثم قال:" فنقل نافع أصح من نقل أبي عبيد لما ذكرته، وبالله التوفيق"[27].
ومهما يكن فقد كان نافع بهذه المثابة التي ذكرها له أبو محمد اللبيب في إطلاعه ومعرفته الراسخة بالمرسوم في المصحف المدني، سواء اطلع عليه في النسخة الأم التي أودعها عثمان المسجد النبوي[28]، أم في النسخ المأخوذة منه المعتمدة بالمدينة عند أئمة الإقراء المتصدرين، وقد تلقى عنه تلامذته هذا الرسم كاملا، وأطلقوا عليه "هجاء السنة"[29].
ويشهد لما ذكره اللبيب أيضا عن مواظبة نافع على النظر في إمام أهل المدينة وتمكنه من ذلك، ما ذكره عمر ابن شبة بسنده عن إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن عبد الله بن عبيد الله بن عتبة قال: "ان أول من جمع القرآن في مصحفه وكتبه، عثمان بن عفان، ثم وضعه في المسجد، فأمر به يقرأ في كل غداة"[30].
إلا أن ابن شبة قد ساق بعده خبرا آخر يدل على ضياع هذا المصحف، وأن الحجاج في زمنه كتب المصاحف من جديد، وبعث بها إلى الأمصار، وبعث بمصحف إلى المدينة، فكره ذلك آل عثمـان، فقيل لهم: "أخرجوا مصحف عثمـان ـ رضي الله عنه ـ فقيـل: " أصيب المصحف يوم قتل ... قال: فلما استخلف المهدي بعث بمصحف إلى المدينة، فهو الذي يقرأ فيه اليوم، وعزل مصحف الحجاج فهو في الصندوق الذي دون المنبر"[31].
والذي يظهر أن في الروايتين خلطا بين المصحف الرسمي الذي كتبه عثمان لأهل المدينة وأمر زيد بن ثابت ـ كما قدمنا ـ أن يقرئ الناس بما فيه، وأمر أن يوضع في المسجد ويقرأ به في كل غداة كما تقدم، وبين مصحفه الشخصي الذي أمسكه لنفسه، وقتل وهو يقرأ فيه[32].
وسواء كان هذا أو ذاك، فإن نافعا كان مهيئا لأن يطلع على كل ما هو بالمسجد النبوي، سواء كان الموجود النسخة الأم أو كان غيرها، مما قد كتبه زيد بن ثابت أو سواه تعزيزا للمصحف الإمام، ويدل على هذا تعبير الإمام مالك بلفظ الجمع حين سئل عن إدخال بعض العلامات التي يستعان بها في الضبط ونحوه فقال: "أما الأمهات فلا أراه"[33]. ولا شك أنه يعني بها المصاحف الأصول المعتمدة بأيدي أهل المدينة.
على أن نافعا قد صح عنه انه نظر أيضا في مصحف عثمان الشخصي، وذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم قال:
"قرأ علي يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، اخبرنا زياد بن يونس، حدثنا نافع بن أبي نعيم قال: أرسل إلي بعض الخلفاء مصحف عثمان ليصلحه، قال زياد: فقلت له: ان الناس ليقولون ان مصحفه كان في حجره حين قتل، فوقع الدم على "فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم"، فقال نافع: بصرت عيني بالدم على هذه الآية وقد قدم"[34].
فيستفاد من هذا وقوف نافع على مصحف عثمان، سواء في نسخته المدنية التي كانت مودعة بالمسجد النبوي أم في النسخة الخاصة به، أو في غيرهما مما أخذ منهما، مما جعله مرجعا لأهل الأمصار في زمنه في معرفة هذا الشان والعلم به.
ومن متممات هذا العلم الأوضاع الملحقة به التي اصطنعها العلماء لضبط حروف القراءة في المصحف، باستعمال علامات دالة على كيفية النطق والأداء، وتمييز الحركات والسكنات، وأحوال التنوين والهمز والإظهار والإدغام والإمالة وغير ذلك من الأحكام الضبطية والأدائية.
وقد أثر عن نافع الجمع في طريقته في "هجاء السنة" بين مرسوم الخط وكيفية نقطه وضبطه.
وسيأتي أخذ الغازي بن قيس القرطبي في رحلته إليه لهذا الرسم والضبط، وكيف جمع ذلك كله في كتاب سماه هجاء السنة"، "وصحح مصحفه على مصحف نافع ثلاث عشرة مرة، وتلقى عنه اختياره"[35].
وذلك معناه أنه حدد رسم مصحفه على الطريقة المدنية بالرواية عن نافع، كما حدد كيفية القراءة حسب اختيار نافع، وذلك عن طريق علامات النقط والشكل التي كان أهل المدينة قد اخذوا بها، مستعملين في ذلك مجموعة من الأصباغ الخاصة للتمييز بين مختلف علامات الضبط، ولئلا تلتبس بالرسم الأصلي المرسوم في المصحف الإمام، الذي حافظوا على كتابته بالسواد، وهكذا كانوا "يكتبون الحركات نقطا"[36] بالحمرة، والهمزات بالصفرة، وألفات الوصل المبتدأ بهن بالخضرة، والصلات والسكون والتشديد بقلم دقيق بالحمرة"[37].
وقد شهد نافع هذا الطور من أطوار تحقيق الرسم وتحرير أساليب الضبط، وكان في المدينة من رواد هذه الطريقة التي اقتبست معالمها ـ كما قدمنا ـ عن متقدمي علماء البصرة، إذ كانوا المبتدئين بالنقط والسابقين إليه.
ويدل على شهود نافع لهذا الطور، إسهامه هو أيضا مع المتسائلين عن مدى مشروعية إدخاله في المصحف وقد أسند أبو عمرو الداني من طريق سحنون عن عبد الله بن وهب قال: حدثني نافع بن أبي نعيم قال:
"سألت ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن شكل القرآن في المصحف، فقال: لا بأس به"[38].
ولربما كان هذا السؤال منه في طور التلقي قبل أن يتوسع مع رواد حلقته في الأخذ به وضبط اختياره عليه، وقد تبين لطائفة من الفقهاء يومئذ، وأكثرهم من القراء  ـ رجحان المصلحة في السماح بإدخال نظام الشكل في ضبط القراءات في المصاحف، والمساعدة على النطق السليم بحروف القرآن مجودة ومعربة، لما في ذلك من التيسير على المتعلمين من جهة، ولما فيه من تحديد للرواية المقروء بها، مع التحرز عن الخطأ واللحن، وكان الإمام مالك بن أنس يسأل عن ذلك كثيرا، وربما كان يضيق من كثرة ما ظل يسأل عن هذا فيقول:
"لا يزال الإنسان يسألني عن نقط القرآن، فأقول له: "أما الإمام من المصاحف فلا أرى أن ينقط، ولا يزاد في المصاحف ما لم يكن فيها، فأما المصاحف الصغار التي يتعلم فيها الصبيان وألواحهم فلا أرى بأسا"[39].
وقد احتفظت بعض المصنفات المختصة بقائمة طويلة من الروايات عن بعض أصحاب نافع في رسم المصحف رواية عن نافع نكتفي منها هنا بذكر أمثلة مع الإشارة إلى مظانها لمن أحب المزيد.
فمن ذلك ما أسنده الداني في كتاب المقنع من طريق عيسى بن مينا قالون عن نافع بن أبي نعيم القارئ قال:
"الألف غير مكتوبة ـ يعني في المصاحف ـ في قوله في البقرة: "وما يخدعون"[40] "وإذا وعدنا"[41] "ووعدنا موسى"[42] "ووعدنكم"[43] حيث وقعن، و"فأخذكم الصعقة"[44] "وتشبه علينا"[45] ..... وساق عددا كبيرا من أول القرآن إلى آخره مرتبا على السور[46].
وقال أبو عمر الطلمنكي[47] "إثبات الألف بعد السين من "سحر" و"السحــر"[48]
أولى لقول نافع: "انه في مصاحف أهل المدينة بألف بعد السين"[49].
وقال الطلمنكي أيضا: "وكتبوا في جميع مصاحف أهل الأمصار في سورة الرعد "وسيعلم الكفر"[50] بغير ألف قبل الفاء ولا بعدها[51]، وكذلك رواه قالون عن نافع"[52].
وقال أبو داود سليمان بن نجاح ـ صاحب أبي عمرو الداني ـ في كتاب "التبيين": "قال نافع: "حاش لله"[53] من غير ألف بعد الحاء والشين إجماعا من كتاب المصاحف"[54].
وقال أبو داوود في التبيين أيضا: "قال نافع المدني: "هما في الكتاب بنون واحدة ـ يعني "فننجي من نشاء"[55]  وننجي المومنين"[56] في الأنبياء"[57].
وقال في التبيين أيضا: "قال نافع بن أبي نعيم: "يسئلون عن أنبائكم"[58] هي في الامام بغير ألف بعد السين"[59].
وقال أبو عبد الله بن أشتة في كتاب المصاحف: "قال نافع بن أبي نعيم: "في مصاحف أهل المدينة "يضعفه له أضعفا"[60] و"يضعف" و"مضعفة" حيث وقعن، بحذف الألف في جميعهن[61].
وقال أبو محمد عبد الله بن سهل ـ صاحب مكي وأبي عمرو الداني ـ في كتاب "الدرر المنظوم":
"روى قالون عن نافع "طئف" بغير ألف في الخط إذا قرئت هذه الكلمة لنافع[62].
ومن هذه النقول المتنوعة عند الأئمة المهتمين بدراسة رسم المصاحف واختلاف النقلة فيه، يتبين مقدار اهتمام نافع ببيان الرسم وتحديده، ووصفه ما في مصحف المدينة، ويتبين أيضا من هذه النقول أن منها ما يصف عن كثب خصوصيات هذا المصحف، كقوله "طيف" بغير ألف، و"حش من غير ألف بعد الحاء والشين، و"الكفر" بغير ألف إلى غير ذلك مما ذكره، مع أن هذه الكلمات في قراءته بألف بإجماع الرواة عنه بعد الطاء من "طيف" والحاء من "حش" والكاف من الكفر". وكقوله "يسئلون" هي في الإمام بغير ألف بعد السين.
ومثل ذلك في قوله: "وما يخدعون إلا أنفسهم" حيث قرأها بألف بعد الخاء، وقوله "وعدنا" ونظائرها، في كثير من الكلمات المحذوفة الألف التي ساقها أبو عمرو في أول المقنع في قائمة طويلة.
وقد عني بعض أصحابه بنقل هذه الجزئيات عنه، كالنقول المستفيضة عنه عند قالون في المقنع، وما جاء عن إسحاق المسيبي عنه بخصوص الوقف على أواخر الكلم من أنه "كان يقف على الكتاب" يعني حسب المرسوم[63]. وفي ذلك يقول الداني في إيجاز البيان: اعلم أن الرواية عنه معدومة من طريق ورش وغيره من الناقلين عنه، غير أن إسحاق المسيبي، فإنه روى ذلك عنه منصوصا، فوجب استعمال ما رواه، إذ المصير إلى خلاف ذلك بغير دليل من رواية لا يسع أحدا"[64].
ومن هنا جاء اهتمام المغاربة بوجه خاص بتتبع قضايا الرسم على مذهب نافع، وعنوا به عناية خاصة، انطلاقا من أخذهم لاختياره في القراءة، واعتمادهم لمذهبه في الجملة، فظهر فيهم من أئمة هذا الشأن من برز فيه تبريزا منقطع النظير كأبي عمرو الداني وسليمان بن نجاح تلميذه من المتقدمين، وأبي عبد الله الخراز من المتأخرين حتى أضحوا عمدة أهل القرآن في تحقيق مسائل هذا الفن رسما وضبطا، وظلوا كذلك مرجعا إلى الآن[65].
وبلغ من حرصهم على تحديد مذهب نافع في ذلك أن قاموا بإحصاء لما تتطرق إليه الزيادة والنقصان حسب نوع القراءة، فأحصوا الأحرف التي تمثل تلك الزيادات في قراءة نافع، فقال الإمام الشوشاوي:
"وأما عدد ألفات القرآن على مذهب نافع، فهي ثمانية وأربعون ألفا وسبعمائة وأربعون ألفا ..." وذكر نحوا من ذلك في عدد الياءات والواوات[66].
وهكذا نالت مدرسة نافع في المدينة ثم في امتداداتها في الجهات المغربية منزلة الإمامة في هذا العلم ومتمماته، فأشبعوه بحثا، واستفرغوا غاية الجهد في مسائله وقضاياه نظما ونثرا


[1] - مقدمة ابن خلدون 438.
[2] - نفس المصدر والصفحة.
[3] - المحكم 11 والمقنع 10.
[4] - البرهان للزركشي 1/380.
[5] - نفس المصدر والصفحة.
[6] - أي المكتوب والمرسوم في المصحف الإمام.
[7]  - الإيضاح في الوقف والابتداء لابن الأنباري 1/385.
[8] - سورة يونس الآية 33 وغافر الآية 6.
[9] - سورة الأنعام الآية رقم 116.
[10] - سورة يوسف الآيتان 10-15.
[11] - قال في النشر عند ذكر "كلمت" : "قرأ الكوفيون ويعقوب بغير ألف على التوحيد في الثلاثة، وافقه ابن كثير وأبو عمرو في يونس وغافر، وقرأ الباقون بألف على الجمع فيهن" –النشر 2/293.
[12] -  البقرة 85.
[13] - قرأ حمزة أسرى بغير ألف، وقرأ باقي العشرة بالفاء بعد السين – النشر 2/218.
[14] - قرأ نافع وأبو جعفر وعاصم والنسائي ويعقوب الحضرمي "تفادوهم" بألف بعد الفاء" – النشر 2/218.
[15] - قسموا الحذف إلى حذف اختصار واقتصار وإشارة ـ ينظر في ذلك "الدرة الصقيلة لأبي محمد اللبيب (مخطوط).
[16] - الحج 38 والبقرة 240.
[17] - سورة الحج الآية 36.
[18] - سورة الزخرف الآية 53.
[19] - النساء الآية 127 – قرأ نافع "دفاع" و"يدافع" و"أساورة" و"يصالحا" كل ذلك بالألف.
[20] - أشار إلى المقنع للداني ص 40.
[21] - كتاب رسم المصحف لغانم قدوري الحمد 164.
[22] - عقيلة الأتراب للشاطبي – مجموع اتحاف البررة بالمتون العشرة 320.
[23] - سورة ص الآية رقم 2.
[24] - يعني في شرحه للعقيلة.
[25] - في المخطوطة "عطاء بن يسار" والصحيح عطاء الخراساني كما سيأتي في  أبيات مورد الظمآن للخراز
[26] - سيأتي في أصحاب الغازي بن قيس القرطبي صاحب نافع.
[27] - الدرة الصقيلة في شرح العقيلة ( مخطوطة) وستأتي.
[28] - سيأتي الخلاف في شأن بقائها في المسجد أو ضياعها.
[29]  - سيأتي ذكر أخذ الغازي بن قيس عنه لهذا الهجاء.
[30] - تاريخ المدينة المنورة لعمر بن شبة 1/7.
[31] - المصدر نفسه 1/7-8.
[32] - هناك خلاف في عدد المصاحف التي كتبها عثمان وبعث بها إلى الأمصار فقيل أربعة وقيل سبعة – كما في كتاب المقنع للداني 9. – وذكر ابن أبي داود في المصاحف 46-47 ما يدل على أن مصحفه الخاص كان غير مصحف أهل المدينة، وساق حروفا كثيرة يخالفه فيها.
[33] - المحكم 11.
[34] - نقله ابن كثير في تفسيره 1/330.
[35] - غاية النهاية 2/2 ترجمة 3534.
[36] - كانوا يستعملون الشكل المدور بدل الحركات كما قدمنا.
[37] - هذا وصف مصحف حكم بن عمران صاحب الغازي بن قيس ناقط أهل الأندلس كما وصفه الداني في المحكم 87.
[38] - المحكم 13.
[39] - المحكم: 11.
[40] - سورة البقرة رقم الآية 8.
[41] - البقرة الآية رقم 50.
[42] - سورة الأعراف الآية رقم 142.
[43] - سورة طه الآية رقم 78.
[44] - سورة البقرة الآية رقم 54.
[45] - سورة البقرة الآية رقم 69.
[46] - المقنع في معرفة مرسوم أهل الأمصار 10-15.
[47] - سيأتي في أئمة القراءات في قرطبة (ت 429 هـ).
[48] - رسم لفظ "ساحر" "والساحر" بلا ألف هكذا ذكر أبو عمرو الداني في المقنع 20 واستثنى في "والذريات" "الا قالوا ساحر". والعمل الآن على إثبات الألف في هذا الموضع وفي "ولا يفلح الساحر" في طه الآية رقم 68 وفي "يا أيه الساحر" في سورة الزخرف 48.
[49] - الدرة الصقيلة للبيب (مخطوط).
[50] - سورة الرعد الآية ما قبل الأخيرة من السورة.
[51] - قرأها بألف بعد الكاف بصيغة المفرد نافع وابن كثير وأبو عمرو، وقرأ باقي السبعة "الكفار" بألف بعد الفاء بصيغة الجمع. – ينظر كتاب السبعة لابن مجاهد 359 – والتيسير لأبي عمرو 134.
[52] - نقله اللبيب في الدرة الصقيلة (مخطوط).
[53] - سورة يوسف الآية رقم 31.
[54] - نقله اللبيب في الدرة الصقيلة (مخطوط).
[55] - سورة يوسف الآية ما قبل الأخيرة من السورة.
[56] - سورة الأنبياء الآية رقم 87.
[57] - نقله في الدرة الصقيلة (مخطوط).
[58] - سورة الأحزاب الآية رقم 20.
[59] - نقله في الدرة الصقيلة (مخطوط).
[60] - سورة البقرة الآية رقم 243.
[61] - نقله في الدرة الصقيلة عند قول الشاطبي في العقيلة:
يضعف الخلف فيه كيف جاء وكتبه ونافع بالتحريم ذاك أرى.
[62] - نقله في الدرة الصقيلة (مخطوط)، والإشارة إلى قوله تعالى: "ان الذين اتقوا إذا مسهم طئف من الشيطن تذكروا فإذا هم مبصرون" الآية 201، قرأ نافع "طائف" بألف بعده همزة، ووافقه ابن عامر وعاصم وحمزة، وقرأ باقي السبعة "طيف" بغير همز ولا ألف بوزن "غيث" – ينظر التيسير 115.
[63] - ينظر المقنع 60.
[64] - نقله ابن القاضي في باب الوقف على مرسوم الخط من الفجر الساطع (مخطوط).
[65] - ما تزال مؤلفات المغاربة والأندلسيين عمدة في هذا الشأن في تصحيح قضايا الرسم وتحرير مسائل الخلاف، ودليل ذلك اعتماد مختلف اللجان التي تتولى طبع المصاحف في مختلف البلدان الإسلامية على كتبهم، سواء التي طبعت برواية ورش أم التي طبعت برواية حفص عن عاصم، وقد نصت لجن طبع المصحف الشريف التي قامت بطبعه بموافقة إدارة الإفتاء العام في الجمهورية العربية السورية بتاريخ جمادى الثانية عام 1398 –15 أيار 1978 – في تعريفها بمصادرها في طبع المصحف برواية حفص على أنه "أخذ هجاؤه مما رواه علماء الرسم عن المصاحف التي بعث بها سيدنا عثمان بن عفان ... على حسب ما رواه الشيخان أبو عمرو الداني وأبو داود سليمان بن نجاح مع ترجيح الثاني عند الاختلاف، والعمدة في بيان كل ذلك على ما حققه الأستاذ محمد بن محمد الأموي، الشريشي المشهور بالخراز في منظومته مورد الظمآن ... الغ
[66] - الفوائد الجميلة على الآيات الجليلة للشوشاوي 353.

Post a Comment

أحدث أقدم