اتقان الامام نافع  لعلم التجويد
علم التجويد، فيعتبر الإمام نافع من قدامى رواده، وأحد من عرف من القراء السبعة بمباحثة أصحابه فيه، وربما كان هو وحمزة بن حبيب أكثر القراء المشهورين حفاوة بمباحثه، انسجاما منهما مع  ما كانا يأخذان به في الغالب من اختيار طريقة "التحقيق" في القراءة والأداء، وهي طريقة تمتاز بالتمهل والترسيل، واستيفاء مخارج الحروف وصفاتها، وذلك ـ كما وصفه الحافظ ابن الجزري ـ يكون "بإعطاء كل حرف حقه، من إشباع المد، وتحقيق الهمز، وإتمام الحركات، واعتماد الإظهار التشديدات، وتوفية الغنات، وتفكيك الحروف ببيانها وإخراج بعضها من بعض، بالسكت والترتيل واليسر والتؤدة، وملاحظة الجائز من الوقوف"[1].
وقد كان القائمون على صناعة التعليم من كبار الأئمة يأخذون شداة المتعلمين بمراعاة هذه الأحكام ليتمرنوا على أدائها، وربما بالغ بعضهم في تحريها طلبا لرسوخها في أداء القراء، وتحولها مع الممارسة من المحاولة إلى الملكة والصدور التلقائي دون تكلف أو جهد، على نحو ما ذكر عن حمزة في أخذه بذلك المبتدئين[2].
وقد فرق ابن قتيبة في ذلك بين مقامين: مقام الأداء العادي في التلاوة، ومقام التلقين، فنوه بالمقام الأول في موضعه وذكر أنه قراءة السـلف، وأنها "كانت سهلة رسلـة ـ قال ـ: وهكذا نختار للقراء في أورادهم". ثم قال عن المقام الثاني: "فأما الغلام الريض والمستأنف للتعلم، فنختار له أن يؤخذ بالتحقيق عليه من غير افحاش في مد أو همز أو إدغام، لأن في ذلك تذليلا للسان، وإطلاقا من الحبسة، وحلا للعقدة"[3].
ومن هذا المنطلق أخذ الإمام نافع يعنى بالأخذ بقراءة التحقيق حتى اشتهر بها، ورواها عنه بعض أصحابه وأخذوا بها، ومنهم أبو سعيد ورش الذي ندير هذا البحث حول روايته، وسوف نرى عند دراسة أصول هذه الرواية أنه كان يسند قراءة "التحقيق" خاصة من قراءته بها على نافع من طرق شيوخه الخمسة عن عبد الله بن عياش عن أبي بن كعب عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ[4].
و"التحقيق" المذكور هو نوع من الترتيل، والفرق بينهما ـ كما يقول أبو عمرو الداني ـ أن الترتيل يكون بالهمز وتركه، والقصر لحروف المد، والتخفيف والاختلاس[5] ، وليس ذلك في التحقيق"[6].
ومعنى ذلك أن "التحقيق" أقصى ما يكون من الترتيل، أو هو القدر الزائد عليه.
وبقيت لنا إشارات قليلة مما كان يأخذ به نافع على أصحابه في تلقين هذه القواعد عند الأداء، ففيما حدث به عنه القارئ المصري سقلاب بن شيبة قال: قال لي نافع:
"بين النون في هذه الأحرف إذا لقيتها: عند الحاء والخاء والعين والغين والألف والهاء"[7].
وهذه الأحرف الستة هي المعروفة في علم التجويد بحروف الحلق، لأن مخرجها منه، وقد نبهه نافع على إظهارها وبيانها في حالة الإسكان، وعدم إخفائها عند هذه الأحرف كما تخفى عند غيرها من باقي الحروف. وذلك في مثل "أنعمت" و"ينهى" و"من خير" و"ينئون"[8]، وكذلك عند النون المنقلبة عن التنوين نحو "عليم حكيم" و"جرف هار".
وقد نبه الواضعون لعلامات الضبط على كيفية التفريق فيه بين النون المخفاة والمظهرة عند الحروف الحلقية وغيرها، وذلك بتعربة المخفاة من السكون دون المظهرة، كما فرقوا في مثل ذلك من المنون، فوضعوا حركتي التنوين متتابعتين في ما هو مخفى، ومتراكبتين في المظهر، مساعدة للقارئ على التفريق بينهما في الأداء، وهذا العمل في هذا التمييز من وضع المتقدمين من النقاط، وربما كان لعلماء المدينة نصيب فيه.
وقد وصف أبو عمرو الداني ذلك في "المحكم" ثم قال: "وهذا الذي ذكرناه من تراكب التنوين عند حروف الحلق وتتابعه عند غيرها من سائر حروف المعجم، إجماع من السلف الذين ابتدأوا النقط وابتدعوه، وجرى عليه استعمال الخلف"[9].
ولعل شيوع أخذ نافع بقراءة التحقيق جعله يستغرب قراءة "الحدر" أو يتظاهر بذلك عند من قال له من العارضين عليه: "خذ علي الحدر، فقال نافع: ما الحدر؟ ما أعرفها، أسمعنا، قال: فقرأ الرجل، فقال نافع: "حدرنا أن لا نسقط الإعراب، ولا نشدد مخففا، ولا نخفف مشددا، ولا نقصر ممدودا، ولا نمد مقصورا..."[10].
ولعل تنويه نافع ببعض المجيدين للأداء من أصحابه كان نابعا من تحقيقهم لهذا المستوى من الانسجام في القراءة مع مقتضيات الإجادة والتحقيق، فقد قال عنه صاحبه قالون:
"كنت إذا قرأت على نافع عقد الثلاثين[11]، ويقول: "قالون" ـ يعني جيد"[12].


[1] - النشر لابن الجزري 1/205.
[2] - ينظر في ذلك جمال القراء وكمال الإقراء للسخاوي 2/527-528.
[3] - تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة 61.
[4] - أسنده أبو عمرو الداني في كتاب "التجريد بسند مسلسل بالقراءة بالتحقيق ونقله ابن الجزري في النشر 1/206-207 بسنده من طريق أبي عمرو الداني، وذكر أنه ذكره في جامع البيان.
[5] - هو الإسراع بالنطق بالحركة حتى يظن أن الحرف ساكن.
[6] - نقله ابن الجزري في التمهيد 62.
[7] - غاية النهاية 1/308-309 ترجمة 1359.
[8] - الهمزة التي تظهر عندها النون هي التي عبر عنا نافع بالألف اعتبارا لحملها لها في مثل "قد أفلح".
[9] - المحكم 72.
[10] - نقله علم الدين السخاوي في جمال القراء 2/530. وقد تقدمت الاستفادة من النص.
[11] - يعني أشار بيده عاقدا أصبعيه السبابة والإبهام وباسطا سواهما على هيئة عدد ثلاثين، كنابة عن الإعجاب.
[12] - نقله الجعبري في كنز المعاني عند التعريف بقالون، وقال: خاطبه بلسان الروم، لأنه من سبي الروم".

Post a Comment

أحدث أقدم