زهد نافع ومنزلته عند الخلفاء وامتناعه من الصلاة في التراويح إماما في المسجد النبوي بمحضر الخليفة لقاء مكافأة مالية:
وقد ذكر عياض أن الخليفة المهدي العباسي  حين زار المدينة "شاور مالكا في ثلاثة أشياء: "في الكعبة أن ينقضها ويردها على ما كانت عليه[1]، فأشار عليه أن لا يفعل، وفي المنبر أن ينقضه ويرده على ما كان عليه[2]، وشاوره في نافع بن أبي نعيم القارئ أن يقدمه للصلاة، فأشار عليه أن لا يفعل، وقال: هو إمام، أخاف أن يكون منه شيء في الغفلة فيحكى عنه"[3]
وروى عبد الله بن وهب عن مالك خبر هذه الاستشارة، لكنه جعل المستشير له نافعا نفسه، فروى عن مالك قال: استشارني نافع بن أبي نعيم في الإمامة، فأشرت عليه أن لا يفعل، وقلت له: أنت امام، وتحمل زلتك في الآفاق"[4].
وذكر الإمام أبو القاسم الهذلي في كتاب "الكامل" هذا الترشيح لنافع للإمامة بصورة أخرى فيها إغراء مادي للشيخ ليتولى هذا الأمر، وإن كان قد جعل القصة تتعلق بالرشيد بن المهدي لا بوالده معه، فجاء في هذه الرواية ان الرشيد سأل نافعا أن يصلي به لما قدم المدينة التراويح، وله بكل ليلة مائة دينار، فشاور مالكا ـ رحمة الله عليهما ـ فقال له: "ان الله تعالى يعطيك المائة من فضله، وأنت إمام، فربما يجري على لسانك شيء، لأن القرآن معجز، وأنت محترم فلا تعاود في ذلك، لاعتماد الناس عليك، فتسير به الركبان فتسقط"[5].
وذكر أبو عبد الله المجاصي أن مالكا قال لنافع: "يا أبا عبد الله لا تفعل، فإنك مصدق في قولك، وربما يقع منك السهو فيقتدي بك الناس"[6].
ومهما يكن الذي طلب منه أن يتقدم لإمامة التراويح بالخليفة، أهو الخليفة نفسه أم ابنه؟ وأيهما الذي استشار مالكا، أهو الخليفة أم غيره، أم نافع نفسه؟ فإن دلالة الخبر على منزلة نافع عند الخليفة لا تخفى، لاسيما حينما توضع في مقابل المشروعين اللذين استشار فيهما مالكا، كما لا يخفى في جواب مالك وما علل به مقدار احتياطه لهذا الإمام المراد انتدابه لمثل هذه المهمة، إلى جانب ما فيها قبل ذلك ومعه من الاحتياط لكتاب الله، إذ ليس مما يستبعد في رأي مالك أن يزل لسان الشيخ بما لا يريده في قراءته ولا يفطن إليه، فيحمله عامة الناس على السداد في ذلك لجلالة قدره عندهم، فيتحملون عنه الخطأ الذي لم يقصد إليه على انه وجه في القراءة قرأ به نافع على رؤوس الملأ، ويحمله غيرهم من علماء هذا الشأن على محمله الصحيح، فيغض ذلك من قدره، وربما كان في العارفين من يذكره ويتندر بحكايته عنه في المجالس، فيسقط بذلك شأنه، لاسيما مع اعتبار العادة الجارية في عدم الرد على الأئمة ـ فيما حكاه الإمام محمد بن الطيب الباقلاني ـ فقال: "وقد اتفقت الأمة على قبح الرد على الأئمة في المحاريب لغلط يقع منهم، وكذلك سبيل الرد على الأستاذين، لموضع إجلالهم، وجمال عشرتهم"[7].
ولعل ذلك ما يفيد قول مالك له: "فلا تعاود في ذلك، لاعتماد الناس عليك"
فمثل هذا الزلل في اللسان خاف مالك على شيخه،لأنه أولا يشينه عند العلماء بالقراءة "فتسير به الركبان فيسقط"، وفي ذلك ما فيه من التزهيد في الشيخ بعد ذلك وفي الأخذ عنه، ولما فيه ثانيا من إمكان تلقي غير العارفين به بالقبول "فيقتدي به الناس فيه"، وفي كلا الأمرين محذور ومحظور يربأ مالك بالشيخ أن يعرض نفسه لهما، ولو في مقابل هذا الإغراء المادي الذي ربما كان في أمس الحاجة إليه، ولا أدل من هذا العرض وتلك الاستشارة وهذا التحليل السليم للموقف من طرف الإمام مالك، على مقدار ما أحرزه نافع من التقدير والتبجيل والرعاية المنقطعة النظير عند الخواص والعوام، ولكن لا عجب بعد الجهاد والجهد الطويل الذي بذله هذا الإمام في العكوف على كتاب الله، وتلقين قراءته السنية للأجيال من أطراف البلاد الإسلامية، أن يحظى بهذا التشريف والتكريم، وأن ينال كل هذا التوقير والتعظيم.


[1]- في رواية ابن عبد البر في التمهيد 10/49-50 أن صاحب القضية مع مالك هو هارون الرشيد، وأنه قال لمالك: "أريد أن أهدم ما بنى الحجاج بن يوسف من الكعبة، وأن أرده إلى بناء ابن الزبير، فقال له: ناشدتك الله يا أمير الممنين أن تجعل هذا البيت ملعبة للملوك، لا يشاء أحد منهم إلا نقض البيت وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس".
والظاهر أن ما ذكره عياض أليق بالتاريخ وأقرب، إذ أن الرشيد إنما ولي الخلافة سنة 170 أي بعد وفاة نافع، كما أنه لم يذكر قبل توليه الخلافة فيمن حج بالناس نيابة عن الخليفة كالعادة، كما يتبين من قائمة أسماء الذين تولوا الحج بالناس بأمر الخلفاء من عهد النبوة إلى عصر المؤرخ المسعودي (ت 346 هـ) ويمكن الرجوع إلى هذه القائمة في كتابه مروج الذهب 4/402.
وأما الخليفة المهدي فله رحلة مشهورة إلى الحجاز دخل فيها المدينة، وقصة التماسه من مالك أن يقرأ الموطأ على ولد يه موسى  الهادي – وهارون – الرشيد – مشهورة، ويمكن الرجوع إليها في كتاب الانتفاء لابن عبد البر 42 – وترتيب المدارك لعياض 2/19-20 وكذا في 2/98-102.
وقد ذكر ابن شبة في تاريخ المدينة المنورة 1/18 أن المهدي قدم حاجا سنة 161، وذكر قصة تجديد المنبر.
[2] -  كان معاوية رضي الله عنه قد زاد في منبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ  ينظر في ذلك:
 ترتيب المدارك 2/105. – وتاريخ المدينة المنورة لعمر بن شبة 1/18.
[3] -  ترتيب المدارك 2/105-106.
[4] -  نقله السخاوي في جمال القراء 2/445.
[5] -  لطائف الإشارات للقسطلاني 1/93 نقلا عن الهذلي.
[6] -  شرخ المجاصي على الدرر اللوامع (مخطوط).
[7] -  نكت الانتصار للباقلاني 327.

Post a Comment

أحدث أقدم