الحركة
العلمية في المسجد النبوي في عهد ولاية عمر بن عبد العزيز
وقد تعزز هذا
النشاط بولاية عمر بن عبد العزيز على الحجاز
وكان قد تخرج في هذا الأفق نفسه على مشيخة المدينة، فكان من شيوخه صالح بن كيسان
مولى بني غفار "من فقهاء المدينة من ذوي المروءة والهيئة"[1]
الذي عهد إليه أبوه بالإشراف عليه[2].
ومنهم مسلم بن جندب الهذلي أحد شيوخ نافع في القراءة ـ كما
سيأتي ـ[3]،
ومنهم عبيد الله بن عبد الله بن عتبة الهذلي من أصحاب زيد، "وكان عمر يختلف
إليه يسمع منه العلم"[4]، ومجاهد بن جبر ـ
صاحب ابن عباس ـ،
وميمون بن مهران[5] وسواهم من الأعلام.
وكان عمر بن عبد العزيز معدودا في قراء المدينة[6]،
وله قراءة كانت معروفة نجد الإشارة إلى بعض حروفها في كتب التفسير وعلوم القرآن[7]،
وقد ترجم له ابن الجزري في طبقات القراء وقال: "وردت الرواية عنه في حروف
القرآن، ونقل عن معمر[8] وصفه لقراءة عمر
قال:
"كان عمر بن عبد العزيز حسن الصوت بالقرآن، فخرج ليلة
فقرأ وجهر بصوته، فاستمع له الناس، فقال سعيد بن المسيب: فتنت الناس، فدخل"[9].
وكان من لطف الله بأهل الحرمين أن عهد الوليد بن عبد الملك
بن مروان بالولاية عليهما لعمر، فوليها له سبع سنين وخمسة أشهر[10]،
"وكان في أيامه وولايته على المنطقة، يلجأ إلى مكة والمدينة كل من خاف من
الحجاج فيأمن، وكان منهم سعيد بن جبير هاربا من الحجاج"[11].
وقد افتتح عمر ولايته على المدينة بتكوين مجلس شورى من خيرة
العلماء، وتعيين قارئ من
صفوتهم قال أبو الزناد[12]: "ولي عمر بن
عبد العزيز المدينة في ربيع الأول سنة سبع وثمانين[13]، وهو ابن خمس
وعشرين سنة، ولاه إياها الوليد بن عبد الملك، فولى عمر قضاءها أبا بكر محمد[14]
بن عمرو بن حزم، ودعا عشرة من فقهاء البلدة منهم عروة والقاسم وسالم، فقال: إني
دعوتكم لأمر تؤجرون فيه، وتكونون فيه أعوانا على الحق"[15].
وكان أولئك العشرة من أفاضل شيوخه "فجعلهم أهل مشورته،
لا يقطع أمرا دونهم"[16].
وهكذا كانت ولايته إيذانا بنهضة علمية وفقهية رفيعة في عامة
أنحاء ولايته، ولاسيما في المسجد النبوي الذي زوده عمر بوقود جديد أذكى فيه الحركة
العلمية، ونفخ فيها روحا قويا.
وكان لعمر بن عبد العزيز رحمه الله هوى خاص في أهل القرآن
والمنتسبين إليه، عبر عنه بكل الوسائل في عهد ولايته، ثم في عهد خلافته، فمن ذلك
أنه "كان لا يفرض العطاء إلا لمن قرأ القرآن"[17].
وكتب إلى عامله على الصدقات يقول: "فأما الصدقات ..
فأولى الناس بها من تفقه في الدين وقرأ القرآن[18] وكانت لأهل القرآن في
عهده التقدمة على من سواهم في كل أمر، لاسيما في الوظائف العامة، فقد جاء عن عبد
الوهاب بن الورد قال: "بلغنا أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عماله: إياكم أن
تستعملوا على شيء من أعمالنا إلا أهل القرآن"[19] .
كما اختص أهل هذا الشأن بالدخول عليه، وحجب غيرهم "فلم
يكن له في الشعراء رأي ولا أرب وإنما كان رأيه وبطانته القراء والفقهاء، ومن وسم
عنده بورع"[20].
وقد عبر عن هذا شاعر العصر يومئذ جرير بن عطية ـ شاعر بني
أمية (ت110) حين وفد عليه في أول خلافته مهنئا في زمرة من وفد عليه من الشعراء
والكبراء، على العادة الجارية في تهنئة الخلفاء وانتجاعهم طلبا للجوائز والصلات،
فإذا بعمر يأذن لمن جاءه من الفقهاء والقراء، ولا يأذن للشعراء، فكان جرير فيمن
أطال المقام ببابه دون أن يأذن له بالدخل، فلما جاء عون بن عبد الله بن عتبة بن
مسعود ـ أحد أجلة العلماء ـ أذن له في حينه، فتعلق به جرير وقال:
أبلغ خليفتنا إن كنـــت لاقيه أني لدى الباب كالمصفــود في قرن[23]
فقال له عون: من أنت؟ فقال: جرير قال: انه لا يحل لك عرضي،
قال: فاذكرني للخليفة، قال: إن رأيت موضعا فعلت. ثم قال: هذا جرير بالباب، فأحرز
لي عرضي منه، فأذن لجرير فدخل عليه، فقال:
لجت أمامة في أمري وما علمت
عرض اليمامة روحاتي ولا بكري ...الأبيات[24]
ثم ذكر أن عمر ترقرقت عيناه تأثرا مما سمع من شكواه، ثم سأله
أهو من المهاجرين أم الأنصار أم ممن يجاهد ويقاتل على الفيء؟ وفي كل ذلك يقول
جرير: لا، فقال: فلا أرى لك في شيء من هذا الفيء حقا، ثم أعطاه عشرين دينارا فضلت
من عطائه، فخرج على الشعراء يقول: ليلحق الرجل منكم بمطيته:
وجدت رقى الشيطان لا تستفزه
وقد كان شيطاني من الجن راقيا[25].
وعبر عن مثل هذه الحال أيضا شاعر المدينة عبد الله بن محمد الأنصاري
المعروف بـ"الأحوص"[26]، فقد وفد عليه في
جملة الشعراء فحجبه ولم يأذن له، وجاء زيد بن أسلم أبو أسامة المدني مولى عمر بن
الخطاب ـ من أصحاب الحلقات العلمية بالمسجد النبوي ـ فأذن له، فقال الأحوص في ذلك
مخاطبا عمر:
خليلـي أبا حفص، هل أنت مخبري أفي الحق أن أقصى ويدنى ابن أسلما؟
فقال عمر: ذلك الحق"[27].
وقد أفضت في عرض موقف عمر من الشعراء، لأنوه بهذا التحول
الذي خالف فيه عمر سلفه من الخلفاء والأمراء والذي كان لصالح الحركة العلمية
بالمدينة على الخصوص في زمن الطلب من حياة نافع الذي نترجم له، فكان ذلك مما يورث
شعلة المعرفة بها، ويثري حلقاتها ومجالس العلم بها بالمستويات العالية من العلماء
والقراء، إلى الحد الذي ضاقت معه رحاب المسجد النبوي عن استيعابها وتزايد الشعور
بالحاجة إلى توسيعه، فكتب الوليد بذلك إلى عمر بن عبد العزيز، وبعث إليه بالمال
والصناع، وولى القيام بأمره والنفقة عليه صالح بن كيسان[28].
وقد كتب لنافع أن يشهد هذا التوسيع وهو في طور الفتوة، ثم
عاش حتى أدرك توسيعه مرة أخرى وهو شيخ في أيام الخليفة المهدي بن أبي جعفر لمنصور
سنة 162هـ[29].
[1]- مشاهير علماء الأمصار 135 ترجمة 1068.
[2]- سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لأبي الفرج عبد
الرحمن بن الجوزي 13.
[3]- غاية النهاية 2/297 ترجمة 3600.
[4]- سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز 13.
[5]- مشاهير علماء الأمصار 117 ترجمة 908.
[6]- تقدم ذكره في النص الذي اقتبسناه عن أبي عبيد
من كتاب القراءات، ومثله في النشر 1/8.
[7]- يمكن الرجوع إلى البحر المحيط لأبي حيان
والمحرر الوجيز لابن عطية والمحتسب لابن
جني وسواها.
[8]- هو معمر بن راشد الأزدي من أتباع التابعين (ت
152) – مشاهير علماء الأمصار 192 ترجمة 1343.
[9]- غاية النهاية 1/593 ترجمة 2412.
[10]- المعارف لابن قتيبة 157.
[11]- تاريخ ابن خلدون 3/65.
[12]- هو عبد الله بن ذكوان المدني سيأتي في مشيخة
نافع.
[13]- وذكر السيوطي انه وليها من سنة 86 هـ إلى سنة
93 ـ تاريخ الخلفاء للسيوطي 364.
[14]- سماه وجعل أبا بكر كنية له، وذكر ابن حبان أن
اسمه كنبته ومات سنة 120هـ - مشاهير علماء الأمصار 76.
[15]- سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي 41.
[16]- تاريخ ابن خلدون 3/60.
[17]- كتاب القطع والائتناف لأبي جعفر النحاس 84.
[18]- تاريخ المدينة المنورة لعمر بن شبة 1/216-217.
[19]- سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز 120.
[21]- في سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز 198 رواية
أخرى بلفظ "يأيها القارئ المزجي مطيته".
[22]- وورد أيضا منسوبا للفرزدق ببعض التغيير في
اللفظ – سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز 93.
[23]- المصدر نفسه 196.
[24]- تبلغ أبياتها اثني عشرة بيتا يمكن الرجوع إليها
في الأغاني 7/57-58.
[25]- سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز ـ باختصار-
ونحوها في الأغاني 4/40 وما بعدها.
[26]- شاعر مدني نفاه الوليد إلى اليمن مات سنة 105.
أخباره في الأغاني 1/57-58.
[27]- الأغاني 4/49-50 وذكر بعد البيت سبعة أبيات.
[28]- عيون الأثر 1/237 ـ والمعارف 245.
[29]- عيون الأثر 1/237-238.
Post a Comment