أصحاب الحلقات العلمية بالمسجد النبوي في عهد ولاية عمر بن عبد العزيز
ولم يكن المسجد النبوي ـ فيما يظهر ـ مقصورا على علم دون آخر من علوم الرواية، ولكنه كان يستوعب العلوم الدينية من قراءة وتفسير وفقه وسيرة وحديث، ولذلك اتسع رواده، وتنامت وتنوعت حلقاته، ويمكن من خلال كتب التراجم معرفة كثير من أصحاب الحلقات به لهذا العهد، فكان منهم:
1-    أبو جعفر المدني: يزيد بن القعقاع أكبر شيوخ نافع في القراءة، وكانت له حلقة لإقراء القرآن في الروضة الشريفة على مقربة من القبر النبوي، يدل على ذلك ما رواه محمد بن إسحاق المسيبي عن أبيه عن نافع بن أبي نعيم قال:
"كان أبو جعفر يقوم الليل، فإذا أصبح جلس يقرئ الناس، فيقع عليه النوم، فيقول لهم: خذوا الحصى فضعوه بين أصابعي، ثم ضموها، فكانوا يفعلون ذلك، وكان النوم يغلبه، فقال: أراني أنام على هذا، فإذا رأيتموني قد نمت فخذوا خصلة من لحيتي فمدوها، قال: فيمر به عبد الله بن عياش مولاه، فيرى ما يفعلون به، فيقول: أيها الشيخ، ذهبت بك الغفلة، فيقول أبو جعفر: إن هذا الشيخ في خلقه شيء، دوروا بنا وراء القبر موضعا لا يرانا"[1].
ومن طريف ما حكاه صاحب الأغاني عن حلقة أبي جعفر وخفة روحه مع صلاحه وتقواه، ما أخرجه بسنده عن جرير[2] قال: "أخذ بعض ولاة المدينة المغنين والمخنثين بلزوم مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وكان في المسجد رجل ناسك يكنى أبا جعفر مولى لابن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، يقرئ الناس القرآن وكان ابن عائشة[3] يلازمه، فخلا لابن عائشة يوما الموضع مع أبي جعفر، فقرأ له فطرب ورجع، فسمع الشيخ صوتا لم يسمع مثله قط، فقال له يا ابن أخي، أفسدت نفسك وضيعتها، لو أنك لزمت المسجد وتعلمت القرآن، لأممت الناس في مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في شهر رمضان، ولأصبت بذلك من الولاة خيرا، فوالله ما دخل أذني قط صوت أحسن من صوتك، فقال ابن عائشة: فكيف لو سمعت يا أبا جعفر صوتي في الأمر الذي صنع له؟ قال: وما هو؟ قال: انطلق معي حتى  أسمعكه، فخرج معه إلى ميضأة ببقيع الغرقد عند دار المغيرة بن شعبة، وكان أبو جعفر يتوضأ عندها كل يوم، فاندفع ابن عائشة يغني:
الآن أبصرت الهـــــدى     وعلا المشيب مفارقــــي[4]
فبلغ ذلك من الشيخ كل مبلغ، وقال: يا ابن أخي، هذا حسن، وأنا أشتهي أن أسمعه، ولكن لا أطلبه ولا أمشي إليه، قال ابن عائشة: فانا أسمعكه، فكان يرصده، فإذا خرج أبو جعفر يتوضأ خرج ابن عائشة في أثره حتى يقف خلف جدار الميضأة بحيث يسمع غناءه، فيغنيه أصواتا حتى يفرغ أبو جعفر من وضوئه، فلم يزل يفعل ذلك حتى أطلقوا من لزوم المسجد"[5].
2- زيد بن أسلم أبو أسامة المدني مولى عمر بن الخطاب (ت 136)
كان زيد من علماء القراءة والتفسير، وله في التفسير كتاب يرويه عنه ولده عبد الرحمن بن زيد[6]، وكان عمر بن عبد العزيز يدنيه وبقربه ويجالسه"[7] "وكانت له حلقة الفتوى والعلم بالمدينة"[8].
ويقول أحد تلامذته في وصف خلقته العلمية: "لقد رأيتنا في مجلس زيد بن أسلم أربعين حبرا فقيها أدنى خصلة فيهم التواسي بما في أيديهم"[9].
وكان علي بن الحسين بن علي[10] ـ رضي الله عنهم ـ يتخطى الحلق إلى زيد بن أسلم، وكان نافع بن جبير[11] يثقل ذلك عليه، فرآه ذات يوم يتخطى إليه، فقال: أتتخطى مجالس قومك إلى عبد آل عمر ابن الخطاب؟ فقال علي بن الحسين: إنما يجالس الرجل من ينفعه في ذريته"[12].
وكان زيد معدودا أيضا من قراء المدينة من التابعين[13]، "وردت عنه الرواية في حروف القرآن، وأخذ عنه القراءة شبية بن نصاح"[14]، وسيأتي أن نافعا أيضا قرأ عليه.
3- عطاء بن يسار أبو محمد الهلالي المدني القاص مولى ميمونة أم المؤمنين (ت103)
أدرك عطاء زمن عثمان، وروى عن مولاته ميمونة وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وغيرهم، وقد تقدم ذكره في قراء المدينة من التابعين، "ووردت الرواية عنه في حروف القرآن"[15]، "وكان صاحب قصص وعبادة وفضل[16]، وكان من أول من اهتم بضبط عدد آي القرآن الكريم من التابعين[17].
4- القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أحد الفقهاء السبعة بالمدينة (ت 102)
قال ابن حبان: "كان صموتا لا يتكلم، لازما للورع والنسك، مواظبا على الفقه والأدب، على ما كان يرجع إليه من العقل والعلم، فلما ولي عمر بن عبد العزيز قال أهل المدينة: اليوم تنطق العذراء في خدرها أرادوا به القاسم بن محمد"[18].
وكان للقاسم مجلس علمي بإزاء الروضة الشريفة، وقد تقدم قول مالك عنه وعن ابنه "إن أحدا لم يخلف أباه في مجلسه، إلا عبد الرحمن بن القاسم، فإنه خلف أباه في مجلسه"[19].
وقد أدركه نافع في عهد الطلب، فلا يبعد أن يكون من رواد مجلسه، كما سيجلس إلى ولده من بعده.
5- محمد بن كعب القرظي:
كان من علــماء التـابعين بالمديـنة، وأصله من بني قريـظة، ولد في حياة النـبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقيل: رآه، نزل سنة أربعين إلى الكوفة ثم رجع إلى المدينة[20].  وروى عن فضالة بن عبيد وعائشة وأبي هريرة وغيرهم، وروى عنه خلق كثير، قال عون بن عبد الله: "ما رأيت أعلم بتأويل القرآن من القرظي"[21].
وعده ابن الجزري في قراء المدينة من التابعين[22]، وقال: "وردت عنه الرواية في حروف القرآن"[23]. وذكر ابن قتيبة أنه "سقط عليه وعلى أصحابه مسجده"[24] فماتوا سنة 108هـ، وقيل سنة 117، وقيل سنة 120"[25].


6- سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي (ت 106هـ)
عده بعضهم من الفقهاء السبعة بالمدينة[26]، وكان مرجعا للناس في معرفة أقضية جده عمر رضي الله عنه، يروي كثيرا عن والده وطائفة من الصحابة، وكان يقود والده عبد الله لما كف بصره، وفيه يقول والده:
يلومونني في سالم وألومهم          وجلدة بين العين والأنف سالم[27].
وعلى الرغم من غلبة الطابع الفقهي عليه، حتى قال تلميذه ربيعة بن أبي عبد الرحمن:
"كان الأمر إلى سعيد بن المسيب، فلما مات سعيد أفضى الأمر إلى القاسم وسالم"[28]، فإن ذلك لم يمنع من تبريزه في القراءة، فـ"وردت عنه الرواية في حروف القرآن"[29]، واعتبر من مشاهير قراء المدينة من التابعين[30].
7- أبو حازم سلمة بن دينار الأعرج الزاهد الواعظ ( ت 135هـ)
"كان من عباد أهل المدينة وعلمائهم، وكان يقص في مسجد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ[31].
8- محمد بن يحيى بن حبان بن منقذ الفقيه المدني الأنصاري (ت 121هـ)
قال ابن حبان: "كان من حفاظ أهل المدينة ومتقنيهم وقدماء مشايخهم"[32].
وقال السيوطي: "كانت له حلقة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم .. "[33].
وسيأتي ذكره فيمن روى عنهم الإمام نافع بعض الآثار.


[1]-  معرفة القراء الكبار للذهبي 1/59-60 طبقة ترجمة 11.
[2]-  يسميه في بعض رواياته عنه جرير بن أبي الحصين كما في الأغاني 2/76.
[3]-  وابن عائشة  هومحمد بن عائشة أبو جعفر المدني المغني – أخباره في الأغاني 2/62 إلى 79.
[4]-  البيت للوليد بن يزيد وبقال لابن رهيمة في جملة أبيات ستة ذكرها  صاحب الأغاني 2/68.
[5]-  الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني 2/67-68.
[6]-  من أقران نافع ورفاقه في القراءة علي أبي جعفر المدني وغيره كما سيأتي، له كتاب التفسير وكتاب الناسخ والمنسوخ، مات سنة 182. طبقات المفسرين للداودي 1/2565-266 ترجمة 255.
[7]-  التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر 3/242.
[8]-  مرآة الجنان لليافعي 1/284.
[9]-  شجرة النور الزكية لابن مخلوف التونسي 48 الطبقة 3.
[10]-  كان يدعى عليا الأصغر، تشبيها له بجده علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه - ، وليس للحسين بن علي عقب إلا منه ـ تراجع ترجمته وأسماء ولده في المعارف لابن قتيبة 94-95. 
[11]-  هو نافع بن جبير بن مطعم القرشي المكي من علماء مكة وقرائها، توفي في ولاية سليمان بن عبد الملك – المعارف لابن قتيبة 124- ومشاهير علماء الأمصار لابن حبان 83 ترجمة 604.
[12]-  التمهيد لابن عبد البر 3/242.
[13]-  النشر لابن الجزري 1/8.
[14]-  غاية النهاية 1/296.
[15]-  المصدر نفسه 1/296.
[16]-  مشاهير علماء الأمصار 65 ترجمة 474. ـ والمعرف 202.
[17]-  يمكن الرجوع في ذلك إلى رسالة التنبيه على الخطأ والجهل والتمويه لأبي عمرو الداني (مخطوطة).
[18]-  مشاهير علماء الأمصار 63-64 ترجمة 427.
[19]-  ترتيب المدارك لعياض 1/117.
[20]-  غاية النهاية 2/233 ترجمة 3383.
[21]-  تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1/90 – وغاية النهاية 2/233.
[22]-  النشر 1/8.
[23]-  غاية النهاية 2/233 ترجمة 3383.
[24]-  المعارف 202.
[25]-  غاية النهاية 2/233 ومرآة الجنان لليافعي 1/229.
[26]-  غاية النهاية 1/301 ترجمة 1315 والتمهيد لابن عبد البر 7/58.
[27]-  المعارف 80، وورد البيت برواية أخرى بلفظ "يديرونني .. وأديرهم".
[28]-  طبقات الفقهاء لأبي إسحاق الشيرازي 62.
[29]-  غاية النهاية 1/256 ترجمة 1304.
[30]-  النشر لابن الجزري 1/8.
[31]-  مشاهير علماء الأمصار 79 ترجمة 575، وذكر في المعارف 210 تأخر وفاته إلى سنة 140.
[32]-  مشاهير علماء الأمصار 136 ترجمة 1079.
[33]-  إسعاف المبطأ برجال الموطأ للسيوطي 37-38.

Post a Comment

Previous Post Next Post