دواعي اسباب الاختيار والمفاضلة بين الروايات في
القران الكريم
نزل القرآن الكريم "بلسان قريش ومن جاورهم من العرب
الفصحاء"[1]،
ولكن أذن في قراءته للأمة بلغاتها العربية، تيسيرا عليها، لاختلاف ديارها وقبائلها
وتباين لهجاتها وألسنتها، ولما في حملها على القراءة بما لا تطوع به ألسنتها من
المشقة عليها "إذ لو أراد كل فريق من هؤلاء أن يزول عن لغته وما جرى عليه
اعتياده طفلا وناشئا وكهلا، لاشتد ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه، ولم يمكنه ذلك إلا
بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للسان، وقطع للعادة، فأراد الله برحمته ولطفه، أن
يجعل لهم متسعا في اللغات ومتصرفا في الحركات، كتيسيره عليهم في الدين"[2]،
فأذن بقراءة القرآن الكريم على سبعة أحرف كما ثبت بذلك الحديث المتواتر بنزول
القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف[3].
والأحرف السبعة على المختار في تأويلها هي الصورة الإجمالية
لأنماط التغاير التي يندرج فيها جميع ما يقع بين القراء من وجوه الاختلاف على
تشعبها وكثرتها[4]،
وهو اختلاف مشروع يرجع في حقيقته إلى التنوع في كيفية الأداء، ويدخل في باب إعجاز
القرآن من حيث ورود اللفظ منه بصورة واحدة في الخط في الغالب، مع احتماله لكثير من
الأوجه القرائية، فضلا عن الدلالات المعنوية التي قد تتنوع بتنوع الأداء والأحرف
التي يقرأ بها[5].
فالاختلاف في هذا ونحوه إنما هو اختلاف تنوع، لا اختلاف تضاد، لأنه يقوم على
الرخصة الشرعية في القراءة حسب الأحرف السبعة والأوجه المتواترة والمشهورة الجارية
على ألسنة العرب الفصحاء.
وإلى أصل الاختلاف يشير ابن الجزري بقوله:
وأصل الاختلاف
أن ربنـا أنــزله بسبــعة مهونــــا[6]
ومن المعلوم أن الأخذ بموجب هذا الترخيص في قراءة التنزيل
بأكثر من حرف قد أدى ابتداء من العهد المدني في زمن النبوة، وفي أثناء خلافة
الراشدين، إلى تيسير القراءة وتجاوز مشكل اللهجات المختلفة بين عرب الجزيرة
العربية، إلا أنه من جهة أخرى قد عمل مع الزمن على اتساع شقة الخلاف بين قراء
الأمصار الإسلامية عقب الفتح، ولاسيما بعد فتح الشام والعراق، وازدياد عمرانها،
حتى تجاوز الأمر الحد المأذون فيه، وكاد يؤدي إلى وقوع الفتنة بين القراء في
معسكرات الجند في خلافة عثمان ـ رضي الله عنه ـ مما حفزه بدعوة من حذيفة بن اليمان
إلى تدارك الموقف قبل استفحال الخطر، فجمع من عنده من الصحابة بالمدينة، وأمر بجمع
الناس على قراءة واحدة، في مصحف واحد يكتب على لغة قريش وما وافقها في الخط، ويقرأ
على حسب العرضة الأخيرة التي عرضها قراء الصحابة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم
ـ، وقرأ بها الجماعة
[7]
مما لا نحتاج إلى الدخول في تفاصيله، لتكفل عامة كتب التفسير والقراءات ببيانه.
وقد قدمنا شيئا من الحديث عن الخطة التي نهجتها لجنة التدوين
في هذا الجمع، وكيف كتبت المصحف بطريقة ذكية، يتأتى فيها جمع ما تواتر من أحرف
القراءات أو اشتهر في صورة من الخط يتاح معها لكل قارئ أن يقرأ بقراءته، دون أن
يخرج عن المرسوم في المصحف الذي جعلوه "إماما" للناس، فسمي بالمصحف
العثماني كما سمي بالمصحف "الإمام". ولهذا جردوه من علامات الإعجام
ليتأتى احتواؤه لجميع ما وافق خطه مما صح من وجوه القراءات، ووقائع هذا المشروع
وتفاصيله مشهورة لا نطيل بعرضها، وقد روى عمر بن شبة خبرا مفيدا في هذا الباب رأيت
أن أسوقه بتمامه لطرافته ودقة تفاصيله، فأخرج بسنده عن أبي محمد القرشي:
"أن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ كتب إلى الأمصار:
أما بعد فإن نفرا من أهل الأمصار اجتمعوا عندي فتدارسوا القرآن، فاختلفوا اختلافا
شديدا، فقال بعضهم: قرأت على أبي الدرداء، وقال بعضهم: قرأت حرف عبد الله بن
مسعود، وقال بعضهم: قرأت حرف عبد الله بن قيس[8] فلما سمعت اختلافهم
في القراءة، والعهد برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حديث، رأيت أمرا منكرا،
فأشفقت على هذه الأمة من اختلافهم في القرآن، وخشيت أن يختلفوا في دينهم بعد ذهاب
من بقي من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذين قرأوا القرآن على عهده
وسمعوه من فيه، كما اختلفت النصارى في الإنجيل بعد ذهاب عيسى بن مريم، فأرسلت إلى
عائشة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ أن ترسل إلي الأدم[9] الذي فيه القرآن
الذي كتب عن فم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين أوحاه الله إلى جبريل،
وأوحاه جبريل إلى محمد وأنزله عليه، وإذ القرآن غض، فأمرت زيد بن ثابت أن يقوم على
ذلك، ولم أفرغ لذلك من أجل أمور الناس والقضاء بين الناس، وكان زيد بن ثابت أحفظنا
للقرآن، ثم دعوت نفرا من كتاب أهل المدينة وذوي عقولهم، منهم نافع بن طريف وعبد
الله بن الوليد الخزاعي وعبد الرحمن بن أبي لبابة[10]، فأمرتهم أن ينسخوا
من ذلك الأدم أربعة مصاحف، وأن يتحفظوا"[11].
وقد قدمنا أن إنجاز المشروع العثماني انما جرى بعد اشتهار
قراءات طائفة من الصحـابة بالأمصـار، ممن أرسلوا إليها في زمن عمـر وغيره في إطار
البـعثات الرسـمية ـ كما قدمنا ـ ومنهم الثلاثة الذين ذكر ابن شبة في خبره وغيرهم،
وقد جمع أبو عمرو الداني مشاهيرهم في قوله في "الأرجوزة المنبهة":
وأقرأ الناس بــــغير الــــــدار من المهاجــــرين والأنصــــــار
جماعة بالشــــام والــــــعراق لما تـوجهوا إلـــــى الآفــــــاق
فـــقام
بالكــــــوفة عبــد الله ثم عــــلي
الرفيــــع الجـــــــاه
وقام بالبــصرة الأشــــــــعري وهو أبو موسى الرضا
الزكـــــي
وقام بالــــشام أبو الــــدرداء عويمر ذو الفــــهم والذكــــــاء
وقبله فيــها مـــــــعاذ قامـــا مفقها ومقرئــــا أعــــوامـــــا
فـــــــهؤلاء المتصدرونـــــــا بهذه الأمصــــــار والمفتونــــا[12]
كما قدمنا أن عثمان لما نسخ المصحف بعث منه إلى كل مصر من
الأمصار المشهورة بنسخة، وأنه انتدب مع كل مصحف قارئا يقرئ الناس بمضمنه، فأمر زيد
بن ثابت أن يقرئ بالمدني، وبعث عبد الله بن السائب مع المكي، والمغيرة بن أبي شهاب
مع الشامي، وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفي، وعامر بن عبد قيس مع البصري"[13].
وبوصول المصاحف العثمانية إلى تلك الأمصار، أصبح القراء
والمقرئون مدعوين رسميا إلى إعادة النظر في كثير مما كان متداولا بينهم من حروف
القراءة، وأمسى على كل قارئ أن ينزل على مذهب الجماعة في حرفه الذي يقرأ به،
"فلما ردوا إلى خط المصحف، التزموا ذلك فيما كان محفوظا، وقرأ كل واحد بما
كان عنده ملفوظا مما لا يعارض خط المصحف"[14].
وهكذا كان عمل عثمان في أوانه حسما للمشكلة من أساسها، وقطعا
للخلاف من أصله، وحفظا وصيانة لنص القرآن من الزيادة والنقصان.
ولما كانت قراءة قراء الصحابة المشهورين ممن قدمنا أسماء
بعضهم قد انتشرت في عامة الأمصار الكبرى، واتسع جمهور الآخذين بها قبل أن يرسل
عثمان بالمصاحف الرسمية إليها، كان لا بد من مواصلة الخلافة لرعاية هذا المشروع
والسهر على تنفيذ خطته لتحقيق أهدافه في توحيد القراءة على النص المكتوب، ومن ثم
كانت الخطوة الثانية بعد إرسال المصاحف ووضعها في المتناول بالمساجد الجامعة
بالأمصار، العمل على مصادرة عامة المصاحف الأخرى السابقة عليها وخرقها أو إحراقها،
والدعوة بكل وسيلة إلى الاقتصار على مصحف الجماعة أو "المصحف الامام"، ليكون
عمدة للناس، ومرجعا لهم عند الاختلاف، وأخذ القراء بالتزام ذلك، والتخلي عن
القراءة بغيره مما يخالف المرسوم فيه.
ولقد قام القراء المبعوثون بالمصاحف الرسمية بجهود كبيرة في
الأمصار لتلقين قراءة الجماعة وحدها، وإحلالها محل الحروف التي كانت سائدة بها،
وكان أكثر هذه الأمصار جمهورا في ميدان القراءة، مدينة الكوفة، إذ كانت قراءة ابن
مسعود فيها من الشهرة والانتشار، بحيث لا تزاحمها قراءة أخرى، وكان أصحابه في
الصدر الأول جمهورا واسعا كما قال فيهم سعيد بن جبير: "كان أصحاب عبد الله
مصابيح هذه القرية"[15]، ولذلك لم يستسغ
جمهور قرائها ما دعوا إليه من التخلي عن قراءة إمامهم ومصحفه، والرجوع إلى قراءة
زيد والجماعة، على الرغم مما بذله قارئ المصر أبو عبد الرحمن السلمي مبعوث عثمان،
الذي جلس للناس يقرئ القراءة العثمانية بالمسجد الجامع بالكوفة من عهد تدوين
المصاحف في أول زمن عثمان، إلى زمن امارة الحجاج على العراق حتى توفي[16]
.
فمع هذا الجهد ظل المقام الأول في هذه المدينة لقراءة ابن
مسعود، وبقيت قراءة زيد والجماعة فيها محدودة تكاد تختص بالجهاز الرسمي، وقد قدمنا
قول سليمان بن مهران الأعمش (ت 148هـ) : "أدركت أهل الكوفة وما قراءة زيد
فيهم، إلا كقراءة عبد الله فيكم اليوم، ما يقرأ بها إلا الرجل والرجلان"[17].
ولقد أشرنا في صدر هذا البحث إلى بعض جهود الحجاج عامل
الأمويين في تعميم المصحف العثماني، ونزيد هنا فيما يخص قراءة ابن مسعود ومصحفه،
أنه تصدر لهما وعمل على استئصال شأفتهما بكل سبيل، حتى انه نعت في خطاب له ألقاه
بالمسجد الجامع بالكوفة ـ الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود بـ"عبد
هذيل" وقال: "يزعم أن قراءته من عند الله، والله ما هي إلا رجز من رجز
الأعراب، ما أنزلها الله على نبيه عليه السلام[18] .
ولا شك أن الحجاج كان يعالج الأمر من منطق سياسي محض، إذ كان
يرى في الانحراف عن مصحف عثمان انحرافا عن الخليفة نفسه ثم عن أوليائه القائمين
بعده من بني أمية، فالولاء للبيت الحاكم هو الذي أملى عليه هذا الحرص، ودفعه في
هذا الطريق، وكان كما قيل عنه: "يتقرب إلى بني أمية، ويمت إليهم بكل
حيلة"[19]،
فمن هنا كان نيله من ابن مسعود وقراءته "وكان يعاقب عليها"[20]
وكان ذلك مما اضطر بعض أصحاب عبد الله إلى إخفاء مصاحفهم ودفنها زمن الحجاج كما
فعل الحارث بن سويد التيمي[21].
ويذكر المؤرخون أن الحجاج قد تمادى في تعقب المصاحف المخالفة
لمصحف عثمان، لا في الكوفة وحدها قاعدة امارته، بل في كل مكان له عليه سلطان، ومن
ذلك أنه أنشأ في البصرة لجنة خاصة من القراء، لمتابعة هذه القضية "فوكل عاصما
الجحدري[22]
وناجية بن رمح وعلي بن أصمع ـ عم أبي الأصمعي ـ[23]، بتتبع المصاحف،
وأمرهم أن يقطعوا كل مصحف وجدوه مخالفا لمصحف عثمان ـ رضي الله عنه وأن يعطوا صاحبه ستين درهما"[24].
ومهما تكن نية الحجاج والحوافز التي بعثته على عمله هذا، فإن
المستقبل قد كشف عن سداد موقفه من المصاحف المخالفة، ووافقه على ذلك جمهور
العلماء، يقول الإمام أبو بكر الباقلاني في تقويم موقفه هذا:
"وقد أصاب الحجاج، وتوعد من يقرأ بما ينسب إلى عبد الله
مما لم يثبت ولم تقم به حجة، فيعترض به على مصحف عثمان الذي ثبت عليه
الإجماع"[25].
[4] - يمكن الرجوع إلى محاولات بعض الأمثلة لاستيعاب مظاهر الاختلاف
بين القراءات في سبعة أنواع من التغاير منها محاولات ابن قتيبة – تأويل مشكل
القرآن 28-29 –ومحاولة ابن عطية نقلا عن قاسم بن ثابت السرقسطي صاحب
"الدلائل" – المحرر الوجيز 1/22. – ومحاولة الباقلاني – نكت الانتصار
120-123 – ومحاولة ابن الجزري – النشر 1/27-28 وينظر القرطبي 1/30 والبرهان
للزركشي 1/214 والإتقان 1/132.
[7] - يبطر في هذا مقدمة كتاب جامع البيان لأبي عمرو الداني تحت عنوان
"الأحرف السبعة للقرآن" تحقيق عبد المهيمن طحان 46-47.
[10] - نافع بن طريف ـ كذا ـ ولعل الاصح نافع بن ظريب، ذكره ابن دريد في
كتاب الاشتقاق 69 وقال نافع ابن ظريب بن عمرو بن نوفل من بني نوفل بن عبد مناف، هو
الذي كتب المصاحف لعمر بن الخطاب". أما صاحباه فلم أقف عليهما، وهما على كل
حال غير اللجنة الرباعية، التي عهد إليها عثمان برئاسة زيد.
[12] - الأرجوزة المنبهة على أسماء القراء والرواة وأصول القراءات
للداني (مرقونة بالآلة) تحقيق الدكتور وكاك.
[13]- الخبر في جميلة أرباب المراصد في شرح عقيلة أتراب القصائد
للجــعبري (مخطوط)، ومنــاهل العرفان للزرقــاني 1/396-397.
[22] - هو أبو المجشر البصري قرأ على الحسن ونصر بن عاصم توفي سنة 128.
ترجمته في طبقات ابن سعد 7/235 وغياية النهاية 1/349 ترجمة 1498.
[25] - نكت الانتصار للباقلاني 382-383 – وينظر رأي أبي حيان فيما ينسب
إلى ابن مسعود من الحروف في البحر المحيط 1/161.
إرسال تعليق