القراءة المعتبرة والقراءة الشاذة، وظهور اختيارات الأئمة
بفعل الجهود الرسمية وغيرها كان لا بد أن تتغلب القراءة
الجماعية، وأن تحظى بالنصيب الأوفر من القراء في عامة الأمصار، وأن يتقلص حجم القراءات
المخالفة إلى أن تتوارى في نطاق ضيق جدا، حتى لا يقرأ بها إلا طبقة خاصة لها ولوعع
بالغرائب، أو تروى على أنها "قراءات شاذة" يستعان بها في التفسير
ويستشهد بها علماء النحو واللغة.
إلا أن أئمة القراء بالأمصار سرعان ما عمدوا إلى قراءاتهم
التي وقع الأمر بالتخلي عنها في الجملة فقرأوا بما يوافق خط المصحف الإمام من
حروفها، وتركوا ما سواه، ونقل الرواة عنهم هذه الحروف، وقرأوا بها وكان للقراء
السبعة في الأمصار الخمسة النصيب الأكبر من الفضل في تحرير الروايات، وتنقيح
المشهور السائر من غيره، فقاموا في ذلك بتصحيح المسار العريض الذي سارت فيه قراءة
الجماعة، ورسموا المعالم المعتبرة للقراءة المقبولة المستجمعة للشروط، وقد وجدوا
أنفسهم إزاء رصيد كبير من الروايات الواردة في حروف القرآن، وهو رصيد ظل يتنامى مع
الزمن بفعل التلاقح بين قراءات الأمصار، وتبادل الروايات، وكان تعدد مصادر الأخذ
في المصر الواحد في مجال القراءة من شأنه أن يحدث بلبلة بين الرواة، فكيف يكون
الأمر حين تتلاقى جميع الروايات الوافدة من باقي الأمصار؟ وهو شيء كان يغري طائفة
من القراء المختصين بتتبع روايات حروف القراءة، ما اشتهر منها وما شذ، وما شاع
منها وما ندر، وما له سند قوي وما ضعف، وكان من ثمرات هذا السعي في الجمع
والتدوين، بروز طبقة من الرواة في زمن التابعين ممن تجردوا للقراءة خاصة، ورحلوا
في تتبع حروفها والعناية بها، فلاحظوا مقدار الحاجة إلى إعادة النظر في المعايير
التي تقبل بها الروايات في حروف القراءات، وتبينوا أن مجرد موافقة القراءة لرسم
المصحف لم يعد وحده كافيا، ولا مغنيا عن الركن الركين فيها، وهو تواتر النقل بها،
أو اشتهارها واستفاضتها عند أهل هذا الشأن، ولاسيما لما ظهرت في أوائل المائة
الثانية الانتماءات الحزبية، وأرادت استغلال حروف القراءة لتأييد نظرياتها
ومذاهبها الكلامية، فأدى ذلك إلى وضع ما لا يعرف عن أحد من أئمة السلف، "وكثر
الاختلاف فيما يحتمله الرسم، فقرأ أهل البدع والأهواء بما لا يحل لأحد تلاوته
وفاقا لبدعتهم"[1]
وفي كتاب "الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة لأبي محمد عبد الله
بن قتيبة ذكر لأمثلة حافلة لهذه القراءات المزورة على وفاق المذاهب الزائغة، وكلها
مطابقة لرسم المصحف[2].
وهكذا ازدادت الحاجة إلى أهل الثقة والأمانة والصدق من أهل
القرآن، ليقوموا بتهذيب القراءات، وتنقيح الروايات، ومن هنا توجهت الأنظار إلى فئة
خاصة في كل مصر "تجردوا للاعتناء بشأن القرآن العظيم، فاختاروا من كل مصر وجه
إليه مصحف أئمة مشهورين بالثقة والأمانة في النقل، وحسن الدراية وكمال العلم،
أفنوا أعمارهم في القراءة والإقراء، واشتهر أمرهم، وأجمع أهل مصرهم على عدالتهم
فيما نقلوا،
والثقة بهم فيما قرأوا، ولم تخرج قراءتهم عن خط مصحفهم"[3].
وكان على أولئك الأئمة أن يبادروا إلى تدارك ما اتسع من شقة
الخلاف فيما يحتمله الرسم، حتى لا يزداد الأمر تفاقما بمضي الزمن، وتدخل في
القراءة حروف لا أصل لها، فأخذ كل إمام في مصره يجري على رواياته في حروف القراءة
مزيدا من التنقيح والتمحيص، تحريرا لها من الزائف والضعيف، ولم يعد القارئ يكتفي
في هذا الطور من أهل هذا الرعيل الطيب بأن يظل بمثابة الصدى لشيوخه الماضين يروي
رواية كل شيخ منهم على حدة كما تلقاها عنه، ثم ينقلها نقلا أمينا إلى أهل زمنه، بل
أصبح مدعوا إلى إجراء عملية استقراء لمحفوظاته منها، ودراستها دراسة متأنية،
لاختيارأوثق وجوهها سندا، وأوسعها شهرة
واستفاضة، وأفصحها لغة وأداء، وأقواها تأويلا واعتبارا، وأجراها على قراءة الجماعة
ورسم مصحفها، وهكذا "تركوا من قراءاتهم التي كانوا عليها ما يخالف خط المصحف،
فاختلفت قراءة أهل الأمصار لذلك،... وسقط من قراءتهم كل ما يخالف الخط، ونقل ذلك
الآخر عن الأول في كل مصر، فاختلف النقل لذلك حتى وصل إلى هؤلاء السبعة، فاختلفوا
فيما نقلوا، واختلفت أيضا رواية من نقلوا عنه لذلك، واحتاج كل واحد من هؤلاء
القراء أن يأخذ مما قرأ وبترك"[4].
وهذا الأخذ والترك كان وفق معايير خاصة، وحسب أصول مجمع
عليها بين السلف، وهو المراد عندهم في الاصطلاح باسم "الاختيار"، وعلى
أساسه تقوم مادة القراءات، وعليه المدار في تلك الكيفيات من التلاوة والأداء التي
تضاف إلى القراء وتمهر بأسمائهم، فيقال اختيار نافع واختيار ابن كثير وحرف حمزة
إلخ، وكلها إنما تعني أمرا واحدا، هو هذا الذي ينتهي إليه الشيخ من استعراض رصيده
من الروايات والآثار، وأخذه منها بما يختاره من الوجوه، وفي هذا المعنى يعطينا ابن
الجزري هذا التحديد لطبيعة الاختيار حينما ينسب إلى قارئ من القراء، فيقول:
"معنى إضافة كل حرف من حروف الاختلاف إلى من أضيف إليه
من الصحابة أو غيرهم، إنما هو من حيث أنه كان أضبط له، وأكثر قراءة وإقراء به
وملازمة له وميلا إليه، لا غير ذلك، وكذلك إضافة الحروف والقراءات إلى أئمة
القراءة ورواتهم، المراد بها أن ذلك القارئ وذلك الإمام اختار القراءة بذلك الوجه
من اللغة حسب ما
قرأ به، فآثره على غيره، ودام عليه ولزمه حتى اشتهر به وعرف به وقصد
فيه، وأخذ عنه، فلذلك أضيف إليه دون غيره من القراء، وهذه الإضافة إضافة اختيار
ودوام، لا إضافة اختراع ورأي
واجتهاد"[5].
إرسال تعليق