تعتبر الصناعة
التقليدية في طليعة أنماط التراث الشعبي الذي يشكل، إلى جانب التراث المدرسي،
مجموع الإرث الثقافي والحضاري الذي تناقله المغاربة
عبر العصور المتعاقبة، مبرزاً ما
لهم من ملكات إبداعية وقدرات إنتاجية،
وما تختزنه من طاقات مادية وإمكانات شعورية، للتعبير عما يعتمل في عقلهم وقلبهم
بعبقرية ودقة ومهارة.
وعلى
الرغم من المواقف التي قد تتخذ من التراث - سواء بقبوله
والتحمس له أو برفضه ونبذه - فإنه بجميع صيغه وألوانه ماثل
في أذهاننا وأفكارنا وألسنتنـا وأيدينا ؛ وحاضر بذلك في
حياتنا عامة، نوظفه ونمارسه، ونتذوقه ونطرب له، ونباهي به ونفاخر.
وهو بهذا يداخل نفوسنا ويمتزج مع ضمائرنا بوعي حيناً، ولا
وعي في
أغلب الأحيان.
لذا
ندعو
إلى ضرورة العناية به والعمل على إحيائه والاجتهاد في تطويره لتجديده وإغنائه،
وكذا البحث في إمكان تصفيته من الشوائب التي علقت به والسلبيات التي تراكمت عليه،
وإظهار ما فيه من إيجابيات تكون بفاعليتها وتأثيرها ركيزة مكينة
وثابتة للتحفز والانطلاق، ثم لتقوية الإحساس بالذات في أصالتها ونقائها، وتنمية
الشعور بالكيان في قيمه ومقوماته المكونة لهويتنا الحقيقية.
وإذا
كانت أنواع من تراثنا قد حظيت بقليل أو كثير من الاهتمام العلمي، لا سيما
ما يتصل منها بتحقيق النصوص وبحثها - مدرسية وشعبية -
وتعرُّف أعلامها، وكذا ما يرتبط منها بالعادات والتقاليد وبعض
الفنون الإيقاعية والقولية والتشكيلية، فإن أنواعاً أخرى
ما زالت في هذا الجانب التوثيقي والدراسي، تشكو قلة العناية إن لم نقل الإهمال ؛
لعل أهمها الصناعة التقليدية.
*** *** ***
وقد
غدا جلياً لنا بالبحث والدراسة، أن هذه الصناعة تمثل رصيداً حضارياً وثقافياً
توارثته الأجيال منذ العهود الغابرة السابقة على العصور الإسلامية، بإبداع
مغربي أمازيغي صرف مُحمَّل مع توالي الفترات
بروافد فينيقية وقرطاجية ورومانية. ثم لم يلبث هذا الإبداع أن شهد
تطوراً زادت في إبرازه الملامح المتألقة التي اكتسبها من طول احتكاكه وتأثره
بالأندلس، وكذا بفعل الطابع الذي كان لمختلف الدول التي تعاقبت على الحكم، بدءاً
من الإدريسية إلى العلوية.
وفي
نطاق اعتماد فنوننا الصناعية على العمل اليدوي الدقيق، فإنها توسلت بكل ما كان
يسعفها في إظهار براعتها، مما تتيحه البيئة من مواد
وأدوات، فاستعملت الحجر والطين والخشب والجلد والصوف والحرير والدوم والقنب وسعف
النخل والحديد والنحاس والذهب والفضة، وغيرها مما استخرجت منه تشكيلات متعددة
وقوالب متنوعة، أضفت عليها بهاء ورونقاً بما ضمنتها من زخارف وتزويقات
ورسوم، كان للجسم كذلك نصيب منها عبْر الوشم، على الرغم من
الموقف الإسلامي منه.
وإن
هذه الفنون لتبدو اليوم حاضرة في حياتنا العامة والخاصة. ويكفي أن نشير منها
إلى ما هو ماثل في كل ما تزدهي به البيوت، من زليج وقرمود
وجبس وأبواب وسقوف وزرابي وفرش، ومتجلية
كذلك في خياطة الملابس وصياغة الحلي وطهي الأطعمة، وغير هذه وتلك من أنماط غدت طيِّعة
في يد الصانع التقليدي - والصانعة التقليدية - يستجيبان
بها لما يحتاج إليه المستهلك المواطن،
ولما يتوق إليه السائح الأجنبي المتطلع إلى
تذكار جميل يحتفظ به أثراً يخلد زيارته للمغرب ؛ مع ملاحظة ما لكل جهة أو إقليم أو
حاضرة أو بادية من سمات باهرة وخصوصيات مميزة.
ويكاد
ما يجيء منها على الأشكال التي غالبا ما تبدو متنافرة، وإن في تناسق رائع، أن
يعتمد على التكوينات الهندسية المنطلقة من التقسيم القائم على الخطوط التي غالباً
ما تكون أفقية أو عمودية، وقلما تكون مقوسة. وهو ما ينم عن ميل
إلى التجريد الدال على فكر رياضي، والمتأثر كذلك بالمعتقد الديني الداعي إلى
الابتعاد عن التجسيم.
*** *** ***
ونظراً
لهذه الأهمية التي لصناعتنا التقليدية، فقد كانت الحاجة ماسة إلى من يعيرها ما هي
جديرة به من تتبع وتوثيق وبحث ودراسة، بقصد تعرفها وتعريفها، وإلقاء أضواء عليها
تكشف أنواعها ورموزها ودلالاتها ومراحل تطورها وتجددها وما
لها من وظائف.
وقد
كنا نتوق بلهف شديد إلى من ينهض بهذا العمل الذي لا تجهل صعوبته وما يقتضي من علم
واسع ودقيق بمجاله الرحب الفسيح، وخبرة عميقة بخباياه الدفينة وخفاياه الغميسة. وهو ما تحقق على يد الباحث
المتمكن الأستاذ عبد الإلاه القباج الذي توافرت له في هذا الميدان معرفة متفردة به
وبأعلامه، وما كان لهم من أياد بيضاء على التراث عامة، والشعبي منه خاصة، وما كان
لهم كذلك من مساهمات
في حقل الوطنية والنضال.
وهي معرفة
قوتها ممارسة عملية وبلورتها تجربة
طويلة في تمثيل قطاع الصناعة التقليدية،
وتسييره والإشراف عليه في مؤسسات شتى مختلفة.
Post a Comment