الاناشيد الوطنية
النشيد من حيث هو نص
شعري أبدعه شعراء المرحلة الحديثة والمعاصرة، يتمثل في قصيدة قصيرة أو مقطوعة تقوم
على إيقاع خفيف وسريع، وتعتمد الأداء الجماعي.
وهو يدخل -
سواء على الصعيد العربي عامة أو المغربي خاصة - في نطاق التطور
الذي عرفه الشعر العربي مع بداية النهضة، وما واكبها من تحولات سياسية وفكرية
واجتماعية، لا سيما بعد أن فرض الاستعمار على الأقطار العربية في صيغ مختلفة من
الانتدابات والحمايات.
والسبب أن إطار القصيدة بحمولتها التقليدية، كان غير مسعف في استيعاب
التطلع إلى نمط شعري قادر على الاستجابة لمتطلبات المرحلة وتحقيق الأهداف
المتوخاة، في ظل الوعي الجديد الذي واكب موجات التحرر من نير الاستعمار.
وقضية التجديد الشعري تحيلنا لا شك إلى المحاولات العديدة التي عرفتها القصيدة
العربية في عهودها الأولى، بدءاً مما ظهر به شعراء بعثوا مضامين القديم في صور
مستحدثة، ونظموا على أوزان جديدة، وعلى شكل المسمطات والمخمسات ؛ إضافة إلى تعويض
الوقوف على الأطلال بذكر الخمر. واستمرت المحاولات متمثلة في الاختلاف حول عمود
الشعر وما ترتب على ذلك من ميْل عند بعض الشعراء إلى توليد الأفكار والإتيان
بنوافر الأضداد وبالأقيسة المنطقية يحولونها إلى أقيسة فنية، مع إسراف في تطبيق
البديع واستحداث صور غير مألوفة.
ولم يلبث هذا الميل إلى التجديد في الشكل والمضمون أن برز في المرحلة
الحديثة عند شعراء الاتجاه الرومانسي الذين نظموا الثنائيات والرباعيات
والخماسيات. ثم تبلور في الشعر المرسل قبل أن يأخذ مسيراً أكثر تَحرريةً، على نحو
ما ظهر به شعراء تطلعوا إلى تجديد جذري في شكل القصيدة، يخرجها من رتابة الإيقاع
وتكرار المضامين، عَبْر نفس المشاعر والمواقف.
فكان أن فقد البيت أهميته، باعتباره الوحدة التي تُبنى عليها القصيدة،
واحتلت التفعيلة مكانه مع إمكان تنويع التفاعيل. وكان كذلك أن انعكس التجديد على
رؤية الشاعر ووعيه وإحساسه وصدق تعبيره عن نفسه ومجتمعه وكل ما حوله.
*** *** ***
|
وما كانت قضية الشكل لتبقى في منأى عن هذه التَّحولات، فمع النسج على
النموذج التقليدي القائم على البحور الخليلية، ظهرت محاولات للخروج عن رتابتها، من
خلال قالب التوشيح والتخميس وما إليه كالتعشير، والسعي إلى إغناء الإيقاع وتنويعه،
اعتماداً على التصريع أو التكـرار، ولزوم ما لا يلزم والتلاعب بتشكيل النص ؛ دون
إغفال محاولات الشعر المسرحي وما كان يقتضي إطاره الجديد. واستمرت المحاولات على
هذا النحو، لينتهي المطاف بها إلى مواكبة كل ما يعرفه الشعر في المشرق من أنماط
تجديدية جربها المغاربة، وأبدعوا فيها نماذج لا تخلو من روعة وتألق. وقد كان
النشيد أحد مظاهر التشكيل الشعري التي جربها الشعراء المغاربة منذ ظهور بوادر
النهضة في فجر القرن العشرين.
ويبدو أن جانب المضمون الوطني كان هو الهدف. ومن ثم لم يلتفت كثيراً إلى
الجانب الشكلي وما يقتضي من عناية بالملامح الفنية الجميلة. وكان المضمون الجديد
يستدعي تناول الأحداث والتعبير عن الآمال والطموحات، مع الإشادة بالوطن لمزيد من
التمسك به وبقيمه وبالمقومات الدينية المشكلة للهوية.
وفي هذا الإطار، وقعت العناية بالدعوة إلى العلم والتعليم وإلى الوحدة، مما
أبرزته شعارات الإصلاح التي غالباً ما كانت تجد في "العرشيات" مجالاً
رحباً من الحرية لم يكن يتاح في غيرها. ونعني بها القصائد التي كانت تقال بمناسبة
ذكرى جلوس ملك البلاد على العرش كما هو معروف. وهي المناسبة التي بدأ الاحتفال بها
شعبيا ومحدوداً عام 1933م، قبل أن تأخذ طابعها الرسمي سنة بعد ذلك. وقد اقتضت هذه المفاهيم الجديدة
معجماً جديداً كذلك - ولو إلى حد - كما اقتضت التعبير بأسلوب سهل وبلغة عذبة
بسيطة.
وكانت الأناشيد على الخصوص تتضمن تلكم الشعارات وما تعبر عنه في حماس، من
نداآت تحريرية تهز الجماهير بروحها الملتزم الهادف. وكانت بذلك تقوم بوظيفة فاعلة،
هي يومئذ سلاح قوي، من خلال بث اليقظة، وتحريك الوعي، وتوجيه الرأي العام، وإعداده
لمعركة التحرير، وتعبئته للتضحية والفداء.
وهو ما تجلى - بداية - في الأناشيد الحماسية المشبعة بروح عربية إسلامية،
مما كان يفد من دول شقيقة، كفلسطين ومصر وسورية والجزائر، إلى جانب ما كان يبدعه
شعراء مغاربة في فترة مبكرة. ثم أخذ يتجلى بوضوح في أناشيد مغربية، خاصة إثر قيام الحركة الوطنية والتنظيم الحزبي ؛ إضافة إلى ما كان
يتداول في المدارس وتجمعات الكشافة، وما إليها مما كان الشباب يتلقفه ويردده في
مختلف المناسبات على عهد الحماية.
*** *** ***
ثم إن النشيد يجعلنا نثير قضية
الارتباط بين النص الشعري وبين الإيقاع اللحني، لإبراز مدى استيعاب أحدهما للآخر،
ولا سيما بالنسبة للنص الذي قد يتسع أو يضيق عن اللحن ؛ طالما أن لكل من الإبداعين
- الأدبي والموسيقي - مقاييسه وقواعده التي قد تتفق فيما بينها أو تختلف.
وليس يخفى أن هذا الارتباط قديم، وأنه ظهر منذ أحس الإنسان بالحاجة إلى
التوسل بهما للتعبير. وربما يمكن التأريخ لبدايته عند العرب بالحُداء الذي كان،
بنوعيه السريع والبطيء، يصاحب سَوْق رحلات الجمال وقوافلها المتنقلة في الصحراء،
والذي كان يشترط فيمن يؤديه أن
يكون حسن الصوت وقويه كذلك. وقد اشتهر في العصر
الجاهلي، واستمر يمارس طوال العهود الإسلامية الأولى حتى عصر العباسيين.
وأكاد أجزم بأن هذه الأناشيد الحدائية كانت الأساس الذي انبثقت عنه
الأراجيز، ثم القصيدة التي وصلتنا مكتملة على نحو ما هو معروف.
ولعلنا أن نسجل في هذا السياق، ذلكم النشيد المبكر الذي استقبل به الأنصار
قدوم رسول الله (e) إلى المدينة، والذي ظل الناس
يرددونه - وما زالوا - على النحو الموقع الجماعي الذي رفعت به أصوات المستقبلين
يومئذ. وأوله:
طـلـع الـبــدر علـينــا * مـن ثـنـيـات الـــوداع
وجـب الشـكر عليـنـا * مــــا دعـــا للـــه
داع
أيـهـا المبعـوث فيـنـا * جـئـت
بالأمـر المـطـاع
وبتتبع المحاولات المختلفة التي
جربها ملحنو الشعر ومغنوه، منذ المراحل الأولى، سواء في الحجاز أو العراق، يتبين
أنه لم يكن سهلاً أمر تطويع الشعر للأداء الموقع، إذ غالباً ما كان يقتضي إجراء
بعض التعديل الذي قد لا يَستسيغه الإنشاد السليم للشعر وحده. وهو ما كانت تقول به
المدرسة التي تزعمها ابراهيم بن المهدي ؛ في حين كان إسحاق الموصلي يمتنع عن ذلك،
داعياً إلى الحفاظ على ما لكل من الفنين: الشعري والغنائي من ضوابط.
وما لبث الأمر أن شهد في الأندلس تطوراً واضحاً تجلى في نشأة الموشحات
والأزجال التي كان لا شك لازدهار حركة الشعر والموسيقى أثر كبير في ظهورها، إضافة
إلى ما كان شائعاً في البيئة المحلية من أغنيات شعبية، وكذا إلى الحريَّة التي
أتاحتها هذه البيئة.
ومعروف أن هذا اللون من التجديد الذي أفاد منه الإبداع في النمطين، لم يلبث
أن بلغت أصداؤه وآثاره للمغرب، مما أبرزته - على الخصوص - قصيدة الملحون التي
اغتنت بتنوع أوزانها بعد أن كانت تسير على شكل القصيدة العربية التقليدية، والتي
سعى أشياخها المنشئون والمنشدون إلى إيجاد توافق وتلاؤم بين قرض الشعر والأداء
الموقع، سواء في المراحل الأولى حين كان هذا الأداء بسيطا يعتمد السرد، أو حين
تطور إلى التلحين الموسيقي، وفق ما حملته "الآلة" من نوبات وطبوع.
*** *** ***
وقد عرف هذا الالتقاء أوجه مع انطلاق الأغنية الحديثة والمعاصرة، سواء في
اعتمادها على نص شعري معرب أو ملحون، وقبل ذلك مع ظهور النشيد. وقد يتيسر الالتقاء
وينجح إذا ما تم التواصل بين الشاعر والملحن وحدث التطابق، في حرص على مقومات كل
من الإبداعين، وكذا في مدى إمكان إحداث بعض التجاوزات ؛ مع ضرورة الإشارة إلى أن
النشيد على الرغم من اعتماده التنغيم اللحني، فإنه كان في الغالب يعتمد الأداء
الصوتي الجماعي، دون اللجوء إلى توقيع الآلات الموسيقية. وربما كان هذا عنصراً
مساعداً على توسيع فضاء ذلك الأداء، بكل ما يسمح به من تلوين وزخرفة ليس من السهل
التحكم فيهما عَبْر الآلات والضوابط الموسيقية المرتكزة أساساً في معظمها على أحد
المقامات.
وكان مما يساعد على هذا اللون من الأداء، لجوء شعراء النشيد إلى أوزان
متعددة ومتنوعة، منها ما يخضع للبحور الخليلية، وخاصة منها الرمل والرجز، سواء
منها التامة أو المجزوءة ؛ ومنها ما يبتعد قليلاً أو كثيراً عنها، وفق ما يقتضيه
الإيقاع اللحني المعتمد في النشيد، والمسعف في تحريك النفوس ؛ مع التركيز على
التكرار اللفظي واللحني وتقارب الأصوات. هذا، مع تقسيم النص الذي غالباً ما يكون
قصيراً، إلى مقاطع واعتماد اللازمة، وكذا عدم التقيد بالبيت ذي الشطرين، وعدم
التقيد كذلك بوحدة القافية، في محاولة لتنويعها.
وعلى الرغم من هذا
الطابع العام، فإن بعض الأناشيد جاءت بدون لازمة، كنشيد محمد الجزولي:
زمان المجد هل لك أن تعودا
كما أن منها ما كان متسماً بالطول، وإن مع اعتماد اللازمة وتنويع القافية،
كنشيد عبد الله القباج:
يا ربنا بالنصر والفتح المبين
ويكاد يقترب من الموشح.
Post a Comment