عودة امرؤ القيس
في رواية يرجعها الإخباريون إلى ابن السكيت: "أن امرأ القيس لما أقبل من الحرب على فرسه الشَّقراء لجأ إلى ابن عمته عمرو بن المُنذر – وأُمّه هند بنت عمرو بن حُجْر بن آكل المُرار، وذلك بعد قتل أبيه وأعمامه وتَفرُّقِ مُلكِ أهل بيته،  وكان عمرو يومئذٍ خليفةً لأبيه المنذر ببَقَّة وهي بين الأنبار وهِيتَ- فمدحه وذكر صِهرَه ورحمه وأنه قد تعلق بحباله ولجأ إليه، فأجاره، ومكث عنده زماناً. ثم بلغ المنذرَ([1])َ مكانُه عنده فطلبه، وأنذره عمرو فهرب حتى أتى حمير"([2]).
ويقول ابن الكلبي والهيثم بن عَدي وعمر بن شبَّة وابن قتيبة([3]): إنَّ    امرأ القيس خرج من فوره –بعد امتناع بكر بن وائل وتغلب من اتباع بني أسد- إلى اليمن " فاستنصر أزدَ شَنُوءةَ؛ فأَبَوْا أن ينصروه وقالوا: إخواننا وجيرانُنا. فنزل بقَيْلٍ يُدْعى مَرْثَد الخير بنَ ذي جَدَن الحميريّ، وكانت بينهما قَرابة، فاستنصره واستمدّه على بني أسد؛ فأمدّه بخمسمائة رجل من حِميَر؛ ومات مَرثد قبل رحيل امرىء القيس بهم، وقام بالمملكة بعده رجلٌ من حمير يقال له قَرْمَل ابن الحُمَيْم وكانت أمّه سوداء، فردّد امرأ القيس وطوَّل عليه حتى همّ بالانصراف؛ وقال([4]):
وإذْ نَحْن نَدْعُو مَرْثَدَ الخَيْرِ رَبَّنا

وإذْ نَحْنُ لا نُدْعَى عَبيداً لِقَرْمَلِ


فأنفذَ له ذلك الجيشَ؛ وتبِعه شُذَّاذٌ من العرب، واستأجر من قبائل العرب رجالاً، فسار بهم إلى بني أسد. ومرَّ بتَبَالةَ([5]) وبها صنم للعرب تعظِّمه يقال له ذو الخَلَصة([6])؛ فاستقسم([7]) عنده بقِداحه وهي ثلاثة: الآمر والناهي والمتربّص، فأجالها فخرج الناهي، ثم أجالها فخرج الناهي، ثم أجالها فخرج الناهي؛ فجمعها وكسرها وضرب بها وجهَ الصنم وقال: مَصِصْتَ بَظْرَ أُمّك! لو أبوك قُتِل ما عُقتَني. ثم خرج فظفِر ببني أسد".
فلما أوقع بهم، وأدرك ثأر أبيه فيهم؛ قال([8]):
قُولاَ لِدُودَانَ([9]) عبيدِ العَصَا
قد قَرَّتِ العَيْنانِ من مالِكٍٍ (5)
ومن بَني غَنْم بنِ دُودانَ(5) إذْ
.......
حَلَّتْ ليَ الخَمْرُ وكنتُ امْرَأً
فاليومَ أُسْقَى غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ

ما غَرَّكُمْ بالأَسَدِ الباسِلِ!
ومن بَني عَمْرٍو(5) ومِنْ كاهِلِ(5)
نَقْذِفُ أعلاهمْ على السَّافِلِ

عن شُرْبِها في شُغُلٍ شاغِلِ
إثماً مِنَ الله ولا واغِلِ

ويفهم من هذه الأبيات أنه أوقع في بطون بني أسد، في: "بني دودان" و "بني مالك" و "بني عمرو" و "بني كاهل" و " بني غنم بن دودان"، وهي التي قتلت أباه جُحْراً([10])، قالها بعد أن أنجده قرمل بن الحميم الحميري([11])، وأنه "ألبسهم الدروع البيض محماة، وكحّلهم بالنار"([12])، فبرّ بيمينه، وحلّ له شرب الخمر([13]).
"وألحّ المنذر في طلب امرىء القيس ووجَّه الجيوش في طلبه من إياد وبَهراء وتَنوخ ولم تكن لهم طاقة، وأمدّه أنوشروان بجيش من الأساورة فسرَّحهم في طلبه. وتفرَّقت حِميَرُ ومن كان معه عنه. فنجا في عُصبة من بني آكل المُرار حتى نزل بالحارث بن شِهاب من بني يَربوع ابن حَنظلة، ومع امرىء القيس أدراع خمسة: الفضفاضة والضافية والمحصِّنة والخريق وأُم الذيول كُنَّ لبني آكل المرار يتوارثونها مَلِكاً عن ملك. فقلَّما لبِثوا عند الحارث بن شهاب حتى بعث إليه المنذر مائة من أصحابه يُوعِده بالحرب إن لم يُسْلم إليه بني آكل المُرار فأسلمهم؛ ونجا امرؤ القيس ومعه يزيد بن معاوية بن الحارث وبنته هند (بنت امرىء القيس) والأَدرُع والسلاح ومال كان بقي معه؛ فخرج على وجهه حتى وقع في أرض طيِّىء([14])؛ وقيل: بل نزل قبلَهم على سعد بن الضِّباب الإيادي سيِّدِ قومه فأجاره"([15])، ومدحه امرؤ القيس([16]).
ثم إن امرأ القيس تحول عنه فنزل برجل من بَني جَديلة طيِّىء يقال له المعلَّى بن تَيْم، وكان أجاره والمنذر بن ماء السماء يطلبه فمنعه ووَفَى له، ولم يكن للملكين: ملك العراق وهو المنذر، وملك الشآم وهو الحارث بن أبي شمر الغساني اقتدار عليه([17])، وفي ذلك يقول([18]):
كأني إذا نزلتُ على المُعَلَّى
فما مَلِكُ العراقِ على المعلَّى
أقَرَّ حَشَا امرىء القيس بن جُحْرٍ

نزلتُ على البَوَاذِخِ من شَمامِ
بمقتدرٍ ولا مَلِكُ الشآمِ
بنو تَيْمٍ مصابيحُ الظلامِ

وقد لبث عنده زماناً، ثم اضطرّ إلى الارتحال عنه([19])، فخرج ونزل ببني نبهان من طيِّىء على خالد بن أصمع النبهاني([20])، فكان عندهم ما شاء الله، ثم خرج فنزل بعامر بن جُوَيْن وهو يومئذٍ أحد الخُلَعاء الفُتَّاك قد تبرَّأ قومُه من جرائره، فبقي عنده زماناً، ثم أحسَّ منه ما رابه، إذ أراد أن يغلب امرأ القيس على ماله وأهله، ففطِن امرؤ القيس لذلك بشعر كان عامر ينطق به، وهو قوله:
فكم بالصَّعيدِ من هِجانٍ مؤَبَّلَهْ
أردتُ بها فَتكاً فلم أَرْتَمِضْله

تَسيرُ صِحاحاً ذاتَ قيدٍ ومُرْسَلَهْ
ونهنهتُ نفسي بعدما كدتُ أَفْعَلَهْ

فلما خافه على أهله وماله تغفَّله وانتقل إلى رجل من بني ثُعَل يقال له حارِثة بن مُرّ([21]) فاستجار به، فوقعت الحرب بين عامر وبين الثُّعَلي([22]).
وفي ديوان امرىء القيس من رواية الأصمعي([23]) أن امرأ القيس تحوّل عن خالد بن أصمع النبهاني فنزل على جاريةَ بن مُرّ بن حنبل أخي بني ثُعل([24])، فأجاره وأكرمه.
فلما وقعت الحرب بين طيِّىء من أجل امرىء القيس، خرج من عندهم، ونزل برجل من بني فَزارة يقال له: عمرو بن جابر بن مازِن، وكان كثير التردّد على قيصر امبراطور بيزنطة والنعمان ملك الحيرة، فطلب منه الجوار حتى يرى ذات عَيبة([25])، فأشار عليه الفَزاري بالذهاب إلى السموأل بن عادياء بتيماء، فوافق، وأرسله في صحبة رجلٍ من بني فَزارة يقال له: الرَّبيع بن ضُبَع الفَزاري كان ممن يأتي السموأل فيحمِلُه ويُعطيه، فوفد الفزاري بامرىء القيس إليه، فنزل عنده وأكرمه وعرف له حقَّه. ثم إنه طلب إليه أن يكتب له إلى الحارث بن أبي شَمِر الغسَّاني بالشام ليوصله إلى قيصر، فاستنجد له رجلاً، واستودع عنده ابنته هنداً وأدراعه وأمواله، وأقام مع ابنته "يزيد بن معاوية بن الحارث" ابن عمه، وخرج حتى انتهى إلى قيصر([26]).


([1]) ابن ماء السماء.
([2]) الأغاني 9: 92، وانظر تاريخ العرب قبل الإسلام 3: 256.
([3]) الأغاني 9: 92-93، وانظر الأصنام: 59-60، معجم البلدان 2: 439، الكامل في التاريخ 517:1، نشوة الطرب 250:1، وذكر ابن سعيد أن امرأ القيس انصرف إلى حمير فنزل بقبيلة تدعى مَرْثَد الخير من ذي جَدَن، فاستنصرهم فأمدُّوه بخمسمائة رجل، ولم يذكر في هذا الخبر موت مرثد وقيام قرمل بن الحميم بالمملكة بعده، وأشار ابن خلدون (تاريخ ابن خلدون 2: 573) إلى أنه بعد أن رجعت بكر وتغلب عن       امرىء القيس سار إلى مُؤثِرِ الخير بن ذي جدن من ملوك حمير صريخاً بنصره بخمسمائة رجل من حمير بجمع من العرب سواهم، واجتزأ ابن كثير (البداية والنهاية   1: 204) هذا الخبر على استقسام امرىء القيس عند ذي الخلصة، وعلى إغارته على بني أسد وقتلهم قتلاً ذريعاً، بلوغ الأرب 207:2، تاريخ العرب قبل الإسلام            3: 256-257، المستشرقون والشعر الجاهلي: 101، 106.
([4]) انظر ديوان امرىء القيس: 342.

([5]) تَبَالةُ: بلدة مشهورة من أرض تهامة في طريق اليمن، وبين تبالة ومكة نحو مسيرة ثمانية أيام. انظر معجم البلدان 2: 11.
([6]) ذو الخلصة: مَرْوَة بيضاء منقوشة، عليها كهيئة التاج، وكانت بتَبَالة بين مكة واليمن على مسيرة سبع ليالٍ من مكة. انظر الأصنام: 49-50.
([7]) الاستقسام: طلب القِسم الذي قُسِم له وقُدِّر مما لم يُقْسَم ولم يُقَدَّر، لسان العرب: (قسم).
([8]) ديوان امرىء القيس: 119-120، 122 و 256-258 باختلاف في رواية بعض الألفاظ.
([9]) دُودان: قبيلة من بني أسد، وكذلك بنو مالك وبنو عمرو وبنو كاهل وبنو غنم: أحياء من بني أسد.
([10]) تاريخ العرب قبل الإسلام 3: 2 57.
([11]) شرح ديوان امرىء القيس: 172.
([12]) معجم البلدان 2: 439، وانظر شرح ديوان امرىء القيس: 172، تاريخ العرب قبل الإسلام 3: 257.
([13]) تاريخ العرب قبل الإسلام 3: 257.
([14]) في العقد الثمين: 64 صار إلى جبلي طيِّىء أجأ وسلمى.
([15]) الأغاني 9: 93، وانظر 22: 118، الكامل في التاريخ 1: 517-518، نشوة الطرب  1 :251، المختصر في أخبار البشر 1: 75، تاريخ ابن خلدون 2: 573، 574، معاهد التنصيص 1: 389، تاريخ العرب قبل الإسلام 3: 257-258، وجاء في العقد الثمين: 73 أن امرأ القيس نزل على هانىء بن مسعود بن عامر بن عمرو بن أبي ربيعة قبل سعد بن الضباب فاستجاره فلم يجرهُ، فأتى سعد بن الضباب، فأجاره، فقال يمدحه ويهجو هانىء بن مسعود قصيدته التي مطلعها:
       لعَمْرُكَ ما قَلبـِي إلى أهْلِـه بحُرّْ     ولا مُقْصـرٍ يومـاً فيأْتينـي بِقُـرّْ
([16]) انظر ديوان امرىء القيس: 112-113، 207، 260، الشعر والشعراء: 59، الأغاني  9: 94، الكامل في التاريخ 1: 518.
([17]) ديوان امرىء القيس: 140.
([18]) ديوان امرىء القيس: 140-141، وبعد البيتين الأوليين:
       أَصَـدَّ نَشـَاصَ ذي القَرْنَيْنِ حتى     تَوَلَّـى عـارِضُ المَـلِكِ الهُمَـامِ
([19]) الأغاني 9: 94، وكان سبب تحوّل امرىء القيس عن المعلَّى بن تَيْم كما يذكر الأصفهاني (9: 94-95): أن امرأ القيس عندما أقام عند المعلَّى زماناً "اتّخذ إبلاً هناك. فغدا قومٌ من بني جَديلة يقال لهم بنو زيد فطردوا الإبل. وكانت لامرىء القيس رواحل مُقيَّدة عند البيوت خوفاً من أن يَدهَمه أمرٌ ليسبق عليهن. فخرج حينئذٍ فنزل ببني نَبْهان من طيِّىء، فخرج نفر منهم فركبوا الرواحل ليطلبوا له الإبل فأخذتهن جَديلـة، فرجعوا إليه بلا شيء. فقال في ذلك:
     وأَعْجَبَنِي مَشْيُ الحُزُقَّةِ خالدٍ
فَدَعْ عنك نَهْباً صِيحَ في حَجَراتِهِ

     كمَشْي أتانٍ حُلِّئتْ بالمَنَاهِل
ولكنْ حديثاً ما حدِيثُ الرواحِلِ

ففرَّقت عليه بنو نَبْهان فِرْقاً من مِعزًى يحلبُها..."، وانظر المحبر: 353-254، الكامل في التاريخ 1: 518، تاريخ العرب قبل الإسلام 3: 262.
([20]) ديوان امرىء القيس: 94.

([21]) هو: أبو حنبل جاريةُ بن مُرّ الطائي ثم الثُّعَلي في: المحبر: 352، وفيه: "الثعلبي"، الشعر والشعراء: 60، فصل المقال: 139، 315، بلوغ الأرب 1: 135، العقد الثمين: 100، وفي الكامل في التاريخ 1: 518 "حارثة بن مُرّ" بالحاء المهملة.
([22]) الأغاني 9: 95-96، وفي ديوان امرىء القيس: 212 أن المنذر بن ماء السماء بعث في إثر امرىء القيس جيشاً "فلجأ إلى المعلَّى، وكان في طيِّىء، ثم في بني جديلة، ثم أحد بني ثعلبة، وكان سيِّداً منيعاً فمنعه من المنذر... ثم خرج من فوره ذلك حتى جعل المنذر يطلبه في كل مكان؛ فخَشِيَ أن يصيبَه فلم يُنَهْنِه دون أن أتَى قيصر ملك الروم..."، وفي الشعر والشعراء: 59 أن امرأ القيس تحول عن سَعْد بن الضباب الإيادي إلى جَبَلَيْ طيِّىء، فنزل على قوم منهم عامرُ ابن جُوَيْن الطائي، وفي الكامل في التاريخ 1: 518 أنه رحل عن المعلَّى بن تيم الطائي، ونزل بعامر بن جوين الطائي، وانظر تاريخ العرب قبل الإسلام 3: 262.
([23]) ص: 94، وروى البكري (فصل المقال: 315) في المثل: "هما ساقَا غادرٍ شَرّ" قصة       امرىء القيس وأبي حنبل جارية بن مُرّ الطائي، ويقال: إن صاحب الخبر عامر بن جُوَيْن الطائي، وانظر ص: 139، وقال الأصمعي: المثل لعبيد بن شَجْنة، وقصة أبي حنبل في المحبر: 352، بلوغ الأرب 1: 135-136.
([24]) انظر الحاشية رقم (1) من هذه الصفحة.
([25]) أي: ينظر في أمره ويصلح من شأنه.
([26]) الأغاني 9: 96-99، وانظر 22: 118-119، شعر السموأل: 7، طبقات فحول        الشعراء:  279، المحبر: 349، الشعر والشعراء: 60، وفيه ذكر ابن قتيبة أن امرأ القيس " لم يزل ينتقل من قوم إلى قوم بجبلَيْ طيِّىء، ثم سمت به نفسه إلى ملك الروم. فأتى السموأل بنَ عادياءَ اليهوديَّ، ملك تيماء، وهي مدينةٌ بين الشام والحجاز، فاستودعه مائة درعٍ وسلاحاً كثيراً..."، مجمع الأمثال 441:2، المستقصى 1: 435، الكامل في التاريخ 1: 518. ويقرب من خبر الشعر والشعراء ما ذكره ابن سعيد في نشوة الطرب 1: 251، وأبو الفداء في المختصر في أخبار البشر 1: 75، تاريخ ابن خلدون 2: 573، 574، معاهد التنصيص        1: 388، 389-390، بلوغ الأرب 1: 136-137، تاريخ آداب اللغة العربية 1: 108، تاريخ الأدب العربي لبلاشير: 292، تاريخ العرب قبل الإسلام 3: 262، العرب قبل الإسلام لجرجي زيدان: 246. أما اليعقوبي فإنه يروي في (تاريخه 1: 217-220) عن امرىء القيس – منذ أن بلغه مقتل أبيه حُجْر إلى أن وصل إلى قيصر ملك الروم- رواية تختلف في كثير من أحداثها وتفاصيلها عن رواية صاحب الأغاني، يقول فيها: "فلما بلغه مقتل أبيه جمع جمعاً، وقصد لبني أسد، فلمَّا كان في الليلة التي أراد أن يَغير عليهم في صبيحتها نزل بجمعه ذلك، فذعر القطا، فطار عن مجاثمه، فمرَّ ببني أسد، فقالت بنت علباء: ما رأيت كالليلة قطا أكثر! فقال علباء: لو تُرك القطا لغَفَا ونام، فأرسلها مثلاً. وعرف أن جيشاً قد قرب منه، فارتحل، وأصبح امرؤ القيس، فأوقع بكنانة، فأصاب فيهم وجعل يقول: يا للثارات! فقالوا: والله ما نحن إلا من كنانة! فقال:
  ألا يـا لَهْـفَ نفسـي، بَعْـد قـومٍ،       ..........          (الأبيات)
... ومضى امرؤ القيس إلى اليمن لما لم يكن به قوّة على بني أسد ومن معهم من قيس، فأقام زماناً، وكان يُدْمِن مع نَدَامَى له، فأشرف يوماً، فإذا براكب مقبل، فسأله: من أين أقبلت؟ قال: من نجد! فسقاه مما كان يشرب، فلما أخذت منه الخمرة رفع عقيرته، وقال:
    سقينا امْرأ القيس بن حُـجْر بن حارثٍ     كؤوسَ الشَّجا حتى تَعَوَّدَ بالقَهْـــرِ
    وأَلْهَـاهُ شـُرْبُ ناعِـمٍ وقراقـــرٍ،     وأَعْياهُ ثَأرٌ كـان يَطْلُبُ في حُــجْرِ
    وذاك لَعَمْري كـان أَسْهَـلَ مَشْرَعاً      عليه مِنَ البِيضِ الصَّوارِمِ والسّمْرِ
ففزع امرؤ القيس لذلك، ثم قال: يا أخا أهل الحجاز! مَنْ قائل هذا الشعر؟ قال: عَبيد بن الأبرص. قال: صدقت! ثم ركب، واستنجد قومه، فأمدّوه بخمسمائة من مذحج، فخرج إلى أرض معدّ، فأوقع بقبائل من معدّ، وقتل الأشقر بن عمرو، وهو سيِّد بني أسد، وشرب في قحف رأسه، وقال امرؤ القيس في شعر له:
قـُولا لـِدُودَانَ: عَبيـدِ العَصَـا،         ...........   (الأبيات)
وطلب قبائل معدّ امرأ القيس، وذهب من كان معه، وبلغه أن المنذر ملك الحيرة قد نذر دمه، فأراد الرجوع إلى اليمن، فخاف حضرموت، وطلبته بنو أسد وقبائل معد، فلمَّا علم أنه لا قوّة به على طلب المنذر واجتماع قبائل معدّ على طلبه، ولم يمكنه الرجوع، سار إلى سعد بن الضباب الإيادي، وكان عاملاً لكسرى على بعض كور العراق، فاستتر عنده حيناً، حتى مات سعد بن الضباب، فلما مات سعد خرج امرؤ القيس إلى جبلَيْ طيِّىء، ... فنزل بقوم من طيِّىء ثم لم يزل ينتقل في طيِّىء مرّة، وفي جديلة مرَّة، وفي نبهان مرَّة، حتى صار إلى تَيْماء، فنزل بالسموأل بن عادياء... فأودعه أدراعاً، وانصرف عنه يريد ملك الروم، حتى صار إلى قيصر ملك الروم، فاستنصره، فوجّه معه تسعمائة من أبناء البطارقة".

Post a Comment

Previous Post Next Post