امرء القيس وقبائل اليمن ونجد
والحجاز
ويرى جرجي زيدان أن امرأ القيس
أتى السموأل لمَّا تنكَّرت له القبائل في اليمن ونجد والحجاز، فلم يجرهُ أحد
"فاستجاره فأجاره... وهو لا يرى من يستنصره على أعدائه إلاَّ قيصر الروم، لأن
ملوك الحيرة عمال الفرس نصروا أعداءه على جاري عادة العرب في ذلك العهد، إذا
تظلَّموا من إحدى هاتين الدولتين استنصروا الأخرى"([1]).
في حين يزعم بعض المؤرخين أن امرأ القيس قَرَّر أن يذهب إلى القسطنطينية ليستنجد
بملك الروم لأن قبائل العرب رفضت نصرته خوفاً من بني أسد، وخوفاً من إغضاب
المناذرة والفرس([2])،
وهو زعم يحتاج – في شقّه الأول - إلى إعادة النظر، ليس هذا محّله.
وثمة تأويل آخر نذهب إليه أن
امرأ القيس ربّما فكَّر خلال إقامته في بني فزارة –عند عمرو بن جابر بن مازن - أن
يطلب العون والمدد من امبراطور بيزنطة، ولعله سمع عنه كثيراً منه([3])،
وقد يكون الذهاب إلى قيصر اقتراحاً من مجيره الفزاري، وقوَّاه الحارث الغسَّاني.
إذ يوحي الخبر السابق أن الحارث شجَّعه على الرحلة، وقَبِل أن يقدّمه إلى قيصر،
لوجود هدف مشترك يجمع بينهما، فكان الغساسنة، ممثلو بيزنطة في الشام، أعداء ألداء
للمناذرة في الحيرة، وقد كان لهؤلاء – بمعاونة الفرس- الدور الكبير في تحطيم ملك
كندة([4])
وملاحقة امرىء القيس([5])،
الأمر الذي جعل كلمتهم هي النافذة بين القبائل الضاربة في شرق الجزيرة الشمالي
ونجد، وكان للغساسنة وبيزنطة مصلحة عامة في دعم امرىء القيس لاستعادة سلطانه، كي
يصبح شوكة في ظهر المناذرة خصومهم التقليديين([6]).
ويذكر الإخباريون أن قيصر
قَبِل امرأ القيس وأكرمه،
وصارت له منزلة عنده([7])
ونادمه([8])، وأنه
دخل معه الحمام، وأن ابنته نظرت إليه فعشقته، فكان يأتيها وتأتيه([9]).
ويذكرون كذلك أن قيصر([10])
أنجد امرأ القيس وبعث معه جيشاً كثيفاً فيهم جماعة من أبناء ملوك الروم، إذ طمع أن
يكون له قوة في العرب يقاوم بها نفوذ الأكاسرة([11]).
ولكنَّ رجلاً من بني أسد يقال له الطَّمَّاح([12])
كان امرؤ القيس قد قتل أخاً له([13])،
لحق بامرىء القيس حتى أتى إلى بلاد الروم فأقام مستخفياً، فلما ارتحل امرؤ القيس
قال لقيصر قوم من أصحابه([14]):
"إن العرب قومُ غدرٍ، ولا تأمن أن يظفر بما يريد ثم يغزوك بمن بعثتَ
معه". وفي رواية لابن الكلبي أن الطمَّاح قال لقيصر: "إن امرأ القيس
غَوِيٌّ عاهرٌ وإنه لمَّا انصرف عنك بالجيش ذكر أنه كان يراسل ابنتَك ويواصلها،
وهو قائل في ذلك أشعاراً يُشهِّرها بها في العرب فيفضَحُها ويفضحك". فبعث
إليه حينئذٍ بحُلَّة وَشيٍ مسمومة منسوجة بالذهب وقال له: " إني أرسلت إليك
بحُلَّتي التي كنت أَلبَسُها تَكرِمةً لك، فإذا وصلتْ إليك فالبسها باليُمن
والبركة، واكتب إليَّ بخبرك من منزلٍ منزلٍ". فلما وصلت إليه لبِسها واشتدَّ
سروره بها؛ فأسرع فيه السمّ وسقط جلده؛ فلذلك سمّي ذا القروح، فلما وصل إلى بلدة
من بلاد الروم تُدعى أَنْقِرةَ([15])
احتُضر بها([16]).
ويرى اليعقوبي في وشاية
الطمَّاح الأسدي بامرىء القيس رؤية أخرى تغاير –كل المغايرة- رواية صاحب الأغاني،
فهو يزعم أن امرأ القيس مدح قيصر فسار الطمَّاح الأسدي إلى قيصر؛ فقال له([17]):
"إن امرأ القيس
شتمك في شعره وزعم أنك علج أغلف. فوجّه قيصر إلى امرىء القيس
بحُلَّة قد نضج فيها السمّ، فلما أُلبسها تقطع جلده وأيقن بالموت". في حين
يذكر ابن كثير أن امرأ القيس
"امتدح قيصر ملك الروم يستنجده في بعض الحروب ويسترفده، فلم يجد ما يؤمله عنده
فهجاه بعد ذلك، فيقال إنه سقاه سمّاً فقتله"([18]).
أما
أبو الفداء فيشكك في صحة الخبر المروي عن الحلة، فيقول([19]):
"وقد قيل إن ملك الروم سَمّه في حلة وهو عندي من الخرافات"، ويستنكر
جرجي زيدان مدى فاعلية هذا السمّ في القتل، فيقول أيضاً([20]):
"ولا
([3])
وذلك عند قولـه له: "جئت قيصر وجئت النعمان" في
سياق حديثه عن السمؤال، إذ يوحي الخبر أن الفزاري كان يتردّد على قيصر وعلى
النعمان، وأنه لم يرَ مثل السمؤال في إغاثة الضيف؛ قال: "فلم أرَ لضيف نازل
ولا لمُجْتَدٍ مثلَه ولا مثلَ صاحبه"، وربما عنى بهذا الصاحب الربيع بن ضُبَع
الفزاري، كان ممن يأتي السموأل فيَحْمِلُه ويُعْطيه. ولعل الخبر انطوى على أقوال
أخرى في حقّ قيصر شجَّعت امرأ القيس على الذهاب إلى بيزنطة، ولم يذكرها الرواة في
الخبر الذي أورده صاحب الأغاني 9: 96-97.
([12])
في الشعر والشعراء: 53 "الطَّمَّاح بن قيس الأسدي"، وانظر الشوامخ امرؤ
القيس: 18، وجاء في ديوان امرىء القيس: 108 من رواية الأصمعي عن الطَّمَّاح قوله:
إن الطَّمَّاح رجل من بني أسد، وإن الذي وَشَى بامرىء القيس عند قيصر هو رجل منهم،
يقال له: حبيب، وقال بعضهم:منقذ، وقد سمي الطَّمَّاح بقول امرىء القيس: "لقد
طمح الطَّمَّاح من بعد أرضه". وزعم " قوم أن الطَّمَّاح رجل من بني أسد
أرسله إليه قيصر بثوبه المسموم. وقيل: الذي سار إليه بالثوب هو الطَّمَّاح
الأسدي".
Post a Comment