صلاة
الجنازة وأبعادها النفسية
هذه
المنهجية النفسية وهي منهج الإزاحة Displacement تعالج العقيدة نفوس البشر من أثر
مصيبة الموت، وما زال الحدث في أوج شدته وطغيان فجاءته.
ورغم
شدة هذه المحنة التي تنزعج لها نفوس البشر، إلا أن التشريع الإلهي مهد لها في نفوس
البشر، ليستقبل الإنسان الموت عن معرفة ويقين، ثم تأتي صلاة الجنازة لتمتص الأثر
النفسي السيئ بمافية من خلخلة تجتاح النفس البشرية، والعقيدة تغرس تعليمها في
النفوس البشرية بالصلاة، فها هو ذا المصلي الذي يحافظ على صلاته ويداوم عليها، يصل
إليه قول ربه سبحانه وتعالى من أول سورة الملك:
(تَبَارَكَ
الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {1} الَّذِي خَلَقَ
الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)(الملك:1-2)
فإذا
كانت القراءة من سورة الجمعة فيصل إليه قول الحق سبحانه:
(قُلْ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن
دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {6} وَلَا
يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ {7} قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ
مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)(الجمعة:6-8)
فإذا
وصلت القراءة إلى سورة آل عمران فسيصل
إليه قول الحق سبحانه:
(كُلُّ
نَفْسٍ ذائقة الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)(آل عمران:185)
فإذا
انتهى القارئ إلى سورة البقرة، فيستمع إلى قول السميع العليم:
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ
وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم
مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ {156} أُولَـئِكَ
عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ
الْمُهْتَدُونَ)(البقرة:155-157)
ثم
يأتي قول ربنا سبحانه من سور الواقعة، موضحا الكيفية التي تصل به النفوس إلى حقيقة
الموت فيقول ربنا سبحانه :
(فَلَوْلَا
إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ {83} وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ {84} وَنَحْنُ
أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ {85} فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ
غَيْرَ مَدِينِينَ {86} تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)(الواقعة:83-87)
هذا
هو منهج العقيدة وهو يمهد للموت نفوس البشر، ثم تأتي صلاة الجنازة، فتخفف حدة ما
يعانيه الأهل من فجأة الموت وألم الفراق، ولهذا كانت متابعة الجنازة مضاعفة الأجر
عند الله سبحانه، وهي في ميزان العبد يوم القيامة .
وفوق
هذا الترغيب الديني، فإن من يسير في الجنازات، يعتبر بما يتجسد أمامه من آثار
الموت، فهو يرى هذا العظيم الذي كانت الطرقات تضيق بموكبه، يصير إلى حفرة لا تتسع
لغيره، وتنتهي أفكار المشيعين الذين يتابعون الميت إلى حقيقة صادقة، لا خلاف
عليها، وهي ضآلة الحياة الدنيا وتفاهة
قدرها، فهي كما قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى
كافراً منها شربة ماء ".أخرجه الترمذي وابن ماجة وهو ضعيف
هذه
الميكانيكية السلوكية الفريدة من نوعها، تعالج نفوس البشر بتحقير الدنيا، وتصغير
شأنها، وهذا عكس ما ألفه البشر بمفاهيمهم فالناس يعظمون الحياة وما فيها من متع
ومتاع، فيعظمون الثراء والجاه والسلطان ويعظمون النعيم بكل أنواعه ويكرهون الفقر
والبلاء والوضاعة والشفاء، ومع هذا التعظيم للدنيا في نفوس البشر، يأتي قول ربنا
سبحانه موضحاً قيمة الدنيا وهو سبحانه الذي خلقها، وهو أعلم بها، فيقول سبحانه في
سورة الكهف:
(وَاضْرِبْ
لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ
فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ
وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً {45} الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ
ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً)(الكهف:45-46)
ويقول
سبحانه في سورة الحديد :
(اعْلَمُوا
أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ
وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ
الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً
وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)(الحديد:20)
ويأتي
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو
كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء ".
ومع
هذه الدرجة من الضآلة والتداني في الحقارة والصغر، إلا أن أهل الدنيا تكالبوا
عليها وتصارعوا على ما فيها، فتحاسدوا وتباغضوا، واحتدمت بينهم العداوة والبغضاء
والشحناء ولم يقف الصراع عند الأفراد والعائلات، بل تعداه إلى الأمم والشعوب،
فالشعوب تتصارع وتتقاتل، وينتهي
الأمر بينها إلى حروب تهلك فيها الأنفس وتضيع
الأموال وتقل الثمرات، وبهذا فقدت الحياة طعمها وأمنها واستقرارها، واختلت فيها
الموازين، وتصدعت فيها جوانب الاطمئنان النفسي، ومع الخوف وعدم الأمان انشغل كل
إنسان بنفسه، وأصبح يلهث وراء آماله، وآمال البشر مع قصر الأمد، طموحاته لا تنتهي
عند حد، فالإنسان تتسع آماله لكل ما تشتهيه نفسه، ويعتقد أن النجاح في طلب الرزق
تعب ومهارة وتخطيط واجتهاد والحقيقة ليست كذلك
أبداً، فقد يجمع الإنسان بمهارته ودأبه ومثابرته ثراء ولكنه يفقد معها صحته
وعافيته،وقد يحقق جاهاً ومنصباً وشهرة ولكنه لا يحقق سعادة، وما حصله وما ضاع منه
بمفهوم العقيدة سواء لأنه ابتلاء، يقول ربنا سبحانه في سورة الفجر :
(فَأَمَّا
الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ
رَبِّي أَكْرَمَنِ {15} وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ
فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ {16} كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ)(الفجر15-17)
كلا
لأن حسابات البشر مادية بحتة، ولهذا انتهت بهم الحياة إلى صراع، وانتهت نفوسهم إلى
ضياع، ومما جاء من حكم ابن مسعود رضي الله عنه في باب الزهد في الدنيا من كتاب
الفوائد لابن القيم : " ولكل زارع مثل ما زرع ولا يسبق بطئ بعمله ولا يدرك
حريص ما لم يقدر له " .
وحرص
البشر على إدراك ما لم يقدر لهم، انتهى بنفوسهم إلى الصراع فالإنسان مطالب بالعمل
والسعي، ولكنه في الوقت نفسه مطالب بالرضا بما قسم الله له، فلما اختلت الموازين
وابتعد الرضا عن النفس، انتهت النعمة بصاحبها إلى نقمة، وأصبح الغني الثري من فرط
ثرائه يخاف الفقر فيزيده ذلك تكالباً على الدنيا واستكثاراً من أرزاقها، فيرهق
نفسه ويرهق أهله، فهو ضنين شحيح بما يجمع ويلهث طوال الوقت وراء الدنيا يجمع ما
ليس له، ولا يتقي الله في وسائل الوصول إليه، فإذا أضناه التعب والجهد وأراد أن
يخلد إلى الراحة فهو لا يجد طعمها، لأن مخاوفه تلاحقه وتحتويه، فيؤرقه الهم ويستبد
به الأرق، إنه يلهث في كلا الحالين، إنه يلهث في عمله بجهده وتعبه وعنائه، ويلهث
في راحته بصراعات نفسه وشتات فكره وشقائه وهذا ما يبعده عن حظيرة الإيمان وهذا
المعنى توضحه الظلال النفسية لقول ربنا سبحانه في سورة الأعراف:
(وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ
الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ {175} وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا
وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ
الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ
الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ)(الأعراف:175-176)
والذين
ابتعدوا عن حقيقة مفهوم الرزق هم أشد الناس إنكاراً لقول ربنا سبحنه في سورة
الذاريات:
(وَفِي
السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ {22} فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ
إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ)(الذاريات:22-23)
"
إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل أجلها ورزقها فأجملوا في طلب
الرزق ولا تطلبوه من حرام"
والميكانيكية
النفسية لفلسفة الموت وشهود الجنازات تضع حداً لهذه المهزلة، مهزلة الإنسان
المتكالب على الحياة، والذي ابتعد بمفاهيمه الدنيوية عن حظيرة الإيمان فلو اعتبر
هؤلاء بهذا المحسوس الملموس وهزتهم مفاجآت الموت هزة عنيفة، فربما يستيقظ معها
النائم من سباته ويفيق بها اللاهث من غيبوبته، إنه يرى بعينيه أن حظه من الحياة
كلها قبر يحتويه لا يتسع لغيره، وإن اتسع لغيره فالأموات يتجاورون وكل يرضى بمكانه
لا يطمع أحد في شبر واحد من مكان غيره.
يا
لها من موعظة، إن الدنيا لا تستحق من البشر ما هم فيه من جشع وطمع وتحاسد وتقاتل،
لابد أن تصفو النفوس وتهدأ الأطماع حتى ينتهي الإنسان إلى اطمئنانه وأمنه وأمانة،
فالفارق كبير بين نفس اطمأنت ونفس تصارعت.
(فَأَيُّ
الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {81} الَّذِينَ
آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ
وَهُم مُّهْتَدُونَ)(الأنعام :81-82)
صدق
الله العظيم، فإن النفس بهذا تنتهي إلى حقيقة الاطمئنان.
(يَا
أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ {27} ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً
مَّرْضِيَّةً {28} فَادْخُلِي فِي عِبَادِي {29} وَادْخُلِي جَنَّتِي)(الفجر:27-30)
ولهذا
يقف المصلي وهو في صلاة الجنازة يدعو ويقول : اللهم من أحييته منا فأحيه على
الإيمان ومن توفيته فتوفه على الإسلام.
وأسعدنا
بلقائك وطيبنا للموت وطيبه لنا واجعل فيه راحتنا ومسرتنا، ما أطيب هذه
النهاية!نهاية بلا صراع..
"
اللهم أجعل خير أعمالنا خواتيمها وخير أيامنا يوم لقائك".
Post a Comment