يعزو كثير من الباحثين
بداية انحدار الدولة العثمانية إلى عام 1110هـ (1699م)، عندما اندحرت أمام الأعداء،
واضطرت، لأول مرة، إلى توقيع معاهدة كارلوفجا، التي فرض شروطها عدوُّها المنتصر. وخرجت
الدولة العثمانية بتلك الهزيمة من عزلتها، وتيقنت يقيناً جازماً من تخلف أجهزتها العسكرية.
فبدأت توجُّهاً قوياً إلى الاستفادة من التقدم الأوروبي، فيما عُرف، في تاريخ الدولة
العثمانية، بحركات التجديد،
كما سأتي تفصيله بعد قليل.
أرجع بعض الباحثين
مقدمات ضعف الدولة العثمانية إلى عهد السلطان سليمان القانوني، بسبب وقوعه تحت تأثير
زوجته روكسلانا، التي تآمرت ضد الأمير مصطفى ابن سليمان، ليتولى ابنها سليم الثاني
الخلافة بعد أبيه. وكان مصطفى قائداً عظيماً ومحبوباً لدى الضباط، مما أدى إلى حركةة
تزمر بين الإنكشارية ضد السلطان، فأخمدها السلطان سليمان. وبذلك قضى على الأمير مصطفى.
واعقب ذلك تخلي السلطان عن ممارسة سلطاته، وتسليم مقاليد الأمور إلى زوجته، مما أدى
إلى بروز سطوة الحريم، والعجز عن مواجهة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، التي أدت
إلى نشوب القلاقل الشعبية في الروملي والأناضول.
يتفق المؤرخون على
أن عظمة الدولة العثمانية قد انتهت بوفاة السلطان سليمان القانوني عام 974هـ (1566م).
حيث فتح الطريق، من بعده، لاستلام السلاطين الضعاف زمام أمور الدولة، وذلك حين خلف
لولاية عهده ابنه سليم الثاني، بدلاً من الأمير مصطفى، المتسم بقوة الشخصية، والتدريب
الإداري، والعسكري الفائق. يضاف إلى ذلك أن العديد من السلاطين، الذين تولوا الحكم
في الدولة في فترة التقهقر تلك، كانوا في سن الطفولة، فأصبحت أقوى دولة بيد الحريم
أو آغاوات القصر. وعجَّل ذلك بالدولة إلى الهاوية. ولولا وجود بعض الصدور العظام الأقوياء،
في تلك الفترة، لما بقيت الدولة إلى العصور التي تليها.
وكانت معاهدة كارلوفجا،
التي امتدت ستة عشر عاماً، أولى الهزائم العسكرية الكبرى، التي هزت كيان الدولة، وأدت
إلى اهتزاز البنية الإدارية،
والمالية، والاجتماعية للدولة العثمانية. فقد عقدت تلك
المعاهدة بين كل من الدولة العثمانية، والنمسا، وروسيا، والبندقية، وبولونيا، في
24 رجب 1110هـ (26 يناير 1699م)، وتنازلت الدولة العثمانية بموجبها عن 000ر356 كم2
من أراضيها لتلك الدول. وقد وصف المؤرخ الفرنسي "فرنارد جرينارد" هذه المعاهدة
بقوله: "إن عام 1699م من أهم الأعوام التاريخية، حيث انتقلت الهيمنة الشرقية إلى
أوروبا".
ثم توالت بعد ذلك
الإحن على الدولة، وإن كانت على فترات متباعدة. حيث اضطرت للتنازل لأعدائها، بموجب
المعاهدات التي أبرمتها معها، مثل معاهدة كوجوك قاينارجه، التي وقعتها الدولة مع روسيا،
في 1188هـ (21 يوليه 1774م) ، عن القرم، وبسارابيا، وقوبان، وغيرها من الأراضي، إضافة
إلى حرية الملاحة للسفن الروسية في البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط، وأن تبنى روسيا
كنيسة لها في إستانبول، ويكون لها حق حماية جميع المسيحيين الأرثوذوكس القاطنين في
البلاد العثمانية، وأن تدفع الدولة العثمانية خمسة عشر ألف كيس غرامة حربية لروسيا. وكانت تلك أول خطوة لروسيا
في إلحاق القرم بأراضيها. كما أنه، من خلال حق حماية الأرثوذوكس، كانت روسيا قد حفظت
لنفسها حق التدخل في شؤون الدولة العثمانية الداخلية.
وعلى الرغم من قيام
الدولة، بعد ذلك بمحاولات إصلاح، بعدما تأكدت أنها لا تستطيع مواجهة القوات الدولية،
إلاّ أن تلك المحاولات كانت محدودة مؤقتة، ولم تستمر طويلاً. وخاصة المحاولات، التي
أجريت في عهد السلطان عبدالحميد الأول. ومما لا شك فيه أن الحروب، التي كانت تنشب بين
فترة وأخرى بين العثمانيين من جهة، وبين روسيا من جهة أخرى، كانت تعرقل
Post a Comment