حركات التجديد في
الدولة العثمانية
أ. إصلاحات ما قبل
عصر السلطان محمود الثاني
دعت الهزائم المتوالية
للدولة العثمانية ببعض السلاطين إلى التفكير في القيام ببعض الإصلاحات، ومحاولة العمل
على الحد من ذلك التقهقر. ومن أهم الإصلاحات، التي جرت في الدولة العثمانية، قبل إصلاحات
السلطان محمود الثاني (1808-1839م) الجذرية، إصلاحات السلطان عبدالحميد الأول
(1773-1789م)، والسلطان سليم الثاني (1789-1807م).
أجرى السلطان عبدالحميد
الأول - الذي يعد أقوى السلاطين العثمانيين في القرن الثامن عشر الميلادي - بعض الإصلاحات.
وكان من الطبيعي أن تكون تلك الإصلاحات عسكرية بالدرجة الأولى. ومن ثم استقدم السلطان
بعض الضباط الغربيين ليكونوا مستشارين له في الشؤون العسكرية. وعلى رأسهم البارون دو
توت الفرنسي (1730-1793م)، فأنشأ وحدة المدفعية، على غرار الدول الغربية، كما أنشأ
كلية الهندسة (العسكرية). ووضع بعض الخطط العسكرية في الدفاعات العثمانية. إضافة إلى
مصنع للمدافع في حي خاص (كوي).
في الوقت الذي كان
فيه السلطان عبدالحميد منشغلاً بالإصلاحات، والاستفادة من التقنية الغربية، كانت الصراعات
الداخلية والأزمات تعرقل مسيرة تلك الإصلاحات؛ فقد رفع علي بك الكبير راية العصيان
والتمرد في وجه الدولة، وتعرضت الدولة لثورات داخلية أخرى في البلقان، ومصر، وسوريا،
إضافة إلى استيلاء إيران على البصرة عام 1190هـ (1776م)، ووقوف الدول الغربية وروسيا
بالمرصاد للدولة العثمانية
.
أما السلطان سليم
الثالث، فقد حاول الاستفادة من الهدوء النسبي في زمنه، فقام ببعض الإصلاحات، التي تركزت
في تنظيم الجيش، والتخلص من الجيش الإنكشاري، الذي أصبح وراء كل فتنة في الدولة. واتجه
نحو تقليد الدول الأوروبية في صناعة السفن، والأسلحة، والمدافع.
وكانت تلك الإصلاحات
ضرورة للدولة العثمانية، فرضتها عليها ظروف العصر، وليس تقليداً أعمى للغربيين؛ إذ
إن الدولة باتت مكتوفة الأيدي إزاء أراضيها، التي تفقدها يوماً بعد يوم. ولهذا فإن
النظام الجديد، الذي أعلن عنه السلطان سليم الثالث، كان يرمي إلى إلغاء الإنكشارية،
التي تعد عبئاً ثقيلاً على الدولة. ولذلك فقد طلب من بعض رجال الدولة إعداد لائحة تفصيلية
للإصلاحات، التي ينبغي القيام بها. وعلى الرغم من عدم المساس بالإنكشارية في بداية
الأمر، ومحاولة إنشاء نظام جديد للجيش، يتمشى مع الإنكشارية، ثم العمل على إصلاح الجيش
الإنكشاري ليتلاءم مع مرور الأيام مع الجيش الجديد، إلا أنهم ثاروا على السلطان، الذي
فقد عرشه ثم حياته بسبب شروعه في تلك الإصلاحات.
ب. إصلاحات السلطان
محمود الثاني
يبدو، من خلال استقراء
التاريخ العثماني المعاصر، أن حركة التجديد، التي استهدفت الجيش والأنظمة في الدولة
العثمانية بشكل منظم وعملي، ترجع إلى عهد السلطان محمود الثاني (1808-1839م)، عندما
أقدم، عام 1241هـ (15 يونيه 1826م)، على إلغاء الجيش الإنكشاري، وأسس محله النظام الجديد،
وسماه العساكر المحمدية المنصورة. وبدأ اقتباس الأنظمة من العالم الغربي. ذلك أن السلطان
سلياً الثالث (1789-1807م) كان قد حاول التخلص من الإنكشارية، بإحلال جيش منظم محلها
على غرار الجيوش الأوروبية، إلا أن تلك المحاولة باءت بالفشل وأودت بحياته كما أودت
بحياة كافة أنصار الإصلاح، ولم يستطع إحراز نجاح يذكر، بسبب قوة نفوذ الإنكشارية، التي
ما لبثت أن فقدت بالتدريج كل ما كان لها من مزايا، وتحولت إلى آلة فاسدة في كيان الدولة.
هذا، على أنه تمكّن من الشروع في إصلاح الأسطول العثماني، وتأسيس وحدات عسكرية حديثة
عرفت ب النظام الجديد، والبدء بتخريج الضباط من المدارس العسكرية والبحرية، وإرسال
بعثات دبلوماسية في عدد من عواصم الدول الغربية. فأعاد السلطان محمود الثاني الكَرّة،
بعد أن اتخذ الاحتياطات التدبيرية اللازمة، فقضى على الجيش الإنكشاري تماماً، حتى لا
يبقى لهم كيان فيما بعد. وقبض في الوقت نفسه على شيوخ البكتاشية، التي كانت تعد العقل
المدبر لتصرفات الإنكشارية.
أدرك محمود الثاني
أن الإصلاحات، التي أدخلها على الجيش، لا تكفي للمحافظة على كيان السلطنة، فشرع في
المرحلة الثانية، التي استهدفت التنظيم الإداري للدولة. فأنشأ عام 1251هـ (1835م) وزارة
للخارجية، وأخرى للداخلية، وشكل مجلساً للأشغال العامة عام 1253هـ (1837م)، وأدخل أنظمة
الجوازات والحجر الصحي، وافتتح مدارس ابتدائية ورُشدية في العام التالي. كما أخذ، على
عاتقه، الأخذ بفكرة التكامل في جميع الميادين الثقافية، والاجتماعية، والسياسية، وتنظيم
مؤسسات إدارية وتعليمية، تسير جنباً إلى جنب مع المؤسسات الدينية والتعليمية، التي
كانت تحت إشراف المشيخة الإسلامية. مع التقليل من مكانتها، والعمل على فصل بعض المؤسسات
من كيانها. كما جرى ذلك في المدارس الابتدائية وهي مدارس الصبيان، التي كانت تابعة
للمشيخة الإسلامية.
Post a Comment