التيار الفكري والسياسي، الذي أبصر قادته وأنصاره أن هناك عدداً من التحديات، التي تواجه الشعوب الإسلامية، سواء أكانت تلك التحديات آتية من داخل الأوطان الإسلامية، كالتخلف الفكري، والروحي، والانحدار الحضاري، والصراعات الإقليمية والقبلية، أم آتية من الخارج، في شكل المد الاستعماري، الذي زحف من أوروبا على الشرق، وبخاصة في القرن التاسع عشر.
وهذا التعريف ينطبق
على ما كان يدعو إليه السيد جمال الدين الأفغاني. غير أن دعوته التجديدية لم تكن مجرد
تجمع سياسي تحت امرة خليفة ما، سواء أكان عثمانياً أم عربياً أو أعجمياً، ضد مد النفوذ
الأجنبي في العالم الإسلامي، كما كان يغلب على أفكار السلطان عبدالحميد الثاني في سياسته
للجامعة الإسلامية؛ بل كانت دعوة للرجوع إلى الأصالة بجميع مقتضياتها العصرية. ويشير
بعض الباحثين إلى أن "السيد جمال الدين" بدأ الدعوة إلى هذه الفكرة، منذ
حجه إلى مكة المكرمة، عام 1273هـ (1857م)، وأنشأ فيها جمعية "أم القرى"،
التي ضمت أعضاء من مختلف الأقطار الإسلامية. واستمر على هذا المنوال، وهو يحث على فكرته،
متنقلاً بين الأقطار والعواصم الإسلامية، حتى استقر به المقام في باريس، فأصدر مجلة
"العروة الوثقى" في (14 جمادى الأولى 1301هـ –27 ذو الحجة 1301هـ) الموافق
(11 مارس 1884-17 أكتوبر 1884م) التي ركزت على :
أ. مقاومة الاستعمار
الغربي.
ب. الدعوة إلى الجهاد.
ج. أسباب تخلف المسلمين.
د. الوحدة السياسية.
برزت الدعوة إلى
الجامعة الإسلامية، بوصفها فكرة سياسية، في عهد من عهود التاريخ الإسلامي، وكان لها
سماتها الدولية وآثارها السياسية الفعالة، التي ترجع إلى السلطان عبدالحميد الثاني،
الذي أيقن أن الدولة العثمانية لا يمكن إنقاذها من تسلط الدول الغربية الاستعمارية
عليها ومطامعهم فيها، إلا بالرجوع إلى الدين، الذي يأمر بتوحيد المسلمين تحت ظل خليفتهم؛
فعمل على إحياء الجامعة الإسلامية، واسترداد ما كان لها في الماضي من الجلالة والهيبة.
وكان من آثار مناداته بهذه الفكرة، من خلال ما لمنصبه من موقع وتأثير لدى المسلمين،
أن توجّس الأوروبيون خيفة من ذلك، وأحسوا بخطر الفكرة على ما يخططون له ضد العثمانيين.
ومن أجل تحقيق سياسة
الجامعة الإسلامية، اتصل السلطان عبدالحميد بزعماء العالم الإسلامي والجماعات الإسلامية
في الداخل والخارج. وحاول إنشاء علاقات متينة معهم، مستنداً في ذلك على المبادىء الآتية:
أ. إن الوازع الديني
عند المسلمين هو الأساس في معركتهم ضد الاستعمار الغربي
.
ب. إن الوحدة الإسلامية
هي الطريق الوحيد لمقاومة الغزو الغربي.
ج. إدخال إصلاحات
إلى الدول الإسلامية في شتى الميادين، وبخاصة الثقافية والسياسية منها.
د. توطيد الموقف
الداخلي في مواجهة المعارضين لحكمه.
هـ. العمل على الحد
من نفوذ الدول الغربية في مستعمراتها.
وقد نجح السلطان
في سعيه نحو ربط المسلمين، الذين كانوا يعيشون تحت نير الاستعمار الغربي (مثل المسلمين
الهنود) بإستانبول من الناحية المعنوية، بل نجحت سياسته في الوصول إلى البلاد الأفريقية
والتوغل فيها، حتى أصبح اسمه يذكر ويدعى له على المنابر في الخطب. وقد ركز جهوده لتحقيق
ثلاثة أهداف، هي:
أ. الحفاظ على بقاء
الدولة العثمانية ودوامها.
ب. ضمان الوحدة المعنوية
للمسلمين.
ج. الحد من المد
الصليبي والاستعماري تجاه العالم الإسلامي. وقد اتخذ السلطان عبدالحميد لضمان الوحدة
المعنوية للمسلمين وسائل عدة. منها
:
(1) إنشاء معهد ديني لتخريج الدعاة.
(2) إنشاء معهد العشائر.
(3) إنشاء خط حديد الحجاز. وذلك بهدف تحقيق الآتي:
* تسهيل الحج وجعله في متناول الجميع.
* تقوية الحكم المركزي والقضاء على الثورات وتوطيد الأمن والاستقرار.
* تنمية الحياة الزراعية على طول خط السير، والاستفادة من الأراضي القاحلة،
ونقل المنتجات الزراعية، من مواقع زراعتها، إلى الأطراف البعيدة.
كان من أثر حنكة
السلطان السياسة أن كان أحد العوامل، التي ساعدت على بقاء الدولة ثلاثاً وثلاثين سنة
محفوظة من السقوط، إضافة إلى عدم وقوعها في حرب أو فقدانها لأرض. ومما فعله السلطان
أيضاً، في نطاق هذه السياسة، تودده إلى زعماء الأقليات الدينية والقومية، في محاولة
منه للحيلولة دون نمو نزعاتها الانفصالية. وبذلك تم له القضاء على جانب كبير من ثوراتها
وحركاتها. فعلى الصعيد العربي عين عدداً من مشاهير العرب، ممن كان لهم تأثير على أتباعهم،
أمثال خير الدين التونسي، وعزت باشا العابد، ونعوم باشا السورى، ومحمود شوكت باشا في
مختلف الوزارات وإدارات الدولة. كما قرر رفع معاشات موظفي الولايات العربية وبخاصة
الحجاز. وأمر بتصنيف الإحصاءات المتعلقة بالبلاد العربية في بداية السالنامة (وهي الكتب
السنوية التي كانت تصدر من وزارات الدولة وولاياتها والتي كانت تلخص أهم حوادث الدولة
العثمانية)، في الوقت الذي كان يبدأ، في عهود أسلافه، بولاية أدرنة.
وعلى الصعيد الإسلامي
الخارجي، أرسل عدداً من الوفود إلى مختلف الشعوب الإسلامية، خارج نطاق الدولة العثمانية،
لتقوية أواصر الأخوة الإسلامية، والوقوف ضد مخططات الاستعمار الغربي، وتأكيد الحرص
على الولاء للخلافة الإسلامية والارتباط بعاصمتها، وطاعة خليفة المسلمين. وقرب إليه
العلماء والمشايخ من مختلف البلاد والجماعات الإسلامية.
كما أنشأ السلطان،
على الصعيد العسكري، فيالق عسكرية ضخمة من الشعوب القاطنة تحت لوائها. وأعدها لصد أي
عدوان خارجي على الدولة العثمانية من أي من القوى المعادية. ومن ثم تركت سياسته للجامعة
الإسلامية أثراً جيداً في نفوس المسلمين، حتى انعكس ذلك على دعوات الزعماء الوطنيين،
والشعراء المحافظين، وعلى الأعلام التي ناصرت تلك السياسة في مختلف الأقطار الإسلامية.
وعلى الرغم من توجيه
بعض الاتهامات إلى السلطان عبدالحميد الثاني بأنه لم يكن مخلصاً للجامعة الإسلامية،
وأنه استغل دعوة جمال الدين الأفغاني لتعزيز مركزه وتأييد سلطانه، إلاّ أنه استطاع
نشر الدعوة إلى الجامعة الإسلامية في أوسع نطاقها، وإحياء الشعور بالوحدة العامة والتضامن
لدى جميع الشعوب الإسلامية، وكشف ما أظهرته الدول الغربية من عداء للمسلمين بأوضح صورة.
ولعل مشروع خط حديد الحجاز، الذي تم تنفيذه بأموال المسلمين، خير مثال على نجاح تلك
السياسة.
إرسال تعليق