المفهوم العلمي للثقافة
علمنا مما سبق أن فرنسا لم تكن تستخدم كلمة " ثقافة Culture " إلا بمعنى ضيق جدا ً ، وكانت تستخدم عوضا عنها كلمة " حضارة Civilisation " فكيف يمكن الحديث عن اختراع مفهوم علمي للثقافة في فرنسا ! .
لقد ظهر مفهوم الثقافة وبدأ يلمع نجمه في فرنسا بشكل تدريجي ، وكان الحديث الأبرز لظهور هذا المفهوم هو موجة الهجرة التي شهدتها البلاد في الثلث الأول من القرن التاسع عشر والذي وضع فرنسا أمام تعددية ثقافية لا يمكن تجاهلها وبالتالي حتم عليها أن تقوم بسياسة إدماجية لهؤلاء في نموذجها الثقافي المركزي ، ثم أعقب ذلك استقلال الإتنولوجيا عن علم الاجتماع حيث أصبحت لها أدواتها المفهومية الخاصة ومن بينها كلمة " ثقافة " .
الآن وبعد ظهور المصطلح بات من الممكن الحديث عن اختراع المفهوم العلمي للثقافة عن طريق :
1.   دوركايم والمقاربة الواحدية للوقائع الثقافية
ينبغي أن نعلم أن دوركايم كان عالم  اجتماع أكثر من كونه عالم أعراق ، ولم يكن يصرح باستخدامه لمفهوم " الثقافة " ليس لأنه لم يكن مهتما ً بالقضايا الثقافية ، بل لأنه كان يرى أن القضايا الاجتماعية تنطوي بالضرورة على بعد ثقافي ، حيث كان عمله منصبا ً على فهم الرابط أو العامل الاجتماعي في كل ابعاده ومظاهره بما في ذلك البعد الثقافي . إلى جانب ذلك كان يهوديا ً علمانيا ً ، لذا فقد تأثر بالنظرة المادية للوجود – والتي قال بها علماء سابقون – أو ما يعرف بـ " وحدة الوجود " [1] ، والتي قادته على أن يلغي الإله – تعالى الله عما يقولون – ويخلع صفاته وقدراته وحقه في التشريع على المجتمع ، فأصبح لديه ما يعرف بـ " العقل الجمعي " ، والذي يعني جعب المجتمع بمثابة السلطة العليا التي توجه سلوك الأفراد وتجبرهم على ذلك ، وكان يرى أنه – أي العقل الجمعي – هو الكفيل بتحقيق وحدة المجتمع وتجانسه . وقد كان ممن تأثر بالنظرية التطورية ، فلذلك وبناء على علمانيته فقدد طبق فكرة " العقل الجمعي " على الدين ،  فجعل الدين مجرد ظاهرة اجتماعية ، فإذا ما قال العقل الجمعي يوما ما بأنه يجب ألا يكون هنالك دين ، فإن الأفراد لا يملكون إلا الانصياع لذلك .
أما عن علاقة كل ذلك بنتاجه الثقافي ، فلا شك أن فرضيات العقل الجمعي مارست تأثيرا ً كبيرا  ًعلى نظرية الثقافة باعتبارها " هيئة عليا " قادرة على توجيه الأفراد للوجهة المطلوبة . 
2.لوسيان ليفي والمقاربة التفاضلية
إن الإتنولوجيا الفرنسية،  في بداياتها وعبر اثنين من مؤسسيها  كانت تتردد بين مفهومين للثقافة : الأول واحدي ( دوركايم )  ,الثاني تفاضلي  (لوسيان ليفي ) وقد بلغت المواجهة بين هذين المفهومين عبر مناقشات علمية أشدها ،  الأمر الذي ساهم كثيراً في تطوير الإتنولوجيا الفرنسية .
وضع ليفي قضية التباين الثقافي في مركز تفكيره.وتساءل عن الفروق القائمة بين "العقليات" التي يمكن أن تكون موجودة بين الشعوب والتي تفسر التباين الثقافي بينهم [ كأن ليفي يعيد أسباب التباين الثقافي إلى التباين العقلي ] ، وخلافاً لما عُرف عن أعماله فقد تبين أنها لم تكن تنبع من مركزية عرقية  .وقد أُلحقت بها هذه الصفة للتقليل من أهميتها ، لا سيما وأن هذه المحاولة منه لتفسير التباين الثقافي قد تناقضت مع مفهوم العالمية "المجردة" لعصر الأنوار ومع مبادئه الأخلاقية التي كانت تشكل إطاراً مرجعياً لأغلب المثقفين الفرنسيين في بداية القرن.



[1] مذهب لا ديني جوهره نفي الذات الإلهية عن طريق القول بأن الله – تعالى عما يقولون – والمادة شيء واحد ، وهو بلا شك وجه آخر من وجوه الإلحاد الذي يريد التعبير بشكل ملتوٍ عن القول بوجود المادة فقط .

Post a Comment

Previous Post Next Post