الفتوح العثمانية في أوربا
كانت الدولة البيزنطية، هي العدو الرئيسي للعثمانيين، وكانت تتحيَّن الفرص للإيقاع بهم. واتحد قيصر روسيا مع أهالي البندقية، الذين كانوا يهاجمون حدود الدولة العثمانية من جهة البحر في أغلب الأحيان. أصدر السلطان أورخان أمره لولده الأمير سليمان، بالاستعداد، والزحف إلى بلاد الرومَلي، وهي الجزء الأوروبي من الدولة البيزنطية. فجهز الجيوش، وتقدم بها، عام 757هـ (1357م)، حتى وصل إلى مضيق الدردنيل، وعبر إلى ساحل الروملي. واستولى على قلعة جناق (جناق قلعة) سنة 758هـ (1357م). وعُدّ ذلك العبور بداية التاريخ البحري للدولة العثمانية. وتوالت فتوحات الأمير سليمان بن أورخان وجنوده في بلاد الروملي، ونجح في إخضاع البلاد القريبة من غاليبولي.
وعلى الرغم من اهتمام الدول الأوروبية بهذا الفتح العثماني، ومراقبتها لتحركاته عن كثب، ومحاولتها مواجهة هذه القوة الجديدة، التي بلغت قواتها المحتشدة في غاليبولي عشرين ألف مقاتل؛ إلا أن تلك الدول بسبب النزاعات الداخلية بين دول البلقان، انصرفت عن اتخاذ إجراءات مناسبة. وقد اتبعت الدولة العثمانية في الأراضي المفتوحة حديثاً، سياسة التعامل بالحسنى مع الأهالي، ونقلت آلاف المسلمين من الأناضول إلى تلك المناطق.
اتسمت فترة حكم أورخان بأمرين:
أولهما: اتساع الفتوحات العثمانية في عهده.
ثانيهما: تنظيم الحكم في الدولة، بعد اتساع رقعتها. وقد ساعد هذا التنظيم على استقرار الدولة وتوسعها.
غير أن الوفاة المفاجئة، للأمير سليمان بن أورخان، عام 761هـ (1360م)، بعد أن حقق فتوحات كبيرة في البلقان، أثّرت على والده السلطان أورخان، فتوفي بعده بفترة وجيزة. وقد أدى ذلك إلى توقف حركة الفتوحات، مدّة من الزمن؛ إذ أن الدولة العثمانية فقدت قائداً باسلاً من قوادها، ثم فقدت سلطاناً قديراً في إدارة شؤون بلاده. وكان ذلك إيذاناً باستفادة الدول الأوروبية من هذا الوضع، واستعادة بعض المدن والقلاع التي استولى عليها العثمانيون.
3. فتح أدرنة
لما انتقل العثمانيون إلى البلقان، وفتحوا بعض أجزائها، أحسوا بالأهمية الإستراتيجية لمدينة أدرنة. فحاول السلطان مراد الأول، الذي انتقل إليه الحكم العثماني بعد والده ، السلطان أورخان، عام 761هـ (1360م)، الوصول إلى هذه المدينة. وقد تحقق له فتحها، عام 764هـ (1363م)، بعد عدة معارك، مستفيداً من التمزق السلافي في البلقان. غير أن السلطان مراداً لم يكتف بهذا الفتح، فاستولى على مدينتي: فليبة، وكمولجينة، وبعض المدن المجاورة، حتى يقطع خطوط الاتصال بين صرب مقدونيا، وبيزنطة، وبلغاريا. وعَمِل تدبيراً احتياطياً آخر بأن نقل عاصمة الدولة العثمانية من بورصا إلى أدرنة، عام 768هـ (1365م). وسرعان ما شهدت المدينة حركة عمرانية دؤوبة، تمثلت في بناء المساجد الجامعة، والمدارس، وتشييد المؤسسات الاجتماعية، والإدارات الحكومية، والمعاهد العسكرية.
وقد استهدف السلطان مراد من هذه النقلة:
أ. استغلال مناعة الاستحكامات الحربية للمدينة، وقربها من مسرح العمليات العسكرية.
ب. توطيد أقدام العثمانيين في قارة أوروبا.
ج. جعل المدينة مركزاً يجمع فيه أبناء النصارى لتجنيدهم، وذلك بفضل موقعها الجغرافي، وسط بلاد يدين أهلها بالنصرانية. وبموجب النصيحة، التي أسداها للسلطان كل من: قاضي الجيوش، في الدولة العثمانية، قره خليل جاندارلي، والشيخ (المُلاّ) رستم، فقد تقرر تحصيل 125 آقجة ، للدولة، عن كل أسير حرب، يقع في يد الجنود العثمانيين، أو أن يُضم خُمس الأسرى للتجنيد. وقد أُطلق على هذه الضريبة (رسمِ بنجيك)، أي الخُمُس.
ونظراً إلى اتساع نطاق الفتوحات، فقد أُنشأت، في الدولة، في ذلك العهد، وظيفة (قاضي عسكر)، وهي أعلى مرتبة دينية وعلمية في الدولة العثمانية، وتختص بالنظر في المسائل الشرعية لأفراد الجيش. ويرافق قاضي العسكر السلطان في غزواته. وقد عُين لهذا المنصب لأول مرة قاضي بورصة، قره خليل أفندي جاندارلي.
وفي الوقت الذي ازداد فيه النفوذ العثماني، وتوسعت رقعة أراضي الدولة، وانضمت الإمارات التركية إلى الدولة العثمانية، الواحدة تلو الأخرى، جهَّز الصرب حملة صليبية جديدة، بقيادة حاكم صربيا، لازار، ضد العثمانيين، شارك فيها كل من أمراء المجر، وبولونيا، ورومانيا، ومولدافيا، وبلغاريا. والتقى السلطان مراد الأول وابناه العدو، في صحراء كوسوفا، عام 792هـ (20 يونيه 1389م). ودارت المعركة حوالي ثماني ساعات، تغلب فيها العثمانيون على خصومهم. وبعد انتهاء المعركة، وبينما كان السلطان يتفقد ميدان القتال، اقترب منه أمير صربي جريح، بحجة أن لديه ما يعرضه عليه، وطعنه بخنجر في بطنه، فمات السلطان مراد الأول على الفور. وانتقلت سدة الحكم إلى ابنه بايزيد، الذي توجه إلى بورصة، ومعه جثمان والده، فدفنه بها.
أدخل انتصار قوصوه( أو كوسوفا) الساحق البلقان تحت الحكم العثماني الإسلامي، لمدة خمسمائة سنة. وقد بلغت مساحة الدولة العثمانية، عند وفاة السلطان مراد، 500.000 كم2 تقريباً (291.000 كم2 في البلقان، و 208.000 كم2 في الأناضول). وبذلك تضاعفت مساحة الدولة، التي خلفها السلطان أورخان، خمسة أضعاف، خلال 27 سنة.
وكان من أهم نتائج معركة كوسوفا ما يلي:
أ. انتشار الإسلام بين الصرب.
ب. دخول بلاد الصرب تحت السيطرة العثمانية، حتى القرن التاسع عشر الميلادي.
4. معركة أنقرة مع التتار
تولى السلطان بايزيد الأول الحكم، بعد استشهاد والده، عام 792هـ (1388م). وكان متحمساً لمواصلة الفتوحات التي بدأها والده، فقضى على آخر إمارة بيزنطية في الأناضول، وهي مدينة آلا شهر. كما اكتسح بلغاريا عام 797هـ (1393م)، مما أدى إلى تكتل الدول الأوروبية المسيحية في وجهه في حملة صليبية، غير أنه استطاع أن يصدها، وأن يخضع البلاد البلقانية للدولة العثمانية، ويوطد أقدام العثمانيين في البلقان. إلاّ أن إغارات القائد التتري تيمورلنك، على أراضي الدولة العثمانية، في تلك الفترة، حوَّلت أنظار السلطان بايزيد إلى الدفاع عن الأناضول، بدلاً من التوسع في أوروبا، فاستعد السلطان لملاقاة تيمورلنك، وجمع رجاله، وتوجه بهم نحو أنقرة، حيث نصب معسكره قريباً منها. ولما استعد الطرفان للقتال، انحاز جنود ولايات آيدين، ومنتشة، وصاروخان، وعددهم خمسون ألفاً، إلى جانب تيمورلنك، لوجود أمرائهم الأصليين، الذين استولى العثمانيون على بلادهم، في معيته؛ فضعفت بذلك قوة العثمانيين، ووقع الخلل في صفوفهم، ولم يبق لهم إلاّ الإنكشارية، وعددهم عشرة آلاف. ولما اشتعلت نيران الحرب، انهزم العثمانيون هزيمة نكراء، ووقع السلطان بايزيد مع ابنه أسيرين، في يد تيمورلنك، فأهانهما إهانة بالغة. وكانت تلك الهزيمة والإهانة، سبباً في تراكم الهموم على السلطان بايزيد، فأصابه مرض توفي به في عام 806هـ (1403م).
يقول المؤرخ أحمد جودت باشا: كان ذلك القرن هو الدور الأول للدولة العثمانية. فإنها في تلك المدة، أي في ظرف مائة سنة، عظم أمرها، وقويت أركانها، وصارت دولة عظيمة بعد أن كانت إمارة صغيرة.

Post a Comment

أحدث أقدم