الارتباط الوثيق بين العقيدة والعبادة والأخلاق:
ولا شك أن كل من يقف على الآيات والأحاديث المتقدمة يدرك يقينا أن الجانب الأخلاقي له مكانته الكبرى في ميزان الله ؛ وأنه أصيل وجوهري في بنيان هذا الدين، وأنه لا يمكن تصور انفصام الصلة بين الأخلاق وبين سائر جوانب الدين الأخرى سواء أكانت عقيدة أو شريعة أو دعوة إلى دين الله تعالى.
أ- ففي جانب العقائد نجد التلازم التام بينها وبين الأخلاق حتى صار غيابها أو ضغفها مؤذنا بضعف الإيمان أو نقصانه كما قال ^: «لا إيمان لمن لا أمانة له»([310]) وقال: «من غشنا فليس منا»([311]) وبين ^ الاقتران الشديد بين الإيمان والحياء فقال: «الحياء والإيمان قرنا جميعا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر»([312]) وأخبر ^ أن سيئ الخلق مع جيرانه لا يدخل الجنة فقال: «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه»([313]).
ويظهر لنا مدى هذه العلاقة الوثيقة بين العقيدة والأخلاق إذا علمنا أن الإيمان بالله ربا وخالقا وإلها، ومعرفته بأسمائه الحسنى كالعليم والخبير والرقيب والحسيب والحفيظ والمحيط، يوجب على العبد مراقبة الله وخشيته والحياء منه، والتحلي بمحاسن الأخلاق واجتناب رذائلها.
والإيمان بالملائكة وكتابتهم لأعمال العبد، يقتضي الحياء من الإتيان بما لا يليق بهؤلاء الكرام البررة، والإيمان باليوم الآخر يرسخ في قلب العبد أن هناك جزاء وحسابا، وأنه من الممتنع أن يكون المسلمون كالمجرمين، كذلك تدل آيات القرآن بوضوح على أن تزكية النفوس أمر مسلم للرسل، وأنه من أعظم وظائفهم بعد غرس التوحيد في النفوس، وقد بعثهم الله لهذه التزكية، وولاهم إياها، وجعلها على أيديهم دعوة وتعليما، وبيانا وإرشادا(
وقد جمع الله لنبيه ^ مكارم الأخلاق وأصولها في قوله تعالى: ??  ?    ?   ?  ?  چ  چ? [الأعراف: 199] ومدح الله رسوله ^ أعظم مدح وأبلغه بقوله: ??  ?     ?  ں? [القلم: 4].
ب- وفي جانب العبادات والمعاملات نجد أنه ما من عبادة يتقرب بها إلى الله إلا وزينت واقترنت بأخلاق فاضلة، ونهي فيها عن أخلاق مرذولة، وكذلك الحال في المعاملات والعادات.
وقال النبي ^: «الصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم»([316]) وقال ^: «من لم يدع قول الزور، والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»([317])
وفي كلمة جامعة تعم كل معاملة، أمر ^ بالإحسان في كل شيء، حتى فيما يتصور البعض أنه لا موضع له، وهو ذبح الحيوان ليأكل، فقال ^: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته»([320]).
ج- وفي جانب الدعوة إلى الله تعالى يلحظ المطالع لسيرة النبي ^ أن حسن خلقه وكريم خصاله كان له تأثير كبير في نفوس المدعوين كما كان سببا في إسلام عدد كبير من الصحابة الأوائل الذين عرفوا النبي ^ عن قرب قبل البعثة وخبروا أخلاقه وأيقنوا استحالة أن يدع الكذب على الخلق ثم يكذب على الخالق سبحانه وتعالى.
ولعل في موقف خديجة رضي الله عنها حينما نزل جبريل على النبي ^ في غار حراء أول مرة نموذجا واضحا في هذا الصدد فقد رجع ^ إليها: «يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق»([321]).
ولا شك أنه قد رسخ في يقين خديجة رضي الله عنها استحالة أن يخزي الله رجلا كالنبي ^، له مثل هذه الخصال والشمائل واستدلت على: «ما أقسمت عليه من نفي ذلك أبدا بأمر استقرائي، وصفته بأصول مكارم الأخلاق , لأن الإحسان إما إلى الأقارب أو إلى الأجانب وإما بالبدن أو بالمال , وإما على من يستقل بأمره أو من لا يستقل , وذلك كله مجموع فيما وصفته به»([322]).
وكلما كان للداعية رصيد طيب من حسن الخلق عند الناس كلما كان ذلك أدعى لقبول دعوته وتصديق الناس له، ومما يشهد لذلك ما حدث في أول الإسلام حينما انتقل ^ من مرحلة الدعوة السرية إلى الدعوة الجهرية ونزل عليه قوله تعالى: ??  ?  ?? [الشعراء:26] صعد النبي ^ على الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي لبطون قريش، حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي ؟ قالوا نعم ما جربنا عليك إلا صدقا، قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد»([323]).
وخلاصة ما سبق كله هو أن من نظر نظرة متأملة ومستقصية في القرآن والسنة فسوف يجد أن الأخلاق تسري في كل جوانب هذا الدين عقيدة وشريعة ودعوة ونظام حياة، وأنه لا يتصور وجود مؤمن صحيح العقيدة ومؤد للعبادات على وجهها التام والكامل ثم هو مع ذلك سيء الأخلاق، وخال من الاتصاف بجميل الشيم وكريم الخصال.

Post a Comment

أحدث أقدم