مكافحة الظاهرة الإجرامية والحد
منها
مكافحة الظاهرة الإجرامية والحد
منها الهدف الأسمى الذي يرمي إليه كافة المهتمين بتلك الظاهرة ، وبلوغ تلك الغاية
أو الفشل فيه مقياس على مدى نجاح السياسة الجنائية المتبعة داخل
المجتمع.
وللسياسة الجنائية - بحسبانها
العلم الذي يهدف إلى - مراتب تبدأ بالمستوى القاعدي المتعلق بشق التجريم من
القاعدة الجنائية ، فتبحث في مدى تلائم التجريم المقرر من قبل المشرع الداخلي مع
قيم وعادات المجتمع ، ومدى الحاجة إلى هذا التجريم في الفترة المقرر فيها
، حيث تتباين المجتمعات في هذا
بحسب مستواها من التطور الاجتماعى والخلقى والروحي. وكذلك تبحث في طبيعة
الوقائع المجرمة لتحديد أى الوقائع يجب أن تظل مجرمة ، وأيها يجب إباحته ، وأيها يجب أن يصبغ عليها وصف
التجريم[1].
وتنتقل السياسة الجنائية إلى الشق الجزائي من القاعدة الجنائية ، كي تقيم
العقوبات المقررة وحالات التخفيف والتشديد والإعفاء وسبل التفريد التشريعي المقررة
في مدونة العقوبات[2]. ثم تنتهي السياسة الجنائية إلى
مرتبتها الثالثة المتعلقة بتحديد أساليب المعاملة العقابية حال التنفيذ الفعلي
للجزاء الجنائي داخل المؤسسات العقابية ، خاصة ما يتعلق بالتفريد التنفيذي للعقوبة
والتدابير الجنائية ، وكفالة إتباع أسلوب علمي في تنفيذ الجزاء على المجرم بما
يضمن تأهيله وإصلاحه وتهذيبه وإعادة اندماجه في المجتمع مرة أخرى.
وعلى ذلك فإن هدف السياسة
الجنائية لا يقتصر على الحصول على أفضل صياغة لقواعد قانون العقوبات وإنما يمتد
إلى إرشاد القاضي الذي يضطلع بتطبيق هذه الأخيرة وإلى الإدارة العقابية المكلفة
بتطبيق ما قد يحكم به القاضي[3]. وهذا الشق الأخير للسياسة
الجنائية - والمسمى بالسياسة العقابية - هو الذي يضمه علم العقاب موضوع
هذا الكتاب ، والذي يرمي بالتالي إلى الوقوف على الكيفية التي
ينبغي بها مواجهة الظاهرة الإجرامية في مرحلة التنفيذ العقابي ، بما يكفل تحقيق أهداف المجتمع في
منع الجريمة أو تقليصها إلى أبعد مدى[4]. فكأن علم العقاب علم يسلم بحقيقة
الظاهرة الإجرامية ، ويتلقفها بالدراسة والتحليل في أعقاب وقوع الجريمة وثبوتها
على جان أو أكثر ، ثم يبدأ التعامل معها في مرحلة تنفيذ الجزاء الجنائي كي يباعد
بين الجاني - وكذا بقية أفراد المجتمع - وبين تكرار وقوعها. من هنا تظهر أهمية دراسات علم
العقاب حيث يتوقف على هذا العلم نجاح المجتمع في مواجهة الظاهرة الإجرامية[5]. وكان لزامًا علينا والحال كذلك
أن نكشف في مهد مؤلفنا عن بعض الأوليات والعموميات حول الحق في
العقاب التي تعين على إدراك مبادئ هذا
العلم وتفهم مشكلة الجزاء الجنائي ، كل ذلك من خلال الباب التمهيدي من هذه الدراسة.
ومن الحقائق الثابتة أن أي علم من
العلوم ، طبيعياً كان أم إنسانياً ، ينمو ويتطور بقدر نمو وتطور موضوع هذا العلم
والمحل الذي يعني بدراسته. وإذا كانت العقوبة قديماً ، بحسبانها نوعاُ من الألم
يعادل ويكافئ ما قد وقع من جرم ، هي الصورة الأولى للجزاء الجنائي إلا أنه سرعان
ما تبين أن هذا النمط يظل قاصراً عن تحقيق أغراض المجتمع من توقيع العقاب والمتمثل
في منع ومكافحة الجريمة ، لذا فقد كشف التطور عن نمط آخر من أنماط الجزاء الجنائي
ألا وهو التدابير ، سواء أكانت وقائية أو عقابية أم علاجية ، والتي ظهرت
أواخر القرن التاسع عشر على يد المدرسة الوضعية الإيطالية حين قالت
بفكرة
الخطورة الإجرامية. فكأن هناك تطوراً قد أصاب ما يمكن أن
نطلق عليه صور رد الفعل العقابي ، وهو
ما سوف نوضحه من خلال الباب الثاني من المؤلف.
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن نجاح
سياسة المكافحة للظاهرة الإجرامية على مستوى التنفيذ العقابي يتوقف في نهاية الأمر
على أساليب وطرق المعاملة العقابية المتبعة داخل وخارج المؤسسة العقابية وقدرتها
على إعادة تأهيل المجرم وتحقيق كلاً من الردع العام والخاص والحد من معدلات الجريمة في المجتمع.
من هنا فقد خصصنا الباب الثالث والأخير من هذا المؤلف لبيان الكيفية
التي يتم بها اقتضاء الحق في العقاب ، أي بيان أساليب المعاملة العقابية ، سواء أكانت داخلية كالتصنيف
والرعاية الصحية والاجتماعية والعمل ، أو خارجية كالوضع تحت الاختبار وإيقاف
التنفيذ والإفراج الشرطي والعمل للمصلحة العامة والرعاية اللاحقة.
بيد أن التطور الذي
أصاب نوع
العقاب وأساليب المعاملة العقابية (صور رد الفعل العقابي وكيفية
اقتضاء الحق في العقاب) ما كان ليتم لولا التطور الذي طرأ
على فلسفة
وأساس حق العقاب ذاته ؛ هذا التطور الذي نجم عن تبدل وتنوع المدارس الفكرية في
مجال الدراسات الجنائية
.
[1] في هذا المعنى د. يسر أنور علي و د. آمال عثمان ، أصول علمي الإجرام
والعقاب ، ج1 ، علم العقاب ، دار النهضة العربية ، 1993، ص295 ، د. رءوف عبيد ،
أصول علمي الإجرام والعقاب ، ط4 ، 1977 ، الكتاب الثاني ، ص 450 ،
د. محمد عيد الغريب ، أصول علم العقاب ، 1999 – 2000 ، ص 13.
[2] يؤكد البعض أن للسياسة الجنائية دور في مجال إجراءات الخصومة
الجنائية ، الأمر الذي تأكد في سنوات الماضي
وبعد الثورة العلمية ، التي دعت إلى ضرورة البحث في العوامل الدافعة للسلوك
الإجرامي وتباعد بين الفرد وتكيفه مع الوسط الاجتماعي فتجعله مناهضاً للمجتمع Antisocial. وذلك من أجل تحديد أنسب السبل للإعادة الفرد إلى حظيرة
المجتمع وجعله عضواً نافعاً فيه. ويظهر دور السياسة الجنائية
جلياً في هذه المرحلة من خلال تحديد بعض الإجراءات الخاصة التي يلزم إتباعها مع
فئات معينة من المجرمين ، كما هو الشأن في مجال الأحداث والمجرمين الشواذ
والمجرمين السياسيين والإجرام الناشئ عن اعتناق مذاهب فكرية معينة Criminalité sectaire . راجع في ذات المعنى ، د.يسر أنور علي و د.
آمال عثمان ، المرجع السابق ، ص295– 296.
[3] د. أحمد شوقي أبو خطوة ، أصول علمي الإجرام والعقاب ، 2001 – 2002
، الكتاب الثاني ، علم العقاب ، ص 297 ؛ د. محمد عيد الغريب ، المرجع
السابق ، ص 14.
G.
Levasseur, G. Stéfani et R. Jambu-Merlin, Criminologie et science
pénitentiaire, Précis Dalloz, 4ème éd. 1980, p. 1 et s ; B.
Bouloc, Pénologie, Précis Dalloz, 1991, n°1, p. 1 et s.
Post a Comment