1-                  علم العقاب وموضعه من القانون الجنائي :
     إذا أردنا أن نتخير من شتات التعريفات التي قيلت بشأن علم العقاب فإننا يمكننا أن نوجز الأمر بقولنا أنه العلم "الذي يعكف على دراسة الحق في العقاب فيبحث في أسسه ويبين القواعد الخاصة بتنظيم الجزاء الجنائي (رد الفعل العقابي) وسبل اقتضاء هذا الحق على النحو الذي يكون من شأنه أن يحقق الجزاء الجنائي أغراضه حال التنفيذ الفعلي داخل المؤسسة العقابية[1]". وأول ما يستلفت نظرنا في هذا التعريف هو أن علم العقاب يظهر في ثوب علم المكافحة اللاحق ، أي ذلك الذي لا تظهر قواعده إلا بعد وقوع الجريمة بالفعل[2].

على أنه لا ينبغي أن نفهم أن علم العقاب هو مجرد شرح لنصوص القانون الوضعي في معاملة المجرمين ، إنما هو علم كلي مجرد يهدف إلى استخلاص القواعد العامة والكلية التي تحكم تنفيذ الجزاء الجنائي كي يحقق الأغراض التي ترسمها له مصلحة المجتمع في مواجهة الظاهرة الإجرامية. وبالتالي فإن دراسات علم العقاب تهدف بالدرجة الأولى إلى توجيه المشرع في اختيار أفضل القواعد والأحكام التي يجب أن يراعيها في تنظيم الجزاء الجنائي وطرق تنفيذه[3]. ومن ثم يظهر لنا أن موضع علم العقاب من القانون الجنائي هو الجزء المتعلق بشق الجزاء من القاعدة الجنائية.

فالمعلوم أن قواعد قانون العقوبات لها شقين ، الأول منها يتعلق بشق التكليف ، أي الشق الذي يحدد صور السلوك الأفعال المحظورة. وهذا الشق يحكمه ما يسمى مبدأ الشرعية الجنائية (م5 عقوبات ، م 66 من الدستور المصري) القائل بأن لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون ، وبمعنى أخر أنه لا يعد سلوكاً ما جريمة ما لم يكن هذا السلوك محظوراً صراحاً بنص القانون عند ارتكابه ، إذ لا رجعية لنصوص قانون العقوبات. والهدف من تلك القاعدة هو تحقيق الاستقرار في العلاقات الاجتماعية ، كي لا يعاقب الأفراد على أفعال هي مباحة لحظة القيام بها لمجرد أن تشريعاً ما اعتبرها جرماً في أعقاب وقوعها[4].

أما الشق الثاني من أقسام القاعدة الجنائية فهو شق الجزاء ، أي الشق الذي يحدد الآثار القانونية المترتبة على مخالفة الأوامر والنواهي الواردة في شق التكليف ، أي أنه رد الفعل تجاه الخروج على أحكام قانون العقوبات. وهذا الشق قديم قدم الجريمة ، وإن تنوع رد الفعل تجاه الجريمة بتطور المجتمعات ، حيث انتقل هذا الشق من صورة الانتقام الفردي والجماعي في المجتمعات القبلية في صورة اعتداءات مستمرة من قبل المجني عليه أو عشيرته. إلى أن وصلنا إلى صورة أكثر تهذيباً توكل أمر تنظيم رد الفعل تجاه الجريمة إلى يد سلطة عليا ، أخذت في العصر الحديث شكل الدولة ، وبدأت بالتالي معالم علم العقاب وعلم السياسة العقابية من أجل التنظيم الفعال الذي يجمع بين وجوب مكافحة الجريمة وبين إعادة تأهيل الجاني مرة أخرى ليصبح عضواً نافعاً في المجتمع.

واتصال علم العقاب بشق الجزاء من القاعدة الجنائية يفرض عليه من أجل مكافحة الظاهرة الإجرامية القيام بتفعيل الجزاء الجنائي في مرحلة الاختيار ، وكذا تفعيل أغراض الجزاء الجنائي والمعاملة العقابية  ،



     إذا كان يمكن تعريف القانون بأنه مجموعة القواعد القانونية التي لها صفة الإلزام والتي تقرها الجماعة الإنسانية في مجتمع ما من المجتمعات من أجل تنظيم العلاقات والمبادلات والظواهر التي تسوده ، فإننا بهذا ندرك أن القانون هو أمر قديم قدم المجتمع الإنساني ذاته. فتلاحم الجماعة الإنسانية يؤدي وبالضرورة إلى نشوء علاقات متبادلة بعضها قد يتوافق وبعضها قد يتنافر بحكم توافق وتنافر الرغبات والمصالح ، مما يوجب في النهاية وضع إطار تنظيمي يضمن منع العدوان واستقرار الحقوق لأصحابها. وبالجملة فإن القانون والمجتمع وجهان لعملة واحدة يتواجدان سوياً ولا غنى لأحدهم عن الآخر[1].

وبقدر تنوع العلاقات والمعاملات فإن القواعد القانونية الحاكمة لها تتنوع ، الأمر الذي يؤدي إلى نشوء ما نسميه الأفرع القانونية. فمن القواعد ما يهدف إلى تنظيم العلاقات المالية التجارية بين الأفراد كالقانون المدني والتجاري ، ومن القواعد ما يهدف إلى تنظيم علاقات الأفراد بالسلطة أو تلك الأخيرة بغيرها من السلطات داخل المجتمع كالقانون الإداري أو القانون العام ، ومن القواعد ما يهدف إلى تنظيم الإطار الأمني الذي تتحرك فيه كافة العلاقات السابقة من أجل درء أي عدوان أو عصيان أو خرق يقع على النظام الذي ارتضاه المجتمع ، وتلك هي رسالة القانون الجنائي.

فالقانون الجنائي يهدف إلى تحقيق الأمن في المجتمع عن طريق وضع القواعد التجريمية التي تحظر أنماط السلوك التي من شأنها أن تهدد المجتمع بالضرر أو تعرض أمنه للخطر، مع تفريد الجزاء المناسب والمكافئ لما وقع من اعتداء.


[1] في هذا المعنى د. محمد زكي أبو عامر ، المرجع السابق ، ص 287.




[1] راجع حول تعريف علم العقاب د. محمود نجيب حسني ، دروس في علم الإجرام والعقاب ، دار النهضة العربية ، 1982 ، ص 215 ، د. أحمد عوض بلال ، علم العقاب (النظرية العامة والتطبيقات) ، ط1، دار الثقافة العربية ، 1984 ، ص6. د. أحمد شوقي أبو خطوة ، أصول علمي الإجرام والعقاب، 2001 – 2002 ، ص 299 ، د. محمد عيد الغريب ، أصول علم العقاب ، 1999 – 2000 ، ص5 ، د. جلال ثروت ، الظاهرة الإجرامية ، دراسة في علم العقاب ، 1987 ، ص 44 ، د. فوزية عبد الستار ، مبادئ علم الإجرام وعلم العقاب ، ط 5 ، دار النهضة العربية 1985 ، رقم 242 ، ص 209 ، د. يسر أنور علي ود. آمال عثمان ، المرجع السابق ،  ص296.
[2] د. رءوف عبيد ، المرجع السابق ، ص 451.
[3] د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص 300.
[4] د. محمد زكي أبو عامر ، المرجع السابق ، ص 260. وفي هذا مغايرة بين قواعد القانون الجنائي عن أفرع القانون الأخرى - خاصة القانون المدني - حيث يفرض على القاضي المدني البحث عن الحل القانوني لكل نزاع ولو لم يوجد نص قانون. إذ تلزمه القواعد القانونية بالبحث وتلمس الحل في العرف أو مبادئ الشريعة الإسلامية أو مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة (م 1/1 مدني) ، وهي أمور تخرج عن إطار القانون الجنائي الذي لا يعرف فكرة القياس في التجريم كأحد نتائج مبدأ الشرعية. راجع حول مبدأ الشرعية الجنائية ، د. عبد الأحد جمال الدين ، المبادئ الرئيسية للقانون الجنائي ، ج1 ، النظرية العامة للجريمة ، ط5 ، 1997 ، ص70 وما بعدها ،  د. أحمد شوقي أبو خطوة ، شرح الأحكام العامة لقانون العقوبات ، دار النهضة العربية ، 2002 ، ص 31 وما بعدها ، د. محمود نجيب حسني ، شرح قانون العقوبات ، القسم العام ، دار النهضة العربية ط 1977 ، ص 77 وما بعدها ؛ ولذات المؤلف ، الدستور والقانون الجنائي ، دار النهضة العربية ، 1992 ، ص11 وما بعدها ، د. محمد عيد الغريب ، شرح قانون العقوبات القسم العام ، 2001 – 2002 ، ص 33 وما بعدها ، د. محمود مصطفي ، شرح قانون العقوبات ، القسم العام ، 1983 ، ص63 وما بعدها ، د. فوزية عبد الستار ، شرح قانون العقوبات ، القسم العام ، دار النهضة العربية ، 1987 ، 54 وما بعدها.
 R. Merle et A. Vitu, Traité de droit criminel, T. II, Cujas, Paris, 1979, p. 214 et s.  

Post a Comment

Previous Post Next Post