فلسفة الحق في العقاب في المجتمعات القديمة
     لقد ارتبط ظهور العقوبة بظهور الجريمة ذاتها ، الأمر الذي يمكن معه القول بأن العقوبة لصيقة بالإنسانية.  ولما كان نظام العقاب يرتبط في حقيقته بمشكلة الحرية والسلطة ، ولا يمكن الفصل بين الأمرين ، بحسبان أن وجود سلطة ذات سيادة أمر لازم لممارسة الحق في العقاب ، لذا ففي المراحل الأولى للإنسانية ارتبطت فكرة العقوبة بفكرة الانتقام من الجاني مرتكب الجريمة. الانتقام الذي بدأ أولاً بمرحلة الانتقام الفردي دون تدخل من الجماعة (القبيلة أو العشيرة) ، ثم انتقل إلى الانتقام ذو الطابع العام الذي تتولاه السلطة السياسية ضد الخارجين على مصالح الجماعة.

ولقد اصطبغت العقوبة في نهايات تلك الفترة بالطابع الديني على اثر ظهور المسيحية والفكر الكنسي ، فظهرت فكرة العقاب بهدف التفكير. وفي مرحلة لاحقه أضيف إلى العقوبة هدف جديد هو هدف الردع ، والذي يعني الرغبة في منع وتحذير الكافة من الإقدام على ارتكاب الجريمة في المستقبل. ويشمل هذا كلاً من الجاني ذاته ، وهذا هو مضمون الردع الخاص ، ويشمل بقية أفراد الجماعة ، وهذا هو مضمون الردع العام.

على هذا النحو فإننا سوف نقسم هذا الفصل المتعلق ببيان فلسفة العقاب في المجتمعات القديمة إلى مبحثين يبينان المراحل التي مر بها الحق في العقاب في الفكر القديم.
 


مراحل الانتقام التأري والانتقام المتعادل
     يمكننا التمييز بين مرحلتين ، الأولى مرحلة الانتقام الثأري والثانية مرحلة الانتقام المتعادل.

1-                  أولاً : مرحلة الانتقام الثأري :
     في العصور القديمة لم تكن الدولة قد ظهرت كتنظيم سياسي وككيان على النحو المعروف في زماننا هذا. لذا فكان أساس الحق في العقاب يغلب عليه طابع الانتقام ، حيث لا توجد سلطة عليا تمارس هذا الحق. فقد ترك لكل فرد الحق في دفع الأذى والضرر الواقع عليه بنفسه انتقاماً وثأراً من الجاني ، بغض النظر عما إذا كان العدوان مقصوداً أم لا[1]. فالفرد كان ينظر إلى الجريمة على أنها شر يجب أن يرد عليه بشر مثله. لذا فلا عجب أن يسود في تلك المرحلة الثأر بحسبانه الأذى المقابل للضرر الناشئ عن الجريمة[2].

وتختلف صور رد الفعل الانتقامي بحسب ما إذا كان الجاني ينتمي إلى ذات الجماعة أم ينتمي إلى جماعة أخرى. ففي الحالة الأولى كان العقاب يأخذ طابع التأديب الذي قد يصل إلى حد قتل الجاني أو طرده من الجماعة. وهذا العقاب كان يوقعه الزعيم أو السيد ، الذي كان له سلطة الحياة والموت على كل رعاياه. وهي سلطة تنتمي في حقيقتها إلى سلطة الأبوة أكثر مما تنتمي إلى معنى السلطة السياسية المعروفة في وقتنا الحالي[3].

أما في الحالة الثانية ، حيث ينتمي الجاني إلى جماعة أخرى (أسرة أو قبيلة أو عشيرة) ، وحيث لا توجد سلطة عليا يخضع لها كل من الجاني والمجني عليه ، فكان من الطبيعي أن يأخذ الحق في العقاب صور الانتقام الشامل على هيئة حرب بين الجماعتين ، حيث تهب الجماعة لنصرة المجني عليه والانتقام من الجاني وأفراد جماعته. وكان من الطبيعي والحال كذلك أن يكون الانتقام والثأر مبالغ فيهما ولا يوجد بينهما وبين الضرر الناشئ عن الجريمة أي تتناسب ، لاسيما وأن هذا التجاوز ذاته لم يكن معاقباً عليه[4]. فلم يكن يوجد حائل أو مانع - قانوني أو أدبي - يحول بين المجني عليه وأفراد جماعته وبين المبالغة في العقاب. وقد يفسر هذا التجاوز في تلك المرحلة البدائية أن الجريمة كان ينظر في جزء منها على أنها إساءة للقوى الإلهية وانتهاك للأمر أو نهي ديني ، وكان ينظر للعقاب الشديد والجسيم والمتجاوز على أنه محاولة للاستبقاء رضاء الآلهة[5].

2-                  ثانياً : مرحلة الانتقام المتعادل :
     مع انتقال الجماعة الإنسانية إلى طور جديد من حياتها وزيادة نفوذ وهيمنة السلطة العامة في الجماعة ، بدأت المراحل الأولى لوضع القيود للحد من الانتقام الثأري والمتجاوز ، بحيث يكون العقاب متعادلاً ومتوازناً مع الضرر الناشئ عن الجريمة.

وكانت أولى الصور لتحقيق هذا التعادل ظهور مبدأ القصاص Loi du talion أو ما يسمى بشريعة المثل ، ليكون العقاب مماثلاً للجريمة كماً وكيفاً. فظهر ما نطلق عليه في لغتنا العامية "العين بالعين والسن بالسن" فالقاتل يقتل ، والضارب يعاقب بالضرب ، وشاهد الزور يقطع لسانه ، والسارق تقطع يده وهكذا. وقد ظهر هذا المبدأ لدى غالبية الشعوب الشرقية القديمة وفي تشريعاتها ، كشريعة بابل - وأشهرها قانون حمورابي في القرن السابع عشر قبل الميلاد - والقانون الموسوي وقانون مانو الهندي في عام 1200 قبل الميلاد وكذلك في القانون الفرعوني القديم[6].

وللقصاص في الشريعة الإسلامية مكانته كركن من أركان سياستها العقابية ، وذلك بسند من القرآن الكريم لقوله تعالى "النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص"[7]. وأيضا قوله سبحانه "الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى"[8].

ومن بين الصور التي أمكن من خلالها تحقيق هذا الانتقام المتعادل النظام المعروف باسم الدية Régime de composition ، والذي عرفته على وجه الخصوص في ذلك الوقت روما القديمة من خلال قانون الألواح الإثنى عشر[9].
والدية عبارة عن مبلغ من المال يتقاضاه المجني عليه أو عشيرته في مقابل تنازلها عن الثأر أو القصاص. فالدية تنطوي في واقع الأمر على مقابل ثمن حياة المعتدي الذي يكون تحت سيطرة المجني علية أو عشيرته[10].

وكانت الدية في مراحلها الأولى اختيارية ، كثمن للصلح لا يمكن إقراره إلا عن طريق التراضي واتفاق الجاني والمجني عليه أو عشيرته. وكانت تتسم الدية الاختيارية بالمغالاة في التقدير إشباعا لغريزة الانتقام. ثم تحولت هذه الدية ، ومع تطور السلطة في الجماعة وازدياد نفوذها ، إلى ما يعرف بالدية الإجبارية Composition obligatoire ، وهي مقادير محددة من واقع العرف لكل جريمة يلتزم المعتدي بأدائها ، كما يلتزم المجني عليه بقبولها ، الأمر الذي استتبع بالطبع استقطاع مبلغ من هذه الدية كي يؤول إلى السلطة مقابل تدخلها للإقرار الأمن. وتطور الدية على هذا النحو جعل منها في النهاية عقوبة بالمعنى العام ، أي الجزاء الذي توقعه السلطة العامة على كل من يخرج على قواعد وأعراف الجماعة ويهدد نظام الأمن فيها[11]. وبهذا المعنى الأخير أخذت الشريعة الإسلامية إذ أجازت للمجني عليه أو لولي الدم أن يتنازل عن حقه في القصاص مقابل الدية المقررة شرعاً[12].

غير أنه يجب التأكيد على أن هذه الحدود الرامية لجعل الانتقام متعادلاً مع الجريمة اقتصرت في غالب الأحيان على حالة ما إذا كان المجرم منتمياً لذات الجماعة ، أما في الفرد العكسي ، ففي الغالب لم يكن ليفلح نظام القصاص أو الدية ، وعادة ما تنشأ الحروب فيتحول الانتقام من الطابع الفردي إلى الانتقام الجماعي أو العام[13].



[1] د. حسن عبد الرحمن قدوس ، الحق في التعويض ، مقتضيات الغائية ومظاهر التطور المعاصر في النظم الوضعية ، دار النهضة العربية ، ط1 ، 1998 ، ص26 وما بعدها ، د. أحمد أبو زيد ، العقوبة في القانون البدائي "مثال من أفريقيا" ، المجلة الجنائية القومية ، نوفمبر 1967 ، ص420 وما بعدها  ، د. عبد الفتاح الصيفي ، الجزاء الجنائي ، دراسة تاريخية وفلسفية وفقهية ، الإسكندرية 1972 ، ص9 وما بعدها ، د. جلال ثروت ، الظاهرة الإجرامية ، دراسة في علم العقاب ، 1987 ، ص52 وما بعدها.
R. Schmelck et G. Picca, Pénologie et droit pénitentiaire, Cujas, Paris, 1967, p. 50 et s.
[2] د. محمد زكي أبو عامر ، المرجع السابق ، ص 325 – 326.
[3] د. محمد عبد الغريب ، المرجع السابق ، ص25 ، د. فتحي المرصفاوي ، تاريخ النظم الاجتماعية و القانونية ، دار النهضة العربية ، 1986 ، ص51 – 52.
[4] في ذات المعنى د. محمد إبراهيم دسوقي ، تقدير التعويض بين الخطأ والضرر ، رسالة الإسكندرية ، 1974 ، ص20 وما بعدها.
[5] د. يسر أنور علي ود. آمال عبد الرحيم عثمان ، المرجع السابق ، ص308. د. محمد زكي أبو عامر ، المرجع السابق ، ص326.
[6] د. عمر ممدوح مصطفى ، أصول تاريخ القانون ، ط2 ، دار المعارف ، القاهرة ، 1952 ، فقرة 31 وما بعدها ، د. صوفى أبو طالب ، تاريخ النظم  القانونية والاجتماعية ، دار النهضة العربية ، 1986، ص44 – 45 ، د. أحمد محمد إبراهيم ، القصاص في الشريعة الإسلامية ، رسالة القاهرة ، 1944 ، ص3 وما بعدها.
[7] سورة المائدة ، آية 45.
[8] سورة البقرة ، آية 178.
[9] د. عمر ممدوح مصطفى ، القانون الروماني ، ط6 ، دار المعارف ، القاهرة ، 1966 ، ص25 وما بعدها.
[10]  Ihering, L’esprit du droit romain, 1er Partie, p. 431.
[11] د. يسر أنور علي ، ود. آمال عثمان ، المرجع السابق ، ص 309 ، د. محمد زكي أبو عامر ، المرجع السابق ص ، د. محمد عيد الغريب ، المرجع السابق ، ص26 – 27 ، د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص326.
[12] د. عبد الرزاق السنهوري ، مصادر الحق في الشريعة الإسلامية ، ج1 ، 1967 ، ص49 وما بعدها. ولمزيد من التفصيل حول نظام الدية د. علي صادق أبو هيف ، الدية في الشريعة الإسلامية ، رسالة القاهرة ، 1933 ،  د. رمضان الشرنباصي ، العقوبات المالية في الشريعة الإسلامية ، رسالة كلية الشريعة والقانون ، القاهرة ، 1973 ، د. موسى عبد العزيز موسى ، الدية في الشريعة الإسلامية ، رسالة كلية الشريعة والقانون ، القاهرة ، 1977.
[13] د. محمد عيد الغريب ، المرجع السابق ص26.
R. Merle et A. Vitu, Traité de droit criminel, Paris, 1967, p. 96.

Post a Comment

Previous Post Next Post