فلسفة الحق في العقاب

 ارتبط نشوء الفلسفة التي تدعم حق الدولة في العقاب
    ما من فكرة تنشأ ولا مبدأ يسود إلا ويوقف وراءه فلسفة تمهد له وتدعمه. ولا تشذ عن ذلك فكرة الحق في العقاب ذاتها. وقد ارتبط نشوء الفلسفة التي تدعم حق الدولة في العقاب بالتطور الذي طرأ على المجتمعات الإنسانية وانتقالها من مرحلة البداوة إلى مرحلة النظم القانونية ، من الأسرة إلى العشيرة ثم القبيلة ثم المدنية وأخيراً الدولة ككيان سياسي معاصر.

 لذا فليس من المقبول القول بأن الحق في العقاب قديم قدم الوجود الإنساني ذاته. فإذا كانت الجريمة حقيقة وظاهرة إنسانية وجدت مع وجود الإنسان ، إلا أن رد الفعل العقابي تجاه الفعل الإجرامي لم يكن يمثل استعمالاً لحق الجماعة في العقاب. فرد الفعل الغريزي تجاه الاعتداء لا يمكن النظر إليه بحسبانه عقوبة ، ففعل الإنسان هذا إنما يتماثل مع ردود الأفعال الغريزية للطيور والحيوانات التي تدفع عن نفسها وأقرانها قوي العدوان المختلفة ، ومن المعلوم أن هذا السلوك الغريزي الحيواني لا يمكن أن يكون عقوبة. فالحق في العقاب ما نشأ إلا مع ظهور الجماعة الإنسانية المنظمة ، وتطور معنى السلطة في الجماعة ، وكذلك تطور المنظور الديني للمجتمع وانتقاله من مرحلة العقيدة المبنية على الأساطير إلى العقائد القائمة على دعائم سماوية أو فكرية. كما أن هذا الحق قد تطور مع انتقال المجتمعات من مرحلة الزراعة إلى مرحلة الاقتصاديات الصناعية.

خلال هذا التطور كله نشأت وتطورت العديد من المدارس الفكرية - خاصة منذ القرن الثامن عشر - التي تؤسس لفكرة الحق في العقاب ، الأمر الذي يعتبر بداية النشأة الحقيقية لفكرة العقاب في العصور الحديثة. وعلى هذا فإننا سوف نقسم هذا الباب إلى فصلين : نبين في الأول فلسفة الحق في العقاب في المجتمعات القديمة ، وفي الثاني نعرض للحق في العقاب في الفلسفات الحديثة.

منهج الدراسات العقابية :
     علم العقاب أحد العلوم التي تعتمد في إجراء بحوثها على المنهج العلمي التجريبي القائم على الاستقراء والملاحظة. فالباحث في علم العقاب يبدأ بملاحظة كيفية التنفيذ العقابي وملاحظة أثر الوسائل السابق تنفيذها على سلوك من نفذت عليهم ، بمعنى أثرها على السلوك اللاحق للمحكوم عليهم بغية استقراء النتائج التي توصل إليها بالملاحظة والصعود من جزئيات هذه النتائج إلى تشكيل قانون علمي عام[1]. وهو في هذا قد يعتمد إلى جانب الملاحظة على الأسلوب الإحصائي وبعض الأساليب الفردية كدراسة الحالة والاستبيان والمقابلة والاختبارات النفسية والبيولوجية والعقلية[2].

وبعد رصد النتائج المتصلة بتطبيق جزاء معين وبيان مدى نجاحه أو فشله في تحقيق الأغراض المرجوة منه تصاغ القواعد التي توضع تحت بصر المشرع لترشده إلى أفضل السبل لتحقيق أغراض السياسية العقابية.

ولإصباغ الصفة العلمية على منهج البحث في علم العقاب يتعين على دارسيه التجرد الكامل ، سواء من حيث محل الدراسة أو من حيث نطاقها ، بحيث لا تقتصر الدراسة على نتائج الأساليب العقابية في القوانين الوطنية القائمة بل ينبغي أن تمتد إلى دراسة نتائجها الأساليب العقابية المطبقة في القوانين الأجنبية بهدف الوصول إلى أفضل أساليب التنفيذ العقابي. وعلاوة على ذلك فيجب على دارسي وباحثي هذا العلم التجرد من الناحية المذهبية والفلسفية وألا يهتم بما قد يقوم في الفقه من خلافات ، فعماد الباحث وسنده هو الملاحظة والاستقراء كما سبق القول.

[1] د. محمد زكي أبو عامر ، المرجع السابق ، ص310 ، د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص321 ، د. محمد عيد الغريب ، المرجع السابق ، ص19.
[2] د. يسر أنور علي ، د. آمال عبد الرحيم عثمان ، المرجع السابق ، ص304.


Post a Comment

Previous Post Next Post