تقدير السياسة الجنائية الوضعية :
لا يمكننا أن ننكر أن السياسة الجنائية الوضعية كانت
ثورة في الفكر الجنائي عامة ، فقد كان لها التأثير الكبير بما
ابتدعته من أفكار. فللمدرسة الوضعية الفضل في التأسيس لعلمين من العلوم الجنائية
المساعدة ، هما علم الإجرام Criminologie وعلم العقاب Pénologie ، وتوجيه الاهتمام إلى شخص المجرم
كعصب عملية المكافحة بعد أن كان التوجه كله ينصب على الواقعة الإجرامية ذاتها. كما
يعود الفضل لهذه المدرسة في إظهار فكرة الخطورة الإجرامية وجعلها مناط المسئولية
والعقاب ، واعتماد أسلوب التدابير الوقائية وتدابير الدفاع الاجتماعي كوسيلة للحد من الخطورة
الإجرامية.
وكان لفكر هذه المدرسة أثره في الدعوة
للأخذ بنظم جنائية جديدة ، مثل العفو ووقف التنفيذ والإفراج الشرطي والإبعاد وتأجيل النطق بالعقوبة والوضع تحت الاختبار. تلك النظم التي تبنتها
الكثير من التشريعات ، منها قانون العقوبات الإيطالي لعام 1930 والبولندي لسنة
1932 والسويسري في عام 1937. كما تأثر بها المشرع المصري في عام 1908 بإصداره قانون
الأحداث المشردين. كما أخذ بها المشرع المصري في قانون العقوبات الحالي لعام
1937 عندما أخذ ببعض التدابير الوقائية (كالمصادرة – وغلق المنشأة …الخ). كما اعتمد أسلوب التدابير مشروع
قانون العقوبات لعام 1967 عندما ميز بين التدابير الجنائية التي تطبق على المجرم
بعد ثبوت ارتكابه لفعل إجرامي وبين تدابير الدفاع الاجتماعي التي تهدف لمواجهة حالات الخطورة
الإجرامية المجردة قبل وقوع الفعل الإجرام
ي (كالتشرد والاشتباه).
إلا أن هذه الثورة الفكرية لم
تسلم من النقد ، على أننا يجب أن نؤكد أن هذا النقد كان موجها بصفة أساسية لفكرة
المسئولية الاجتماعية عند أنصار هذه المدرسة وقيامها على أساس الجبر (مبدأ الجبرية
أو الحتمية) ، أما سياستها العقابية فقد ظلت - إلى حد بعيد - بمنأى عن النقد الجاد.
ومن بين ما قيل في انتقاد هذه المدرسة :
*- إقرارها لإمكان خضوع الشخص لبعض
التدابير الوقائية قبل وقوع الجريمة يمكن أن يعد اعتداء صارخ على الحرية الفردية ،
وتعدي على مبدأ الشرعية الجنائية ، الذي يوجب توجيه
الإنذار بالأفعال المحظورة قبل توقيع العقاب بالفعل[1].
*- القول بمبدأ الحتمية والجبرية
للسلوك الإنساني - ومنه السلوك الإجرامي - أمر لم يقم عليه دليل علمي ، بل
هو محض افتراض مجرد. ومن المعلوم أن تلك المدرسة لا تعتمد على أسلوب
الافتراضات المجردة بل تعتمد على أسلوب التجريب العلمي والملاحظة ، فمن أين لها بهذا الافتراض ؟
*- حتى لو سلمنا بالقدرية المطلقة أو
مبدأ الجبرية فإن ذلك سوف يتعارض مع البنيان الجنائي الذي يقوم عليه أي مجتمع معاصر ،
أو ما يسميه البعض التعارض مع مبدأ "القانونية الجنائية"[2]. فالحالة الخطرة ، أو الخطورة الإجرامية التي تقول
بها هذه المدرسة ، لا يمكن الكشف عنها إلا عن طريق الجريمة ذاتها ، فإذا
أبعدنا تلك الجريمة "كفكرة قانونية جنائية مستقرة" فكيف يمكن الكشف عن
الحالة الخطرة للشخص ؟ وحتى لو قلنا أن الكشف عن تلك الحالة يمكن التوصل إليه قبل
وقوع الجريمة من خلال الظروف التي يعيش فيها الشخص مثلا ، والتي قد تنبئ عن
إمكانية ارتكابه لجريمة في المستقبل ، فإنه من العبث أن يخضع الشخص لأي تدبير على
أساس هذا المظهر المادي الذي يعايشه دون مراعاة للجوانب النفسية لديه من حيث القصد
أو الإهمال. وهى أمور لا تبنى إلا على حرية الاختيار التي تنفيها المدرسة الوضعية.
ولا يسعنا إلا أن نردد مع البعض
قوله بأنه "لو قدر لأي تشريع وضعي أن يقيم عمد المسئولية على أساس من التسليم
بصحة القضاء والقدر وانتفاء الاختيار على وجه مطلق ، لما كان في ذلك أية خطوة
للإمام ، بل خطوت عديدة إلى الوراء ، وإلى أنظمة غامضة بعيدة عن أن ترضي احتياجات الجماعات
المتحضرة"[3].
فحرية الاختيار يجب أن تظل هى أساس المسئولية الجنائية وهو ما لا ترضي به تلك المدرسة.
وما يؤكد أن حرية الاختيار يتعين أن
تظل ركيزة
إنسانية أساسية ، وعليها يجب أن تقوم دعائم المسئولية الجنائية ، أن كافة
التشريعات والمشروعات الوضعية التي حاولت إحلال المسئولية القانونية والاجتماعية
محل المسئولية الأخلاقية لم يكتب لها النجاح. ومن ذلك مشروع فيرى Ferri في سنة
1921 والذي أخذ بالمسئولية القانونية حينما نص على أن "الفاعلين والشركاء
مسئولين قانوناً عن الجريمة إلا إذا كان هناك سبب يبيح الفعل". إلا أنه اعترف
بالمساهمة المعنوية في الجريمة وبالإكراه وبأن التدابير الاحترازية ذات الطابع العقابي
لا تتخذ حيال المجانين وضعاف العقول الذين لا يستطيعون السيطرة على تصرفاتهم. مما
يعنى الاعتراف بفكرة حرية الاختيار والإرادة رغم الرغبة في إنكارها.
ومن ذلك أيضا قانون العقوبات
السوفيتي الصادر في أول يناير عام 1937 الذي أقر مبدأ المسئولية
القانونية ثم وقع في التناقض في المادة 11 منه
عندما نص على أن الأشخاص المسئولين هم الذين يتصرفون بادراك ويقدرون نتائج
تصرفهم ويرغبون في هذه النتائج. وهو ما يعنى الاعتراف بمبدأ حرية الاختيار
والمسئولية الأدبية[4].
*- كما عيب على هذه المدرسة تجاهلها
للاعتبارات الردع العام والعدالة من نطاق أغراض الجزاء الجنائي.
*- وأخيراً فإنه لم يقم دليل علمي على ما اعتمدته هذه المدرسة في مجال
تصنيف المجرمين على أسس عضوية ونفسية ، فهناك ممن تتوافر فيهم تلك الصفات ولم
يقترفوا جرما قط ، في حين أنه وقعت أشبع الجرائم ممن لا تتوافر فيهم تلك الصفات. فهذا التضييف لا يصلح اعتماده في
تحديد المعاملة العقابية.
[1] د.أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص 359.
[2] د. رءوف عبيد ، المرجع السابق ، ص 103.
[3] د.رءوف عبيد ، المرجع السابق ، ص 103-104.
[4] ويؤكد ذات الأمر مشروع قانون العقوبات الكوبي الذي وضعته لجنة
برئاسة الفقيه فرناندو أورتيز Fernando Ortez ، الذي كان يعمل أستاذاً بجامعة هافانا ، والذي أقر المسئولية
القانونية والاجتماعية القائمة على أساس الخطورة الإجرامية من منطلق مبدأ الجبر
والحتمية الإنسانية. غير أنه لم يقدر لهذا المشروع أن يطبق ، ووضع مشروع أخر يقر
مبدأ حرية الاختيار ، ثم عاود المشرع إلى إقرار قانون العقوبات الكوبي في عام 1936
معترفا بالمسئولية القانونية ، إلا أنه في أكتوبر في ذات العام أوقف العمل بهذا
القانون". راجع د.أحمد عبد العزيز الألفي ،
العود إلى الجريمة والاعتياد على الإجرام ، رسالة دكتوراه ، القاهرة ، 1945 ،
ص95-96.
Post a Comment