سياسات الوسط التوفيقية الجنائية
 Les politiques criminelles conciliatrices
     كان من الطبيعي أن يُحدِث التصادم بين أفكار المدرسة التقليدية والمدرسة الوضعية نوع من عدم الاستقرار في الفكر الجنائي ، الأمر الذي أدى إلى ظهور مذاهب أو مدارس - أطلق عليها مذاهب الوسط أو المذاهب التوفيقية – حاولت أن تحدث التوائم أو التعادل بين المذاهب جميعها قديمها وحديثها. فلقد عيب على المدرسة التقليدية أو الاتجاه الكلاسيكي أن أسرف في الاعتداد بالجريمة باعتبارها كيانا قانونيا مجرداً يكفى التثبت من أركانه من أجل استحقاق العقاب ، دون الأخذ في الاعتبار ظروف المجرم الشخصية. فكانت النظرة لهذا الأخير على أنه كائن مجرد لا دور له في تقدير الجزاء. كما عيب على المدرسة الوضعية تطرفها في الاهتمام بشخصية المجرم وخطورته ، دون الأخذ في الاعتبار حقيقة الواقعة الإجرامية من كونها مزيج من جوانب مادية أو موضوعية وجوانب أخرى شخصية ، الأمر الذي دعاها إلى إنكار حرية الاختيار ومبدأ المسئولية القائمة على الخطأ الجنائي وتجاهل أفكار المنع العام والعدالة.
وفى ضوء ذلك حاولت التيارات الفكرية اللاحقة على المدرسة الوضعية الاهتمام بالجريمة من حيث جسامتها وشخصية المجرم وحالته الخطرة ، كنوع من الوسطية أو التوفيقية في الفكر الجنائي. ويمثل هذا الاتجاه تيارات ثلاثة نبرزها في النقاط التالية.

1-                  أولا : المدرسة الوضعية الانتقادية L’école critique
     تسمى المدرسة الوضعية الانتقادية أحياناً بالمدرسة الثالثة La troisième école  "Terza scuola" لمجيئها بعد المدرسة الكلاسيكية والمدرسة الوضعية. ولقد تزعم هذه المدرسة عديد من الفقهاء الإيطاليين أمثال برناردينو أليمينا B. Alimena وإيمانويل كارنفالي E. Carnovale وجامباتيستا أمبالومينى G. Impollomeni.

وأول ما يميز المدرسة الوضعية الانتقادية أو المدرسة الثالثة أنها تنازلت عن البحث في مشكلة التسيير والتخيير واعتبرتها مشكلة هامشية مما أسقط أول محكات التطرف والتناقض بين الفكر التقليدي والفكر الوضعي. فآلمينا مثلا - الذي تعود إليه تسميه هذا الاتجاه بالوضعية الانتقادية عندما نشر مؤلفة المعنون بذات الاسم في عام (1892)[1] - يرى أنه ما دامت الجريمة ظاهرة اجتماعية فإن العقاب ينبغي أن تكون له وظيفة اجتماعية هو الأخر. تلك الوظيفة هى الدفاع عن المجتمع لا إيلام المجرم بصرف النظر عن كونه قد اختار الجريمة حراً أو مجبراً. فالمجتمع في دفاعه عن نفسه لا تعنيه حرية المجرم وجبريته ، لأن تلك مشكلة فلسفية لا تنال من حقه في الدفاع عن نفسه ضد المخيرين والمسيرين سواء بسواء[2].

كما يميز هذا الاتجاه التوفيقي القول بإمكانية الجمع بين العقوبة والتدابير. فكارنفالي - الذي تعود إليه تسمية الاتجاه بالمدرسة الثالثة La Terza scuola - يؤكد على ضرورة الإبقاء على كل من العقوبة والتدابير ليتم النطق بإحداها حسب كل حالة على حده وفق ظروف وأسس محددة. ويتأتى ذلك من الجمع بين كل من الخطأ والخطورة كأسس للمسئولية الجنائية. فالخطأ الذي لا يتوافر إلا لدى من تتوافر فيهم الأهلية الجنائية لا يردعه إلا العقوبة  بينما لا توجه التدابير إلا للمجرمين عديمي أو ناقصي الأهلية. فكما يؤكد هذا الفقيه ، فإن المفهوم العقابي لابد وأن يتسع ليشمل كافة الوسائل الصالحة للدفاع ضد الجريمة.

هذا الجمع بين كلا من العقوبة والتدابير يؤكد أن المسئولية الجنائية لدى أنصار مذاهب الوسط إنما هى مسئولية أخلاقية قانونية معاً ، أساسها الخطأ والخطورة جنباً إلى جنب.
وأخيراً يميز هذا الاتجاه أن الجزاء الجنائي يستهدف أن يحقق كلا من الردع العام والردع الخاص. فالجزاء أو حق العقاب - كما يقول كرنفالي - هو تعبير عن ضرورة سياسية وليس انتقاماً أو ثأراً من المجرم ، وهو وسيلة لوقاية المجتمع من ارتكاب جرائم مستقبلية سواء من قبل ذات المجرم أو من قبل غيره من الأفراد. فعلى المجتمع أن يوفر بالجزاء الأثر النفسي الكفيل بقمع النفوس وردعها ، سواء لدى المجرم ذاته أو لدى بقية أقرانه[3].
2-                  ثانيا : الاتحاد الدولي لقانون العقوبات L’Union International de Droit Pénal
     تكفل الاتحاد الدولي لقانون العقوبات - الذي أنشئ في عام 1881 على يد كل من الأساتذة فان هامل Van Hamel الأستاذ بجامعة أمستردام وأدولف برانز Adolf Prins الأستاذ بجامعة بروكسل وفون ليست Von Liszt الأستاذ بجامعة برلين - بمحاولة التوفيق بين كلا من السياستين الجنائية التقليدية والوضعية ، وذلك من خلال سلسلة من المؤتمرات بدأت في عام 1889.

ويمكننا أن نحدد أهم ما يميز هذا الاتجاه التوفيقى في النقاط التالية :
*- اعتمد أنصار هذا الاتجاه سياسة جنائية تبتعد عن الافتراضات الفلسفية ، كما هو الحال عند أنصار المدرسة الوضعية ، ومن ثم فقد اتبعوا منهجاً تجريبياً يهتم أول ما يهتم بشخص المجرم لإصلاحه ومنعه من العودة لمقارفة الجريمة مرة أخرى. وعلى هذا فكان طبيعياً أن يكون للتفريد العقابي أهميته لدى هذا الاتجاه ، بحيث يكون لكل مجرم نوع متميز من المعاملة العقابية. في ضوء ذلك قام أعضاء الاتحاد بوضع نوع من التصنيف بين المجرمين ، يميز بين المجرمين بالتكوين أو بالفطرة ،  والذي تدفعه عوامل بيولوجية ونفسية إلى سلوك سبيل الجريمة ، وبين المجرمين بالصدفة الذين تدفعهم للجريمة مجموعة عوامل خارجية تتصل بالظروف الاجتماعية والبيئية.
*- تمثل العقوبة الجنائية الجزاء الأول للجريمة لدى أنصار هذا الاتجاه ، والتي تستهدف المنع العام والمنع الخاص إلى جانب تحقيق العدالة وإصلاح المجرم والحد من خطورته في المستقبل ، الأمر الذي قد لا يتحقق إلا باستئصاله كلياً من المجتمع.
*- تعتبر التدابير بأنواعها المختلفة جزاء احتياطي عند هذا الاتجاه ، لا يلجأ إليه إلا عند عجز العقوبة عن تحقيق أغراضها. وفى حالة اللجوء إلى هذه التدابير ، يدعو الاتحاد إلى احاطتها من قبل المشرع بذات الضمانات التي تحيط بالعقوبة ، كالشرعية والشخصية والقضائية ، على نحو ما سنحدده فيما بعد.
*- يمكن للخطورة الإجرامية أن تكون أساسا لتوقيع الجزاء الجنائي ، حتى قبل وقوع الجريمة بالفعل ، وذلك من خلال توقيع بعض التدابير المانعة أو تدابير الأمن على بعض الأشخاص الذين تكشف حالتهم الشخصية وظروفهم الاجتماعية عن ميل نحو الجريمة ، ولو لم يكونوا قد أجرموا بالفعل ، وهو الحال في شأن حالات الإدمان والسكر وتعاطى المخدرات والتشرد[4].

بيد أن هذا الاتحاد قد توقف نشاطه على أثر نشوب الحرب العالمية الأولى ولوفاة مؤسسيه. وقد استمر الحال هكذا إلى حين تأسيس الجمعية الدولية لقانون العقوبات[5] L’Association Internationale de Droit Pénal في باريس عام 1924 والتي أحيت مبادئ الاتحاد الدولي لقانون العقوبات. وتعقد الجمعية الدولية مؤتمرات دورية كل خمس سنوات في بلد من البلدان ، وعادة ما تمهد الجمعية الدولية لمؤتمرها الدوري بالعديد من الحلقات النقاشية التمهيدية Colloques préparatoires تتناول كل حلقة منها وجه من أوجه المشكلة التي سوف يتناولها المؤتمر العام ، فتنصب حلقة على المشكلة من وجه نظر القسم العام وثانية عن القسم الخاص ، وثالثة عن جوانبها الإجرائية ، وتخصص الأخيرة للجوانب الجنائية الدولية[6]. وتنشر الجمعية أعمالها وتوصياتها في المجلة الدولية لقانون العقوبات Revue Internationale de Droit Pénal ، فضلاً عن مجلة الدراسات الجنائية الحديثة Nouvelles études pénales.

ورغم ما بذله الاتحاد الدولي لقانون العقوبات وما تبذله الجمعية الدولية للقانون الجنائي من جهود في محاولة للتوفيق بين المذاهب الجنائية والحد من تطرفها ، وتأكيدها على ضرورة الجمع بين العقوبة والتدابير والاهتمام بتفريد المعاملة العقابية ، إلا أن سياستها عموماً عيب عليها أنها لا ترتبط برباط واحد يجعل منها مدرسة أو نظرية فقهية متكاملة. فأفكارها لا تعدو إلا أن تكون مجموعة من الحلول العملية لعدد من كبار الفقهاء[7].


[1] B. Alimena, La scuola di critica penale, Napoli,1892
مشار إليه لدى د. يسر أنور علي وآمال عثمان ، المرجع السابق ، ص329.
[2] د. محمد زكي أبو عامر ، المرجع السابق ، ص357.
[3] د. مأمون سلامة ، قانون العقوبات ، القسم العام ، 1979 ، ص557 وما بعدها.
[4] حول أفكار الاتحاد الدولي بصفة عامة ، راجع د. يسر أنور علي ود. آمال عثمان ، المرجع السابق ، ص 330 ، د. محمد زكي أبو عامر ، المرجع السابق ، ص361-362 ، د. محمود نجيب حسني ، المرجع السابق ، ص84 وما بعدها ،  د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص361 وما بعدها.
B. Bouloc, op.cit., p. 19 et s.
[5] حول الجمعية الدولية لقانون العقوبات تاريخاً ونشاطاً  راجع :
Recueil de l’Association internationale de droit pénal : ses origines dans l’Union internationale de droit pénal, Nouvelles études pénales, n°18, 199.
[6]  وقبل ذلك كانت الجمعية تحدد أربعة موضوعات متفرقة : أولها في القسم العام وثانيها في القسم الخاص وثالثها في الإجراءات الجنائية وأخرها في القانون الجنائي الدولي وهو التقسيم الذي تم الرجوع إليه في مؤتمر الجمعية السابع عشر الذي انعقد ببكين بالصين في الفترة من 12 إلى 19 سبتمبر 2004 والذي ناقش أربعة موضوعات هى : المسئولية الجنائية للأحداث في النظامين الوطني والدولي ، والرشوة والجرائم المشابهة لها في المعاملات الاقتصادية الدولية ، ومبادئ الدعوى الجنائية وتطبيقها على الإجراءات التأديبية ، وأخيراً تنازع الاختصاص بين القضائين الوطني والدولي ومبدأ عدم جواز محاكمة الشخص عن ذات الفعل مرتين. ونذكر من بين مؤتمرات الجمعية الهامة مؤتمرها السادس عشر الذي انعقد في بودابست في المجر في الفترة من 5 إلى 11 سبتمبر عام 1999 ، والذي انصب على الأنظمة الجنائية في مواجهة الجريمة المنظمة Les systèmes pénaux à l’épreuve du crime organisé. وقد كان لنا شرف التحضير لهذا المؤتمر من خلال مشاركتنا في المؤتمر الذي نظمه المعهد العالي الدولي للعلوم الجنائية ISISC في سيراكوزا بإيطاليا في سبتمبر عام 1997 للجنائيين الشبانJeunes pénalistes  ، لاستطلاع أرائهم حول فكرة وسبل مكافحة الجريمة المنظمة. وقد قدمنا في هذا المؤتمر بحثا يتناول مكافحة الجريمة المنظمة في التشريع المصري.
[7] د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص364.

Post a Comment

Previous Post Next Post