الكتابة العربية ومعالجتها آلياً، فتعد الكتابة العربية من ضمن أهم المشكلات التي واجهت التحليل الحاسوبي، حيث تتعدد الأشكال البصرية للحرف الواحد تبعاً لموقعه من الكلمة، كما أن اتجاه الكتابة العربية هو من اليمين إلى اليسار، يضاف إلى ذلك أن حروفها متصلة وليست منفصلة... إلخ([i]) .
وتبعاً لهذا قامت عدة محاولات لتلافي مشاكل الكتابة العربية في الحاسوب، وكان من بينها مشروع الأستاذ أحمد الأخضر غزال، الذي أطلق عليه الطريقة المعيارية للطباعة العربية، أو العربية المعيارية المشكولة – الشفرة العربية، والتي تعرف اختصاراً بـ(العمم-شع)، كما سبق، وقد تم هذا عام 1954م، ثم طُورت لتتلاءم مع التقدم التقني في الحاسوبات عام 1974م([ii])  .
ويذكر الدكتور مازن الوعر أنه مع تطور الإلكترونيات أصبح هذا التصميم غير واقعي، مما جعل بعض الباحثين يضع تصميماً آخر عرف بـ(معالجة السياق)، أي استنباط الحرف من سياق الحروف، وليس من سياق المعنى([iii]) .
وهناك أيضاً الشفرة العربية الموحدة للكتابة العربية التي تعرف بـ(الشفرة سباعية العزوم) التي أقرتها سنة 1983م المنظمة العربية للمواصفات والمقاييس([iv]). وفي الحقيقة أنني لا أعلم الآن ماذا تم بشأن تطوير هذه الشفرة خاصة أنه مضى عليها زمن طويل .
ومن تلك المحاولات ما قدمه الدكتور عاصم عبد الفتاح نبوي، والدكتور صبري عبد الله محمود، من تطوير نظام للتعرف على حروف العربية باستخدام شبكة عصبية ذات انتشار رجوعي([v]) .
ومن الجوانب الأخرى التي أمكن للغة العربية الاستفادة منها من الحاسوب تعليم اللغة، سواء للناطقين بها من أبنائها، أو للناطقين بغيرها من اللغات. لقد استطاع الحاسوب أن يقدم للناطقين بالعربية نظماً حاسوبية وبرامج لإكساب المتعلمين المهارات اللغوية المتعددة، كالقراءة، والكتابة، والمحادثة، والاستماع، إضافة إلى معالجة الخطوط العربية معالجة حاسوبية، والتدقيق الإملائي والنحوي، ووضع معاجم لغوية حاسوبية لمراحل التعليم العام، وتعليم الأطفال الأرقام والحروف والكلمات .
كما استطاع الحاسوب أن يسهم في مجال تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، بإمكاناته وقدراته الهائلة في التعليم المبرمج([vi])، ويوجد بمعهد اللغة العربية بجامعة أم القرى (مكة المكرمة) حالياً معمل حاسوبي لتعليم العربية للناطقين بغيرها، وهي تجربة فريدة ذات أبعاد علمية وحضارية، نأمل أن تتوسع دائرتها ومجال تطبيقاتها، وأن يكتب لها النجاح .
وبدهي القول إن الإفادة من الحاسوب في هذا المجال (المجال التعليمي) مرهونة بالنجاح في المعالجة الآلية للغة العربية أولاً .
هذا ما يتعلق بالمعالجة الآلية للنظم اللغوية العربية، أما البرامج الموضوعة لذلك، وهي كما يقول الدكتور نهاد الموسى : «منجزات تطبيقية تستثمر التوصيف في وجوه من التوظيف»([vii])، فإنها أكثر من أن تحصر، وخاصة أن الشركات التجارية العاملة في مجال الحاسوبيات تدفع يومياً إلى السوق برامج علمية وتعليمية، تتفاوت فيما بينها دقةً ومنهجيةً وأهدافاً، وهي تحتاج من الباحثين تقييماً وتقويماً، وهذه الدراسة الحالية لا تفي مطالبها باستعراض مجمل هذه البرامج ؛ إذ إن الخوض فيها يتطلب وقفة مطولة، وعسى أن نفرغ لها – أو غيرنا – في المستقبل المنظور إن شاء الله([viii]) .
وأما الصورة الأخيرة لرصد الجهود في ميدان اللسانيات الحاسوبية العربية فتتمثل – كما تقدم – في إنشاء قسم خاص لعلم اللغة الحاسوبي (اللسانيات الحاسوبية) في جامعة الأمير سلطان الأهلية بالرياض (السعودية)، وهو – على حد علمي – أول قسم متخصص في هذا المجال بالجامعات العربية، ولا شك أن إنشاءه جاء نتيجة لمتطلبات السوق الاقتصادية من جهة، وتتويجاً – من جهة أخرى – للجهود الحاسوبية العربية التي أصبحت تشكل اتجاهاً عاماً في الدراسات اللغوية المعاصرة .
وبعد، فلقد تبين لنا بهذا العرض الموثق بما لا يدع مجالاً للريبة والشك أن اللغة العربية هي المستفيد الأول من استخدام تقنية الحاسوب، وأن الحاسوب يمكن تطويع آلياته وأنظمته لتتواءم مع خصوصية اللغة العربية، على جميع مستوياتها اللغوية، الصوتي منها، والصرفي، والنحوي، والمعجمي، والدلالي. وتم بجهود الباحثين العرب، اللغويين منهم والحاسوبيين، تمثيل الكلام المنطوق وتوليده آلياً، وتحليل الكلمات المفردة وتركيبها آلياً، وتوصيف الجمل وتوليدها وإعرابها آلياً، وقراءة النصوص المكتوبة وتصحيحها ومعالجتها آلياً، وصناعة المعاجم الآلية، وإنشاء البنوك المصطلحية، وتصويب الأخطاء النحوية والصرفية والإملائية آلياً، وتصميم البرامج الحاسوبية للترجمة الآلية، وتعليم اللغة العربية لأبنائها وغير أبنائها بوساطة الحاسوب .
إن هذه الجهود مؤشر حقيقي على نجاح الحاسوب في خدمة اللغة العربية، وتوظيفه في معالجة قضاياها المختلفة، تحليلاً، وتوليداً، وترجمة، وتعليماً، وصياغتها صياغة رياضية دقيقة وفق علاقة متبادلة بين المقاييس العلمية والمقاييس اللغوية .
والمحصلة النهائية لهذه الجهود تصب في خانة قدرة العربية على استيعاب لغة العصر، وتمثل تقنياته التكنولوجية بكل كفاية واقتدار، وهذه قضية من القضايا التي واجهتها - وما زالت تواجهها - كينونة الأمة العربية وحضارتها اللغوية، وهويتها الثقافية .
ومع كل ما ذكرته من إسهامات في اللسانيات الحاسوبية وتوظيفها لخدمة العربية – وهناك الكثير من تلك الإسهامات لم أتمكن من الاطلاع عليها، أو عرضها في هذه الدراسة – فإن الطريق في هذا المضمار مازال شاقاً وطويلاً، والأمل معقود على جميع العلماء والباحثين الذين أوقفوا أنفسهم على هذا المجال النادر من مجالات العلم والمعرفة الإنسانية، أن تتكاتف جهودهم لتذليل العقبات وحل المشكلات التي تحيط بلغة القرآن الكريم إزاء الثورة المعلوماتية – الحاسوبية المعاصرة .
واختتم هذه الدراسة بإبداء جملة من المقترحات، أحسب أنها تسهم في توطين هذا التوجه في الدراسات اللغوية المعاصرة، وتدفع به نحو الأمثل والأفضل، وهي على النحو الآتي :
أولاً : أن تتضافر الأعمال في مجال اللسانيات الحاسوبية العربية وتتآزر بين اللغويين والحاسوبيين في أي مشروع علمي يهدف إلى برمجة الأنظمة اللغوية للعربية، وتحليلها، ومعالجتها آلياً. وأرى في هذا المقام أن أي عمل منفرد، أو مستقل عن الطرف الآخر من المعادلة، أو غير منسق بين هذه الفئات العلمية، إنما هو بمثابة جهد ضائع لا طائل من ورائه .
إن التعاون والتنسيق في هذا الميدان – إن تَمَّ – ستكون نتائجه غاية في الأهمية، وستدفع به خطوات واثقة إلى الأمام، وسوف تتغير قناعات ومسلمات كانت أشبه بالحقائق التي لا تقبل الجدل والنقاش حولها، كما ستتأكد قضايا في اللغة كانت أقرب ما تكون إلى الاحتمال والرجحان والظن، وهذا ما توفره اللسانيات الحاسوبية للعلوم الإنسانية بعامة .
والواقع أن هذا الأمر، أعني التقاء علماء اللغة وعلماء الهندسة والحاسوب، كان – ومازال – مطلباً ملحاً، وضرورة قصوى، لأي عمل ناجع في هذا الميدان على وجه الخصوص، وهو ما أكدت عليه جميع المؤتمرات التي عقدت لمناقشة قضية الحاسوب واللغة العربية .
ثانياً : ترجمة جميع الأعمال العلمية في مجال اللسانيات الحاسوبية العربية، التي كتبت باللغات الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، وغيرهن من اللغات، التي وضعها باحثون عرب وأجانب، ونقلها إلى العربية.
ثالثاً : عدم ترك أمر البرمجيات الحاسوبية العربية بيد الشركات ومراكز البحوث الغربية، بل ينبغي أن يصممها أبناؤها، فهم أقرب الناس رحماً بهذا المجال .

رابعاً : صناعة معجم موحد لمصطلحات اللسانيات الحاسوبية، بالعربية والإنجليزية، وفق المتعارف عليه علمياً في هذا النوع من المعاجم الاصطلاحية أو المصطلحية([ix]) .

خامساً : أن يكون علم اللغة الحاسوبي مقرراً دراسياً معتمداً في أقسام اللغة العربية بكليات الآداب، والتربية، كما هي الحال في كلية الآداب بجامعة الكويت .

سادساً : إنشاء قسم خاص للغويات الحاسوبية في الكليات والجامعات العربية يمنح درجة البكالوريوس في هذا التخصص، على غرار ما هو موجود بجامعة الأمير سلطان الأهلية بالرياض .

سابعاً : نشر تلك الرسائل العلمية التي كتبت أصلاً باللغة العربية عن قضايا استخدام اللغة العربية في الحاسوب، وهي تُشَكل فيما اطلعت عليه إسهاماً فاعلاً في ترسيخ هذا الاتجاه، ومعالجةً موضوعيةً وعلميةً لكثير من مشكلات تعامل العربية مع الحاسوب .

ثامناً : أن ما طرحه الدكتور نبيل علي في كتابه (اللغة العربية والحاسوب) من قائمة مقترحة في مجال بحوث اللسانيات الحاسوبية مطبقة على اللغة العربية، يحسن أن يكون قاعدة جيدة للانطلاق منها نحو تفعيل النشاط البحثي وتطويره في هذا المجال .

صحيح إن بعض ما اقترحه كان بعد ذلك ميدان عناية الباحثين، ولكن كثيراً منها ما يزال في انتظار الأقلام المخلصة والعقول النيرة التي ستضيف بعداً جديداً للاتجاه الحاسوبي في دراسة اللغة، وهو ما نتمنى أن يحدث في القريب العاجل بإذن الله،،،

ا


([i]) لمزيد من التفاصيل حول مشكلة الكتابة العربية ينظر: د.نبيل علي، اللغة العربية والحاسوب، ص 201-211، د.مازن الوعر، اللسانيات والحاسوب واللغة العربية، صحيفة رؤى ثقافية (سورية) العدد 4، 13 أيلول 2003م، ص 23 .
([ii]) لمعرفة الملامح الرئيسة لهذه الطريقة ينظر: أحمد الأخضر غزال، استخدام اللغة العربية في علوم الحاسوب، المجلة العربية للتربية، تونس، المجلد6، العدد1، 1986م، ص57-81، د.مازن الوعر، قضايا أساسية في علم اللسانيات الحديث، ص417-421. والأمر اللافت للنظر أن هناك بحثاً قدمه كل من الدكتور التهامي الراجي الهاشمي والمهندس وليد  بنجيلاني (المغرب) ذكرا فيها تلك الطريقة التي تنسب للأستاذ أحمد الأخضر غزال، دون إشارة منهما إلى صاحبها!! ينظر: إدخال العربية المشكولة والشفرة العربية الموحدة في الإعلاميات. مجلة الحاسبات الإلكترونية، بغداد، 1980م، ص 351-370.
([iii]) ينظر: د.مازن الوعر، اللسانيات والحاسوب واللغة العربية (مصدر سابق)، ص23 .
([iv]) ينظر: د.نبيل علي، اللغة العربية والحاسوب، ص 213-220  .وللمزيد حول المحاولات بهذا الخصوص ينظر: د. ممدوح النجار - د.منظر مسعود، أسلوب بناء حاسوب بغرض معالجة النصوص العربية، ضمن (وقائع مختارة من ندوة استخدام اللغة العربية في الحاسب الآلي) ص 81 فما بعدها .
([v]) ينظر: تمييز حروف اللغة العربية المكتوبة آلياً باستخدام الشبكات العصبية ذات الانتشار الرجوعي، مجلة جامعة الملك سعود (علوم الحاسب والمعلومات) المجلد9، 1417هـ-1997م، ص 1-28 .
([vi]) ينظر : د.محمود إسماعيل صيني، تعليم اللغات باستخدام الحاسب الآلي، المجلة العربية للدراسات اللغوية (الخرطوم) المجلد2، العدد2، 1982م، رضا السويسي، في تعليم العربية لغة ثانية بمساعدة الحاسوب، ضمن (اللسانيات العربية والإعلامية) تونس، 1989م، ص221-266، د.صلاح عبد المجيد العربي، تعلم اللغات الحية وتعليمها بين النظرية والتطبيق،     ط1، مكتبة لبنان، بيروت، 1981م، ص 229 فما بعدها، د.نبيل علي، اللغة العربية والحاسوب، ص 146، د. صلاح الدين حسنين، استخدام العقل الإلكتروني في تعليم العربية لغير المتكلمين بها، مجلة الفيصل (الرياض) مجلد7، العدد74، 1983م، ص44-46
([vii]) العربية – نحو توصيف جديد ...، ص35  .
([viii] ) لمعرفة بعض هذه البرامج الحاسوبية ينظر: المصدر السابق، ص46-47، د.ناصر عبد الرزاق الموافي، استخدام التقنيات الحديثة في الدراسات الأدبية واللغوية – دراسة في مجموعة البرامج التراثية على الحاسوب، ملخص بحث مقدم للمؤتمر العلمي الأول لقسم اللغة العربية وآدابها بالجامعة الأردنية (آفاق الدراسات في اللغة والأدب بين الحاضر والمستقبل      16-18/5/1999م)، ص110-112 من ملخصات أبحاث هذا المؤتمر، لغويات الكمبيوتر العربية من الخيال إلى   الواقع، مجلة بايت الشرق الأوسط، كانون الثاني 1995م، ص66-67 .
([ix] ) كان للدكتور الطيب البكوش واثنين من زملائه محاولة أولى ووحيدة – فيما أعلم – لصناعة معجم للمصطلحات اللسانية الحاسوبية، صدرت ضمن أشغال الملتقى الرابع للسانيات (اللسانيات العربية والإعلامية) تونس، 1989م،  ص139-166. والذي أراه أن صناعة معجم كهذا يتطلب تعاوناً أكثر، وتخطيطاً أشمل من المختصين في اللغة والحاسوب، وهذا ما نتمناه أن يتحقق في قابل الأيام .

Post a Comment

Previous Post Next Post