المدرسة
النيوكلاسيكية L’école
néo-classique
1
لم تكن المدرسة النيوكلاسيكية أو التقليدية الجديدة
فكرة عارضة أو مرحلة منفصلة في الفكر الجنائي الحديث ، ولكنها تمثل امتداد طبيعي لما سبقها من أفكار ومفاهيم
تتعلق بفكرة الحق في العقاب. ولذلك فقد احتفظت هذه المدرسة بالكثير من المبادئ التي قامت عليها المدرسة التقليدية ، فلم يزل المجرم في نظرها إنساناً خالف عن وعي وإرادة العقد الاجتماعي الذي
ارتضاه ، كما أنها أسست المسئولية الجنائية على فكرة حرية الاختيار. بيد أن تلك
المدرسة قد عمدت إلى إضافة مبادئ جديدة تستهدف دراسة شخصية المجرم وإقرار التفاوت
النسبي بينهم في الظروف والإرادة ومن ثم في حرية الاختيار.
ولإظهار أكثر لمبادئ تلك
المدرسة يجدر بنا أن نتعرض أولاً للدعائم الفلسفية لها قبل بيان أوجه النقد
التي قيلت بشأنها .
2-
أولاً : الدعائم الفلسفية للمدرسة النيوكلاسيكية :
تتحدد
الدعائم الفلسفية للاتجاه النيوكلاسيكي في عنصرين ، يتصل الأول بفكرة العدالة
المطلقة كأساس للحق في العقاب ويتعلق الثاني بحرية الاختيار النسبية كأساس
للمسئولية الجنائية.
3-
أ : العدالة
المطلقة أساس الحق في العقاب :
إذا كانت فكرة العقد الاجتماعي التي قال بها المفكر
الفرنسي جان جاك روسو هي دعامة وركيزة الأساس الفلسفي للمدرسة التقليدية وكل أفكارها حول
الحق في العقاب ، فإن أنصار المدرسة النيوكلاسيكية – ومنهم الفقيه جيزو Guizot في مؤلفه عن عقوبة الإعدام في
الجرائم السياسية (1822) La peine de mort en matière politique , وجو فروي Jouffroy في مؤلفه عن القانون الطبيعي
(1830) Traité
de droit naturel ومنهم أيضاً الفقهاء روسي Rossi وأورتولان Ortolan وجارو Garraud وجارسون Garçon وشارل لوكا Charles Lucas - قد أقاموا دعائم هذه المدرسة على الأفكار
المستمدة من الفلسفة المثالية الألمانية التي يمثلها الفليسوف إيمانويل كانت Kant حول "العدالة المطلقة"La justice absolue . وهذه العدالة المطلقة هي التي تمثل أساس الحق في العقاب وليس المنفعة كما
كان يقول أنصار المدرسة التقليدية .
ونقطة البدء عند كانت ، هي إقراره بمبدأ الحرية ، وهي القيمة الخلقية العليا وبغيرها
يصبح القانون مدعاة للسخرية. وهذه الحرية هي حق طبيعي للفرد لا منحه ، إذ للإنسان في أعماقه قدرة في الاختيار أسمى - على حد قول البعض - من قانون السببية الذي يحكم الظواهر الطبيعية[1]. ويصبح العقاب - كما يرى كانت - هو المقابل الحتمي لحرية الإرادة التي دفعت الجاني إلى سلوك سبيل الجريمة ، وذلك بصرف
النظر عن فكرة منفعة العقوبة. فالحرية إذا ما أسيئ
استخدامها حق العقاب ، وهذا هو منطق العدل أو هذه هي العدالة المطلقة.
ولتأكيد كانت على فكرة عدالة
العقاب بغض النظر عن نفعيته ضرب لنا المثال الشهير الذي أسماه "الجزيرة
المهجورة" L’île
abandonnée ، والذي يقول فيه لو فرض ووجدت جماعة إنسانية تعيش في جزيرة ثم
قررت هذه الجماعة أن تنفض وتترك هذه الجزيرة ، فإن واجب العدالة يقتضي أن تقوم الجماعة بتنفيذ أخر حكم إعدام صدر عن السلطة العليا فيها ،
رغم أن هذا التنفيذ عديم الجدوى بالنسبة للجماعة لأنها على وشك الانفضاض ولا يعود
عليها بأي نفع. وما التنفيذ في تلك الحالة إلا لإرضاء الشعور بالعدالة مجرداً عن
أي شعور أخر باعتباره فكرة ترتبط
بالنواميس الخلقية التي تشعر بها الجماعات.
وتلك الفكرة تتطابق أيضاً مع ما قال به الفيلسوف الألماني هيجل الذي
يرى أن الجريمة هي نفي للقانون وأن العقوبة هي نفي لهذا النفي ، وبالتالي فالعقوبة تأكيد للقانون.
وإذا كانت فكرة العدالة المطلقة
هي أساس الحق في العقاب لدى أنصار تلك المدرسة إلا أنهم حاولوا التوفيق بين تلك
الفكرة وفكرة نفعية العقوبة التي قال بها أنصار المدرسة التقليدية. وكان من نتيجة هذا المنهج التوفيقي أن قال أنصار المدرسة التقليدية
الجديدة "النيوكلاسيكية" أن العقوبة ينبغي ألا تجمع بين
العدالة والمنفعة الاجتماعية ، فهي – أي العقوبة – تهدف إلى
العدالة ولكن في حدود تحقيق المنفعة الاجتماعية. فالعدالة هي مصدر سلطة المجتمع في
العقاب والمنفعة هي المعيار الذي يتحدد به نطاق استعمال هذه السلطة. وعلى هذا فلا
ينبغي للعقوبة - كما يقول الفقيه الفرنسي
أورتولان[2] - أن تكون أكثر مما هو عادل ولا أكثر مما هو نافع أو ضروريPas plus qu’il n’est juste pas plus
qu’il n’est nécessaire.
4-
ب: حرية الاختيار النسبية أساس المسئولية الجنائية :
لقد تداركت المدرسة النيوكلاسيكية النقد
الذي وجه إلى المدرسة السابقة في أخذها بمبدأ المسئولية الجنائية القائمة على أساس حرية الاختيار ، منظوراً
إليها على أنها حرية ذات طابع مطلق ومتكافئ لدى
جميع الأفراد حال خروجهم على أحكام القانون. فالحرية
لدى أنصار الاتجاه الجديد حرية نسبية وغير متساوية. فأما أنها نسبية فلأن هذه
الحرية هي قدرة مقاومة الدوافع والميول المختلفة ، وهذه
القدرة مقيدة بما جبل عليه الإنسان من طباع وبما يعتمل
داخله من عوامل وراثية وتكوين فطري وما يحيط به من ظروف خارجية تتعلق بالبيئة
الاجتماعية التي يعيش فيها[3].
وأما أن هذه الحرية غير متساوية
عند الجميع ، فلأنها تتفاوت باختلاف الميول والنزعات من إنسان إلى أخر وفي الإنسان الواحد من وقت إلى أخر. وعلى هذا اعتمدت هذه المدرسة مبدأ المسئولية الجنائية
المتفاوتة أو غير المتكافئة ، حيث يراعى في تقدير المسئولية إلى جانب العوامل الموضوعية المتصلة بالواقعة الإجرامية ذاتها ، بعض الظروف
والعوامل الشخصية المتصلة بالمجرم ذاته.
وعلى هذا دعت هذه المدرسة لتبني مبدأ تفاوت العقوبات بين حدين أقصى وأدنى ، كي يكون
للقاضي الجنائي السلطة التقديرية بين الحدين حسب ظروف كل واقعة وحسب شخصية كل جان.
كما أولت هذه المدرسة عناية بدارسة التأثيرات النفسية والبيولوجية والاجتماعية
التي تؤثر في الجانب الشخصي للمسئولية الجنائية. كذلك
اهتمت بالعناصر الشخصية المشددة للعقاب كعنصر سبق الإصرار والتمايز في المسئولية
بين من يرتكب الجريمة والنفس هادئة وبين من يرتكبها في
حالة استفزاز. ومن هنا عرف مبد المسئولية الجنائية المخففة ، كما كان لهذه المدرسة
الفضل في انتشار أنظمة التخفيف العقابي التي من صورها نظام الأعذار القانونية
والظروف القضائية المخففة ووقف التنفيذ. وهي حلول اعتمدتها الكثير من التشريعات
منها قانون العقوبات الفرنسي في عام 1832 وقانون العقوبات
الألماني في عام 1889 وكذلك قوانين العقوبات المصرية المتعاقبة بدءً من عام
1883 ومروراً بعام 1904 وانتهاء بقانون العقوبات الحالي لعام 1937[4].
5-
ثانياً : تقدير السياسة العقابية النيوكلاسيكية :
لا ريب
أنه يعود لهذه المدرسة الفضل في توجيه الأنظار نحو الاهتمام بالجوانب الشخصية
للمسئولية وما يترتب على ذلك من وجوب تحقيق التناسب بين العقوبة ودرجة المسئولية
التي تقاس بصفة أساسية على أساس مقدار حرية الاختيار المتوافر حال ارتكاب الواقعة
الإجرامية ، مع مراعاة كل الجوانب الشخصية التي قد تؤثر في هذه
الحرية. فالمساواة الحسابية في حرية الاختيار أمر يتنافى مع
منطق هذه المدرسة ، وهو اتجاه ولا شك موفق.
بيد أن هذه المدرسة قد اعترى النقص بعض جوانبها
، ومن قبيل ذلك :
*- أن دعوة هذه المدرسة للتخفيف من قسوة العقوبات ووضع
العقوبات بين حد أدنى وحد أقصى أظهر فيما بعد مشكلات عقابية أخرى تتعلق بالعقوبات
قصيرة المدة ، التي انتشرت بفعل إعمال قواعد التخفيف أو ما نسميه بالظروف المخففة
للعقاب التي ظهر على يد تلك المدرسة. ومن
المعلوم أن لهذا النوع من العقوبات مثالبة ، حيث أن قصر فترة العقوبة لا
يتيح الفرصة لإصلاح
وتهذيب الجاني ، بل يمكن لهذه العقوبات أن
تساهم في انتقال عدوى الجريمة نتيجة اختلاط المجرمين المحكوم
عليهم بعقوبات قصيرة المدة بغيرهم من عتاة المجرمين
داخل المؤسسة العقابية.
*- أنه إذا كانت هذه المدرسة تجعل من حرية الاختيار
ودرجتها أساس المسئولية الجنائية ، فإن هذا الأمر يقتضي بدأه
إيجاد مقياس أو معيار واضح على أساسه يمكن قياس مقدار الحرية
المتوافر حال ارتكاب الواقعة الإجرامية ، وهي أمور من المتعذر قياسها
بأسلوب علمي دقيق.
*- على الرغم
من محاولة الاتجاه النيوكلاسيكي التوفيق بين فكرتي منفعة العقوبة وعدالتها بيد أنه
قد أغفل تماماً الاهتمام بفكرة الردع الخاص كهدف من أهداف
العقوبة ، بمعنى أنها قد أهملت جوانب الإصلاح والتهذيب المتعلقة بالجاني والتي
تحول بينه وبين معاودة ارتكاب الجريمة مرة أخرى.
[2] د. رءوف عبيد ، المرجع السابق ،
ص73 ، د. محمود نجيب حسني ، المرجع السابق ، ص67، د . يسر أنور علي و د. آمال عثمان ، المرجع السابق ،
ص317 د . أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ص343–344.
R.
Schmelck et G. Picca, op. cit., p. 51 et s.
Post a Comment