الحكم الرشيد من صفات الله (عز وجل) الحكم والحاكم. بمعنى هو القاضي يحكم الأشياء ويتقنها. وقيل حكيم ذو الحكمة أي معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم ، وبمعنى قادر عليه . حكمت بمعنى منعت : قيل الحاكم بين الناس ، لأنه يمنع الظالم عن الظلم . أصل الحكومة رد الرجل عن الظلم ، والحكم : هو القضاء وجمعه أحكام ، حكم : قضى ، والحاكم منفذ الحكم".
وحديثاً ، الحكم هو ما تفعله الدولة ، والحكم الرشيد هو ما يجب أن تفعله الدولة . وعلى الرغم من الإتفاق على مفهوم الحكم ، أي إدارة الدولة ، إلا أن مفهوم الحكم الرشيد أكثر تحدياً (Landman and Hausermann, 2003) . إذ أن هذا المفهوم بحاجة إلى تأصيله وقياسه والتحقق منه وتحديد أبعاده ومكوناته للوصول إلى مفهوم عملياتي له (Avellaneda, 2006) . فهناك العديد من الاجتهادات في تعريف الحكم الرشيد ، وذلك عائد إلى اختلاف أبعاد هذا المفهوم السياسية والاقتصادية والانسانية .
فقد عرف كاتو وأخرون (Kato et al., 2000) الحاكمية بأنها أسلوب ممارسة السلطة في إدارة موارد الدولة الإقتصادية والإجتماعية بهدف تحقيق التنمية . والدول ذات الحكم الرشيد تُمارس السلطة بموجب قوانين ، من الممكن توقعها من قبل العامة ، من خلال مؤسسات الدولة ومنظماتها الخاضعة للمحاسبة والمسألة ، بكل شفافية ، وبمشاركة الناس في عملية التنمية وإعداد السياسات . وبحسب تقرير التنمية الإنسانية العربية (Arab Human Development Report, 2002) فإن الحكم الرشيد موضوع إنساني و"هو الحكم الذي يعزز ويدعم ويصون رفاه الإنسان ويقوم على توسيع قدرات البشر وخياراتهم وفرصهم وحرّياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، ويسعى إلى تمثيل كافة فئات الشعب تمثيلاً كاملاً وتكون مسؤولة أمامه لضمان مصالح جميع أفراد الشعب" . بينما تعريف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) فهو سياسي ويشير إلى "ممارسة السلطة الاقتصادية والسياسية والإدارية لإدارة شؤون الدولة على كافة المستويات ، ويشمل الآليات والعمليات والمؤسسات التي من خلالها يعبّر المواطنون والمجموعات عن مصالحهم ويمارسون حقوقهم القانونية ويوفون بالتزاماتهم ويقبلون الوساطة لحل خلافاتهم" . وأما تعريف البنك الدولي (The World Bank, 1992) فهو إقتصادي يُعبر عن "التقاليد والمؤسسات التي من خلالها تتم ممارسة السلطة في الدول من أجل الصالح العام ، بما يشمل عملية اختيار القائمين على السلطة ورصدهم واستبدالهم وقدرة الحكومات على إدارة الموارد وتنفيذ السياسات السلمية بفاعلية وإحترام كل من المواطنين والدولة للمؤسسات التي تحكم التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية فيما بينها". وكذا منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية (OECD, 1995) التي تُعرف الحكم الرشيد بأنه "إستخدام السلطة والرقابة في المجتمع فيما يخص إدارة موارد الدولة بهدف تحقيق التنمية الإجتماعية والإقتصادية" (Weiss, 2000).
ومما لا شك فيه أن تباين تعاريف الحكم الرشيد يؤدي إلى إشكالية قياسه . فمن جهة ، تتضمن هذه التعاريف مفاهيم صعبة القياس ، مثل رفاه الإنسان وقدرات البشر والخيارات والفرص والحريات (كما في تعريف تقرير التنمية الإنسانية العربية) وآليات وعمليات التعبير عن مصالح الناس الوفاء بالإلتزامات (كما في تعريف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي) والتقاليد واختيار القائمين على السلطة (كما في تعريف البنك الدولي) واستخدام السلطة والرقابة (كما في تعريف منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية) . ومن جهة أُخرى ، تتكون هذه التعاريف من مصطلحات تمثل نتائج وليس مدخلات مثل مثل رفاه الإنسان (تقرير التنمية الإنسانية العربية) الوفاء بالإلتزامات (كما في تعريف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي) وقدرة الحكومات على إدارة الموارد (كما في تعريف البنك الدولي) تحقيق التنمية الإجتماعية والإقتصادية (كما في تعريف منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية) (Kemp et al. (2005) and Avellaneda (2006)).
وعلى أية حال ، فما يعنينا هنا هو دور المؤسسات في الآداء الإقتصادي الكلي . حيث يوضح نورث (North, 1990) على أهمية التمييز في التحليل بين قواعد اللعبة (المؤسسات) واللاعبين (الأفراد والمنظمات) وطريقة اللعب (الحاكمية). ذلك أن جذور مفهوم الحكم الرشيد تعود إلى المساهمات النظرية للإقتصاد المؤسسي (Institutional Economics) التي ظهرت من خلال أعمال نورث وثوماس (North and Thomas, 1973) ونورث (North, 1990) وأُوسلون (Oslon, 1982 and 1997) وغيرهم . والتحليل التقليدي للحكم الرشيد من وجهة نظر الإقتصاد المؤسسي مبني أساساً على التحليل النيوكلاسيكي (Neoclassic) لدور الدولة في التنمية الإقتصادية ، الذي يقرر ، بشكله النيوليبرالي (Neolibral) ، أن ما كل ما يجب على الدولة أن تفعله هو حماية حقوق الملكية والحد من الفساد وعدم مصادرة أملاك الغير والإلتزام بالديموقراطية وحماية مصالح الأغلبية . وهذا بالطبع مبني على إفتراض أن السوق يعمل بشكل كفؤ بما يؤدي إلى تحقيق التنمية الإقتصادية . وبالتالي فإن هذا النموذج الإقتصادي يفترض بأن التنمية الإقتصادية يُمكن تحقيقها من خلال الحد من الفساد وحماية حقوق الملكية والإلتزام بالديموقراطية وحماية مصالح الأغلبية (Khan, 2004). وقد تبع هذه النظريات العديد من الدراسات الإقتصادية التطبيقية بهدف إظهار العلاقة الموجبة بين تحسين مؤشرات الحكم الرشيد والآداء الإقتصادي ، مثل ناك وكيفر (Knack and Keefer, 1995) وماورو (Mauro, 1995)  وبارو (Barro, 1996) وكوفمان وأخرون (Kauffman et al., 1999, 2004, 2005, 2006 and 2010).
وأما الاتجاهات النظرية المفسرة لمواقف الدول النامية نحو مسألة الحكم الرشيد فقد تمثلت باتجاهين رئيسين . الإتجاه الأول ، وتُعبر عنه مدرسة التبعية، والذي يطرح مفاهيم التبعية الاقتصادية المولدة للتبعية السياسية ، والذي ينتهي بفكرة التبعية الفكرية التي تخدم المصالح الاقتصادية للرأسمالية العالمية من خلال تقديم خطاب أيديولوجي يتلاءم مع تلك المصالح . والإتجاه الثاني ، وتُعبر عنه نظرية التعلم (Learning Theory) والتي لا تستبعد إمكانية قدرة الدول النامية من إضفاء خصوصيتها على أية مفاهيم واردة إليها من الخارج في الفكر والممارسة ((توفيق ، 2005) و(Uddin and Choudhury, 2008)).
مما سبق يتضح بأن الحاكمية ذات أبعاد (Dimensions) مختلفة ، منها البعد السياسي الذي يتعلق وبطبيعة السلطة السياسية (Adetiba1 and Rahim, 2012) وشرعيتها وقدرتها على التمثيل الحقيقي (كريم ، 2004) وبالسياسة العامة على مستوى الدولة (شريف ، 2008) ، والإنسان (Parihar, 2012) وهو مجال إهتمام المنظمات الدولية ، مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ، وأحد شروط التعامل معها (Matheson, 2004) . والبعد الاقتصادي الذي يتعلق بالتنمية الاقتصادية والقضاء على الفساد (العبد ، 2004) ، ويرتبط هذا البعد ببعض المنظمات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي . والبعد الاداري الذي ينظر إلى الحاكمية (Corporate Governance) كأساس لإدارة الشركات (Daradkah and Ajlouni (2013); Ajlouni (2007)) . والبعد الاجتماعي الذي يهدف إلى توجيه الأهداف الجماعية وإنجازها والإصلاح المجتمعي (Riley, 2003) .

نظراً لإختلاف مفهوم الحكم الرشيد بين الجهات المختلفة تتباين معاييره باختلاف أهدافه . فتقرير التنمية الإنسانية العربية يركز على المعايير الإنسانية ، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي يركز على المعايير السياسية ، وفالبنك الدولي يركز على المعايير الاقتصاديه ، ومنظمة التعاون الإقتصادي والتنمية تركز على المعايير الإدارية . ونظراً لأن مصطلح الحكم الرشيد مرتبط بتطبيقات كوفمان وأخرون (Kauffmann et al. 2004, 2004 and, particularly, 2010) في البنك الدولي ، الذي حدد طرق قياس ستة معايير للحكم الرشيد على مستوى دول العالم (Worldwide Governance Index) ، وهي التي سوف تستخدمها هذه الدراسة في جانبها التطبيقي ، فسوف يقتصر ذكرنا على هذه المعايير الستة فقط ، والتي تُعتبر مباديء الحكم الرشيد ، وعلى النحو الآتي:
(1) المشاركة والمسألة (Voice and Accountability) : وتعني مشاركة جميع أفراد المجتمع في اتخاذ القرار وذلك من خلال قنوات مؤسسية تمكن المجتمع من التعبير عن رأيه في صنع القرار، والتي تضمن حرية الرأي والتعبير والمعايير الأساسية لحقوق الإنسان ، وأن يكون جميع المسئولين ومتّخذي القرار في الدولة خاضعين لمبدأ المحاسبة أمام الرأي العام ومؤسساته دون استثناء .
(2) الإستقرار السياسي وغياب العنف (Political Stability and Absence of Violence) : وتعني إستقرار النظام السياسي وقبول جميع أطراف الدولة به ، بما في ذلك المعارضين لسياسات الحكومة . كما يتضمن هذا المعيار حجم العنف المُعبر عن عدم الرضا السياسي من بعض الأطراف سواء من الموالين للحكومة أو المعارضين لها .
(3) فعالية الحكومة (Government Effectiveness) : أي فاعلية إدارة مؤسسات الدولة ، ومدى كفاءتها في توظيف الموارد الوطنية بطريقة سليمة وواضحة تخدم المجتمع ، وقدرة الدولة على العمل في خدمة الصالح العام ، وتتضمن إدارة الأموال العامة والقدرة على إدارة الموارد وتنفيذ السياسات بفاعلية .
(4) جودة التشريع (Regulatory Quality) :وتتضمن منظومة التشريعات القانونية التي تحدد من خلالها علاقة الدولة بالمجتمع ، وتضمن سلامة وحقوق الافراد مهما كانت ألوانهم وتوجهاتهم وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص ، وتطبيق القوانين المشرعة بما يضمن ارساء قواعد العدالة بين افراد المجتمع . وهذا يشمل وجود قوانين وأنظمة وتشريعات ولوائح متداولة ومتعارف عليها وشفافة .
(5) سلطة القانون (Rule of Law) : يعني أن الجميع ، حكّاماً ومسؤولين ومواطنين ، يخضعون للقانون ولا شيء يسمو عليه ، وهناك أطر قانونية وآليات النزاع القانوني وضمان حق التقاضي, واستقلال القضاء ، وأن تطبّق الأحكام والنصوص القانونية بصورة عادلة وبدون تمييز بين أفراد المجتمع في جميع مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، وأن تكون هذه القوانين متفقة مع معايير حقوق الإنسان وتكون ضمانة لها ولحريّات الإنسان . ويجب أن تكون كافة الأطراف واثقة من احترام هذه القواعد ومن تطبيقها .

(6) مراقبة الفساد ومحاربته (Control of Corruption) : وتعني عدم التردد في كشف حالات الفساد في الدولة وتحويلها للقضاء وكشف الفاسدين ومحاسبتهم .

إن تطبيق هذه المباديء سوف يؤدي إلى تحقيق العدالة والمساواة والمشاركة وحرية المسألة وحماية حقوق الملكية والحد من استغلال السلطة وزيادة الثقة في الاقتصاد القومي بما يُسهم في رفع معدلات النمو الإقتصادي وإدامة التنمية . وإستناداً إلى هذه الفرضية ، سوف تقوم هذه الدراسة بإختبار مدى تأثير تطبيق مباديء (معايير) الحكم الرشيد في الدول العربية على النمو الإقتصادي .

Post a Comment

Previous Post Next Post