(Sustainable Development)
التنمية الإقتصادية
تهدف إلى تحقيق العمالة الكاملة والإستقرار والعدالة في توزيع الدخل القومي .
ويحتل النمو في الناتج القومي الإجمالي (GNP) مركز القلب في التنمية
الإقتصادية ، لأن النمو يعني التشغيل والإستقرار . ولكنه ، مع ذلك لا يضمن عدالة
التوزيع . وهذه مسألة مهمة ، وخاصة في الدول النامية ومنها الدول العربية ، حيث
سوء توزيع الدخل سمة هذه الدول . ومن هنا ظهرت الأهمية لتعريف التنمية لتشمل ما هو
أشمل من النمو الإقتصادي الحالي ليتضمن العيش الكريم للجميع والقدرة على الإستمرار
الدائم والموثوق والعادل في المستقبل ، أي التنمية المُستدامة (Sustainable Development). وقد ظهر أول تعريف لها في تقرير المفوضية العالمية
للبيئة والتنمية (The World Commission on Environment
and Development (WCED, 1987)) ، المعروف باسم تقرير براندتلاند (Brundtland Report) بأنها تلك التنمية التي تُلبي الحاجات الحالية بدون
أن تنتقص من قدرة الأجيال اللاحقة على تلبية متطلباتها . وبالتالي فإن جوهر
التنمية المُستدامه وفقا لهذا التعريف هو تحقيق الإحتياجات الأساسية والإعتراف
بالآثار على البيئة والمساواة بين الأجيال . ويلاحظ التقرير بأن التنمية
المُستدامة عملية مستمرة للتغير حيث يكون إستغلال الموارد الطبيعية والإتجاهات
الإستثمارية والتنمية التقنية والتغيير المؤسسي منسجماً مع قُدرة الأجيال الحالية
واللاحقة على تحقيق إحتياجاتها . وبالتالي فالتنمية المُستدامة مرتبطة بالإرادة
السياسية (WCED, 1987, p.9) . وعربياً ، فقد كان من أبرز المحاولات لتعريف
التنمية المُستدامة ما جاء في تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2002 من أن "التنمية
المستدامة هي تنمية ديمقراطية تهدف إلى بناء نظام اجتماعي عادل ، وإلى رفع القدرات
البشرية عبر زيادة المشاركة الفاعلة والفعالة للمواطنين وعبر تمكين الفئات المهمشة
، وتوسيع خيارات المواطنين وإمكاناتهم المرتبطة ارتباطا محوريا بالقدرات والفرص المتاحة
التي تتضمن الحرية بمعناها الواسع ، واكتساب المعرفة وتمكين الإطار المؤسساتي
". حيث يُلاحظ في تعريف التقرير التركيز على الجانب السياسي . وعليه ،
فالتنمية المُستدامة ، كما الحاكمية الرشيده ، ذات أبعاد مختلفة (Ukaga et al., 2010) .
وفي الإجمال ، يُمكن
تحديد أربعة أهداف للتنمية المُستدامة ، هي (1) التنمية الإجتماعية التي تعترف بإحتياجات جميع أفراد المجتمع بالتساوي (Parihar, 2012) ، (2) الحماية الفعالة للبيئة والحفاظ عليها وحماية صحة وسلامة الإنسان من
الأضرار البيئية ،
(3) الإستخدام الحكيم
والكفؤ للمصادر الطبيعية بما يضمن إستمرارها بدون ضرر أو زوال أو تدمير ، (4) المحافظة على نمو إقتصادي عالي وتشغيل كامل مستمر ومستقر (Bartle and Vass, 2006).
وبالنظر إلى هذه الأهداف ، فإن قياس الاستدامة
يجب أن يرتكز على الترابط الهيكلي طويل الآمد بين الاقتصاد والطاقة والبيئية والمجتمع
. وبالتالي ، فإن مؤشرات الاستدامة يجب أن تشمل الجوانب الاقتصادية والإجتماعية
والبيئية والثقافية والحضارية والسياسية والصحية والتربوية والأمنية . ولعل من أهم
مؤشرات التنمية المستدامة ، نذكر (1) التمكين
السياسي لكافة أفراد المجتمع ، (2) الإندماج الإجتماعي بما يؤدي إلى
التعاون في تلبية رغبات الأفراد وتحقيق التفاعل الاجتماعي الضروري ، (3) العدالة في توزيع
الدخل والفرص والتعليم والصحة والخدمات ، (4) تلبية الإحتياجات الحالية دون التأثير سلبا في تلبية
الإحتياجات المستقبلية ، (5) الحق في الحياة بدون تهديد الأمان
الشخصي من الأمراض المعدية أو الكوارث البيئية أو القمع أو التهجير .
الحكم الرشيد هو الوسيلة لتحويل النمو الاقتصادي إلى تنمية
مستدامة . والحكم الرشيد ليس فقط شرطاً أساسياً للتنمية المُستدامة ،
وإنما هو أيضاً نتيجة مراحل تحقيق الإستدامة التي لا يمكن بلوغها من دونه . ولكن حتى تؤدي الحاكمية الرشيدة إلى التنمية المستدامة
، فيجب أن تمتاز بأربعة عناصر ومكونات أساسية ، هي (Kemp et al., 2005) (1) تكامل السياسات وتناسقها بين مختلف المؤسسات الحاكمة التشريعية
والتنفيذية والأمنية ، وتحسين التفاعلات بين المؤسسات الحكومية وغير الحكومية ،
وإيجاد خطة حكومية طويلة الآمد للإقتصاد والمجتمع ، وتوفر الإرادة السياسية لكل
ذلك ، (2) تحديد أهداف عامة طويلة الأجل
ومعايير للتخطيط متفق عليها ووقواعد محددة للتغيير والتبديل ومؤشرات مقبولة للحاجة
لإتخاذ إجراءات معينة والسير قُدماً نحو الإستدامة ، (3) توفير المعلومات
الضرورية لإتخاذ الإجراءات المناسبة والحوافز الملائمة للتنفيذ العملي ، (4) تعزيز برامج التطوير والإبداع في المؤسسات الرسمية والخاصة بما يؤدي
للإستخدام الأمثل والأكفأ والفعال للموارد والمصادر .
لقد نُشرت العديد من
الدراسات التطبيقية الحديثة التي أظهرت أهمية المؤسسات في النمو الإقتصادي (Sindzingre, 2003) . ومع ما يُطرح من شكوك حول طرق التحليل التطبيقي
التي إستندت إليها هذه الدراسات (Khan,
2004)
، فما زالت نظرية إقتصادات المؤسسة (Institution
Economics Theory)
قاصرة عن ربط السياسات والمؤسسات والتغيرات المؤسسية بالنمو الإقتصادي (Helpman
(2004), North (2005) and Avellaneda (2006)) .
فعلى سبيل المثال ، درس كاتو وأخرون (Kato et al., 2000) كيفية تشجيع
الحاكمية الرشيدة لتحقيق التنمية المُستدامة في كمبوديا ، وذلك بإختبار الحاكمية
الرشيدة من حيث المُسألة والشفافية وقابلية التوقع والمشاركة ، في كل من القطاع
العام والمجتمع المدني والإعلام ، في قطاعات إعادة هيكلة المالية العامة وإعادة
هيكلة الخدمة المدنية والقوات المسلحة واللامركزية وإعادة هيكلة النظام القضائي
والتكامل الإقليمي . وقد أشارت هذه الدراسة الوصفية إلى بعض المسائل الهامة في
الحاكمية التي تؤثر في التنمية في كمبوديا ، مثل ضُعف المسألة في القطاع العام
ومحدودية العلاقة والتفاعل المُمنتج بين القطاعات الحكومية وغير الحكومية ومركزية
الإدارة المالية العامة وضعف مشاركة الأقاليم فيها . وهذا كله سوف يؤدي إلى إيجاد
بيئة خصبة للفساد . حيث ناقش خان (Khan, 2004) مسألة الفساد والحاكمية في الدول
النامية ، وأشار إلى أن إختبارات النظرية الإقتصادية لهذين العاملين قد أظهرت
دعماً لبرامج إعادة هيكلة الأسواق بما يؤدي إلى تقليص دور الدولة لتقديم مجموعة
صغيرة من الخدمات التي لا يمكن تقديمها من القطاع الخاص . وقد إنتقد خان هذه
الإتجاهات من حيث فشلها في تحديد العوامل المُسببة للفساد ولفشل الحاكمية في الدول
النامية . وكذلك أكد كيمب وأخرون (Kemp et al., 2005) على أنه لا يمكن
الإفتراض بالحكمة االتلقائية للسوق أو أي آلية عمياء أُخرى . إذ يجب الوصول إلى ما
هو أبعد من قوى السوق لتأسيس حاكمية فعالة في تحقيق التنمية . ولعل تجربة بعض
الدول العربية التي تبنت برامج إعادة الهيكلة تُدلل بشكل واضح عن عجز قوى السوق
التلقائية في تحقيق التنمية ، لا بل أدت إلى ما هو عكسها من ظهور الفساد المالي
وتراجع دور الدولة في تحفيز النمو وضمور الديموقراطية الحقيقية وظهور وحشية
العلاقة بين رأس المال والسياسة ، وكل ذلك في ظل غياب الإهتمام بالإنسان ، بما أدى
إلى ظهور الربيع العربي . لأن السعي نحو التنمية المُستدامة ، حسب كيمب وأخرون ،
يجب أن يتضمن تأسيس هياكل للحاكمية والممارسات التي تؤكد وتقود وتُنسق الأعمال
الصالحة من خلال تهيئة عوامل جاذبة لشبكة من التفاعلات وعبر كافة المستويات
والأحجام .
ويبدو أن كثيراً من الدراسات السابقة ، كتلك المذكورة أعلاه ،
قد إعتمدت الأسلوب الوصفي لعدم وجود مقاييس معيارية للحاكمية يُمكن إستخدامها في
ذلك الوقت . وعليه ، فقد قام كوفمان وأخرون (Kaufmann et al., 2004) بوضع ستة معايير
للحاكمية تم تطبيقها على 199 دولة على أربع فترات هي 1996
و1998
و2000
و2002 . وقد تم وضع هذه المعايير بالإستناد إلى مئات المتغيرات عن
الحاكمية تم إشتقاقها من 25 مصدر معلومات في 18 منظمة دولية . وفي دراستهم التالية ، قام كوفمان وأخرون (Kaufmann et al.,
2005) بدراسة العلاقة بين معايير الحاكمية الرشيدة والنمو الإقتصادي ،
معبراً عنه بمعدل دخل الفرد ، في 209 دول للفترة 1996-2004 ووجدوا معدل إرتباط عالي بينهما ، حيث تتجه العلاقة السببية
من معايير الحاكمية إلى معدلات الدخل . كما إختبروا إحتمالية العلاقة السببية
العكسية ، أي من النمو الإقتصادي إلى معايير الحاكمية ، ووجدوا العلاقة ضعيفة ، أي
أن إرتفاع معايير الحاكمية الرشيدة في الدول الغنية ليس بسبب أنها غنية (Halo
Effects) ولكن لأنها
تُطبق مباديء الحاكمية الرشيدة . وفي دراستهم الأخيرة ، قام كوفمان وأخرون (Kaufmann et al., 2006) بنشر النسخة
المعدلة من معايير الحاكمية الرشيدة الستة ، وهي المعايير المذكورة في الجزء
السابق أعلاه ، وقاموا بتطبيقها على 213 دولة للفترة 1996- منتصف 2005 . ونظراً لأن هذه المعايير شكلت تطوراً جذرياً في تحديد
مقاييس للحاكمية ، وبالتالي إمكانية إستخدامها في تطبيقات الإقتصاد الرياضي ، فقد
تم إستخدامها في دراستنا هذه . وعلى الرغم من إعتراف جراي (Gray, 2007) بالتطور
والتحسين الذي جرى على معايير الحاكمية ، إلا أنه أكد بأن هناك العديد من الشواهد
التطبيقية والنظرية التي
تُشكل تحدياً لهذه المعايير . وقد
إستعرض جراي الدراسات التطبيقية للعلاقة بين الحاكمية والنمو ووجد بأن الحاكمية قد
كانت المحور الرئيسي للعديد من برامج إعادة الهيكلة في الكثير من الدول . وبالتالي
، فقد سيطرت هذه النظرة على الدراسات والسياسات التي إعتبرتها الوسيلة لتحفيز النمو
والحد من الفقر .
ولكن خان (Khan, 2004 and 2006) أكد بأن برامج الحاكمية الرشيدة قد
فشلت في تحديد المكامن الأساسية في الحاكمية لتسريع وتيرة النمو في الدول النامية
. فالمؤسسات المُشار لها في الحاكمية الرشيدة هي المعنية بتحسين كفاءة السوق ، من
خلال تخفيض تكلفة العمليات والحصول على حقوق الملكية وتوثيق العقود وتنفيذها والكفاءة
البيروقراطية . ذلك لأن
للبيروقراطية الكفؤة تأثير إيجابي بالنمو الإقتصادي (Lovett, 2011) . ولكن الدول النامية ، ومن بينها
الدول العربية ، حتى ذات النمو السريع ، ليس لديها مؤسسات قوية لتُحسن الأسواق .
ونظراً لهذا الإختلاف الهيكلي بين الدول فلا بد من البحث عن معايير مختلفة
تتوائم مع هياكل الدول النامية (Gray and Khan, 2008).
مثل هذه النتائج توصل إليها جانغ (Chang, 2007)
الذي أكد بالفشل العالمي لبرامج إعادة الهيكلة التي روج لها صندوق النقد الدولي
والبنك الدولي والعديد من الحكومات الغربية منذ الثمانينات . وذلك لأن هذه البرامج
قد إتبعت نفس الوصفة لكل الدول مُغفلة عن قصد الإختلافات المؤسسية بينها . ولقد
إعترف العديد من الإقتصاديين ، وحتى المتشددين منهم ، بأن السياسات الإقتصادية
المشتقة من الدول المتقدمة قد لا تُجدي نفعاً في الدول النامية . كما أن الأزمات المالية
الكبيرة والمدمرة التي شهدتها العديد من الدول النامية ، مثل أزمة المكسيك 1995 وأزمة النمور الأسيوية 1997 وأزمة الروبل الروسي 1998 وأزمة البرازيل 1999 والأرجنتين 2002 والأزمة المالية العالمية 2008 ، قد ساهمت في زيادة الإهتمام
بالمؤسسات المالية وحاكمية الشركات حتى في الدول المتقدمة ، مما يعني أن المؤسسات
في هذه الدول ليست القدوة لتلك المؤسسات في الدول النامية ، وهي بحاجة لمؤسسات
نابعة من بيئتها المحلية (Ahrens, 2009) ومتوافقة مع
ثقافتها الوطنية . وحتى وصفات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لمؤسسات معيارية
في الدول النامية المضطرة للإقتراض لم نجد لها وجوداً بعد إنتهاء المرحلة
الإنتقالية في هذه الدول ، وذلك لأن هيكل هذه المؤسسات المفروض من مؤسسات الإقراض
الدولية غير مُتسق مع هيكل المؤسسات المحلية
النابع من البيئة الإجتماعية لكل دولة . وعلى العكس مما أُريد لها ، فقد
ساهمت هذه المؤسسات الطارئة في إنتشار الفساد في الدول النامية ، وذلك نظراً لما
لديها من أموال سهلة ورخيصة ، فقد أصبحت مطمعاً للمتنفذين . وهذا بدوره أدى إلى
تراجع النمو . وقد حلل أوجور وداسجوبتا (Ugur and
Dasgupta, 2011) الشواهد على العلاقة بين الفساد
والنمو الإقتصادي في 72 دراسة تطبيقية
ووجدوا بأن للفساد تأثير سلبي على نمو دخل الفرد في الدول الفقيرة ، وأن الفساد
عامل تأخير في الدول متوسطة الدخل ، حيث يظهر تأثيره غير المباشر بشكل أكبر من
تأثيره المباشر .
وهنا تأتي أهمية التشريعات المالية والإقتصادية في تحقيق
الحاكمية الرشيدة . فقد لاحظ بارتل و فاز (Bartle and Vass, 2006) بأن
إستراتيجية الحكومة البريطانية للتنمية المُستدامة المنشورة عام 2005 المعنونة ضمان المستقبل (Securing the Future) تخلو من أي
دور للتشريع الإقتصادي ليس فقط في الإستجابة لمتطلبات الإستراتيجية وإنما أيضاً
المساهمة بتحقيق أهدافها . ولكن لكي يتم تحقيق التنمية المُستدامة فلا بد من تعزيز
الحاكمية الرشيدة من خلال التأكيد على قدرة التشريعات الإقتصادية على تحقيق أفضل
عوائد ممكنة للتنمية ، والإنخراط التام في مناقشة مسائل التنمية المُستدامة ،
وإيجاد البدائل الملائمة للإجراءات المتباينة والمتضادة بين مختلف الجهات المعنية
بتنفيذ الإستراتيجية ، وحماية القُدرة الإستهلاكية للمُستهلكين .
Post a Comment