الحفاظ على اللغة العربية
العنصر الذي اسهم بنصيب ملحوظ في الإبقاء على اللغة العربية هو مرونتها التي لا تبارى، فالألماني المعاصر مثلا لا يستطيع فهم كلمة واحدة من اللهجة التي كان يتحدث بها أجداده من ألف عام، بينما العرب المحدثون يستطيعون فهم لغتهم التي كتبت بالجاهلية قبل الإسلام.   ولولا تطور اللغة العربية الدئب لما استطاعت الأجيال الجديدة أن تعي لغة أجدادهم،  والمرونة التي تنطوي عليها الضاد لم تنشأ جزافا  وإنما هي نتيجة حتمية لطبيعة اللغة العربية، حيث أن ما تتميز به من موسيقية واضحة  وقابلية للتزاوج مع اللغات الأجنبية جعل منها لغة حية مرنة متطورة.  (11)
 وفي عصرنا الحديث نجد أن الغيورين على اللغة العربية لم يقدموا لرجال العلوم  والتكنولوجيا من المصطلحات العلمية ما يشبع رغبتهم بشكل يتناسب مع معدل ما تقدمه الاكتشافات العلمية  وما تأتي به الاختراعات  وما تتناقله وسائل الإعلام  وسبل  الاتصال  والكمبيوتر  والإنترنت من منتجات التطور العصري السريع في عالم التكنولوجيا .       
فأعمال هؤلاء الغيورين لا تزال متخلفة عن ركب التقدم العلمي  والتكنولوجي في جميع الميادين  ولا بد من إعادة النظر في  وسائل العمل من أجل الوصول إلى مسايرة سرعة الاختراعات  والتقدم المدهش الذي يشهده العالم اليوم .
وعلينا أن نستفيد من تجارب الأمم الأخرى في الحفاظ على لغاتها القديمة حيث نجد أن اليابان قد عنيت منذ بداية نهضتها العلمية  والتكنولوجية بالتكوين الأساسي لمبادئ العلوم ثم تدرجت صاعدة من خلال لغتها القومية التي أكسبتها الامتلاك  الحقيقي للقاعدة التكنولوجية بالرغم من الصعوبة الأسطورية التي تواجه الفرد في ممارسة تلك اللغة، حيث إن حروفها يبلغ  عددها عشرة آلاف حرف، في حين نجد أن حروف اللغة الصينية أكثر من اليابانية فهي تحتوي على 44444 حرفاً  وبالرغم  من ذلك فقد ابتكرت بما   يشبه الإعجاز (الآلة الكاتبة) التي تستطيع أن تستوعب تلك الحروف، كما استطاعت أن توحد اللغة الصينية التي كانت تتجزأ إلى 300 لغة ثم استطاعت أن تلغي من قاموسها ( اللغة الإنجليزية) في مختلف أنواع العلوم  والتكنولوجيا. 
حتى اليهود استطاعوا أن يعيدوا إحياء اللغة العبرية بالرغم من تعدد الألسنة  واللهجات  وأن يجعلوها اللغة الأولى للتعلم في مختلف الكليات العلمية  والنظرية على السواء فالطب  والهندسة  والعلوم تدرس بالعبرية بالرغم من إنها لغة ميتة .
       وفي هذه المناسبة فإنه لا بد من إيراد ما ذكره الدكتور محيي الدين صابر المدير العام لليونسك والعربي :
  أن التعريب ليست قضية لغة، بل هي قضية حضارية أساسية تواجهنا حالياً، اللغة ليست ألفاظاً بل فكراً  وبالتالي لا بد من تطوير المجتمع العربي،  واستيعاب حضارة العصر  وذلك لا يتم إلا عن طريق اللغة كوسيلة  وأداة فاليابان مثلاً أوجدت شخصيتها عبر لغتها الخاصة  وقد أضحت اللغة اليابانية لغة تكنولوجية حديثة أي لغة لها عمق تاريخي   وتراث ضخم من حقها  أن تكون مثل اللغات الأخرى .
أما اللغة العربية فهي لغة القرآن الكريم،  ولغة الإرث الحضاري الشامل كما أنها كانت اللغة العالمية لعدة قرون في الحضارة  والمعرفة  والعلوم  والتجارة. 
 ولا بد من العمل الجاد  والسريع في إعادة الاعتبار إلى لغتنا العربية لتصبح لغة الحضارة  والعلوم من جديد. (12)       
  بالإضافة إلى ما تقدم فإن اللغة تعتبر عاملاً رئيسياً في وحدة الأمة حيث يتفق أفراد المجتمع  الواحد على النظر إليها كمعبر نفسي عن تضامنهم  وتماسكهم والتفافهم حول تلك الوحدة كما تشكل اللغة العلامة الفارقة لخصائص الأمة بين الأمم  الأخرى فهي حاملة التراث الحضاري  والثقافي للجماعات البشرية .
  ويقول بلنتشلي :
( متى استبدل المرء لغة جديدة بلغته خسر قوميته ) .
 إن انفصال أمة واحدة إلى عدة شعوب بالرغم من كونها تتكلم لغة واحدة لا يعتبر دليلاً على عدم تأثير اللغة في قيام الأمم لان الانفصال يعود إلى أسباب شتى منها السياسية  والاقتصادية   والجغرافية الخ  ومع ذلك تظل اللغة عنصر جذب  وتوحيد يتطلع إليها أفراد الأمة الواحدة  وهذا هو حال اللغة العربية اليوم. (13)          
أما لغة القانون فهي تشبه لغة الرياضيات حيث نجد أن لغة القانون تبتعد عن اللغة الشائعة التي تكثر فيها المزالق  والزلات  والتعميم  ومن هنا يمكن القول بأن أهم ما يميز لغة القانون هو( الموضوعية ) أي تجريد الكلام من كل المزالق العاطفية  والذاتية  والخيالية بحيث تكون التسمية ملتصقة بالمسمى كما هو دون زيادة أو نقصان بحيث يدل كل من الحرف  والكلمة  والعبارة  والقاعدة على أمور محددة تحديداً صارماً .
 فالصياغة القانونية تتجه إلى التخصيص الصارم  والدقيق لمعاني الحروف  والكلمات  والعبارات  والقواعد ودلالاتها، فليس من تسميات عدة لمسمى واحد كما في اللغة الأدبية مثلاً بل ثمة اسم واحد يلتصق بمسمى واحد على الدوام. (14)        
  وقد عرفت اللغة العربية المصطلح القانوني منذ القدم  والشريعة الإسلامية خير مثال على ذلك فقد دقق الفقهاء  وعبروا عن  المفاهيم الشرعية  وظهرت الموسوعات الفقهية العديدة التي أمتد تأثيرها إلى جميع أنحاء العالم القديم مع امتداد  وتأثير فروع الحضارة الإسلامية الأخرى التي شكلت قاعدة الحضارة الحديثة. 
   كما أن العالم العربي في عصرنا الحالي عرف عدداً من صفوة الحقوقيين الذين قاموا بجهود كبيرة في ترجمة القوانين الغربية  الحديثة  إلى اللغة العربية. 
 ويلاحظ أن المصطلح القانوني طرأت عليه تغييرات في اللغات الأخرى  ولا سيما في اللغة الإنجليزية فازداد دقة في التعبير وتلوناً في المعنى  واصبح من المحتم أن تجاري اللغة العربية هذا التطور فقد ظهرت مفاهيم جديدة في ميدان القانون الدولي  حيث أحدثت الأمم المتحدة شعبة لتطويره  وتدوينه  ولجنة دولية لدراسته  وبحثه  وقد كثرت الاتفاقات الدولية كما أن القانون التجاري الدولي قد أصبحت له لجنة خاصة به في الأمم المتحدة هي لجنة القانون التجاري الدولي  وقد تشعبت مواضيعه،  ومنها التحويل الإلكتروني للأموال  والسندات الاذنية القابلة للتداول  والبطاقات البنكية الخ. وفي حقل القانون الجنائي ظهرت اصطلاحات جديدة في حقل الكشف العلمي عن الجريمة  والمختبر الجنائي إلا أن غياب المصطلح  القانوني العربي يلقي عبئاً كبيراً على المترجم العربي الذي يريد أن ينقل المصطلح القانوني الأجنبي إلى اللغة العربية بالإضافة إلى مشكلة عدم توحيد المصطلح القانوني الموجود في العالم العربي.
   ولا بد من مواجهة هذا التحدي  وبالسرعة الكافية لمجاراة المستجدات في هذا المجال  وإلا سينعكس ذلك سلباً على اللغة العربية حين لا يجد المترجم المصطلح العربي المناسب للمصطلح القانوني الأجنبي. (15)

Post a Comment

Previous Post Next Post